يبدو أن الأعوام الخمسة عشر التي أعقبت سقوط نظام البعث وسلطته في العراق بفعل الاحتلال الأمريكي، كانت كافية لأن يصل سكان مدينة البصرة العراقي إلى درجة الانفجار والتعبير الساخط عن رفضهم لكل الممارسات والسياسات التي أتبعتها السلطات الحاكمة في العراق في هذه المدينة والتي لم تنتج سوى الفقر والبطالة والإهمال وتحول المدينة إلى مكب نفايات ضخم جداً.
الاحتجاجات والتظاهرات الغاضبة التي عمت مناطق مدينة البصرة، وخصوصاً تلك القريبة من حقول النفط العملاقة، كانت التعبير الأصدق عن حال سكان المدينة وأحوالهم، بعد أن عصف الفقر والبطالة بهم وحولهم إلى بشر يعيشون على هامش الحياة التي تسيرها قوى سياسية ودينية وعشائرية لم تتوقف فضائح فسادها ومزايداتها على حساب سكان المدينة وأهلها لحظة واحدة، ويعيشون على تخوم آبار النفط الذي تستغله شركات أجنبية، وبعمالة أجنبية تثير لدى الآلاف من الشباب المُعطل عن العمل ألف سؤال عن بطالتهم وفقرهم وعن فائدة النفط الذي جُرفت أراضيهم ودمرت مزارع النخيل من أجل أن تتمكن الشركات من استغلال الأرض واستخراج النفط،
البصرة خزان الفقر والبطالة الذي يطفو على بحيرات النفط العملاقة، وكلما تزايد استخراج النفط تزايد فقر سكان البصرة، واحتل الآلاف من الشباب المُعطل عن العمل مواقعهم على أرصفة البطالة واليأس، وازدادت سطوة القوى السياسية والميليشيات المسلحة والمؤسسات الدينية التي تمارس دورها في تبرير الفقر والدفاع عن السلطة وسياساتها. وكلما ازداد انتاج النفط ارتفع منسوب الملوحة في مياه البصرة وتحول الحصول على ماء صالح للاستخدام البشري، حلماً عصي المنال، أسوة بغياب الكهرباء في صيف البصرة اللاهب..
لقد آن الأوان لهذا الخزان الذي يغلي منذ سنوت، أن يتفجر بشكل يخيف السلطة وقواها وشركات النفط، وشبكات الدفاع عن السياسات الأمريكية في العراق ودعاة الخصخصة والنيوليبرالية، ويصيبها بالاضطراب مما يحدث، فلم يعد لدى سكان البصرة وشبابها المُعطل عن العمل شيئاً يخسرونه سوى فقرهم وبطالتهم التي أوصلتهم إلى حافة اليأس.
الاحتجاجات التي تتواصل في مدينة البصرة منذ عدة أيام كشفت الكثير من الوقائع وأولها أن ما يعانيه سكان البصرة من يأس واهمال متعمد وفقر وبطالة لا يمكن وصفه، وأن الوعود التي اطلقتها اللجنة الوزارية التي تزور البصرة، كشفت عن حجم الاهمال المريع الذي مارسته السلطات الحاكمة بحق هذه المدينة وسكانها وأن كل ما يقدم لن يكون محل ثقة، خصوصا وأن القوى التي تحكم البصرة اعتادت على تقاسم المنافع وصفقاتالفساد والوظائف العامة وفرص العمل وتقسيمها على أتباعها.
منذ انطلاق الاحتجاجات، سعت قوى كثيرة لتشويهها وتشويه حراك الشباب المُعطل عن العمل وتقديم صورة مريعة عنه، تخريب وسرقات، وقطع طرق، وعصابات مسلحة، والتأثير على صادرات النفط، وسمعة العراق، وخوف الشركات النفطية، ودور المخابرات الاجنبية في تأجيج الاحتجاجات، السعودية والإمارات وإيران وأمريكا وإسرائيل...الخ، فيما سارع الكثير لاستخدام الورقة والقلم وحساب عدد براميل النفط المنتج والخسائر التي سيتعرض لها الاقتصاد العراقي جراء الاحتجاجات وتأثيرها على عمل الشركات النفطية في حقول البصرة!
ما أن اقترب الشباب المُعطل عن العمل من أسوار حقول النفط، حتى هب الجميع لتجريمهم وإطلاق الدعوات لمواجهة جرأتهم الوقحة، وإن تطلب ذلك استخدام القوة المسلحة وسحقهم وتدميرهم، وكأنهم تجاوزوا الخطوط الحمراء التي أعتادت السلطات الحاكمة في العراق على رسمها دائماً. كيف لهذا الكائن البائس أن يقول أن ما يحدث هو سرقة لثروات البلاد وإفقار لأهلها الذين يعيشون في فقر وبطالة وبيوت صفيح وعشوائيات؟؟
لا شيء يعيد الحقوق ويوقف ممارسات السلطات الحاكمة ضد سكان البصرة والعراق عموماً سوى الاحتجاج وتنظيم التظاهرات وكسر الخطوط الحمراء التي أريد لها أن تحكم حياة الناس وتبقيها بعيدة عن دسائس الساسة ومزايداتهم.. الاحتجاج تعبير عن الإرادة ودفاع عن كرامة الإنسان ووجوده.