جدليّات كأس العالم: ملف خاص
[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدودالدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة وستنشر النصوص تباعاً في هذه الزاوية.]
وجدان بوعبدالله :في روسيا، سواعد يهتز فوقها العلم
يحدث أن يتفوق أداء جماهير كرة القدم على أداء منتخباتها، جماهير تنجح دون تسلل في التسجيل في مرمى الذاكرة الجماعية لبقية الأمم، جماهير تبلل قمصانها داخل الملاعب وخارجها للتعريف ببلادها، جماهير لا يحركها مدرب ولا تملك خطة تكتيكية لكنها لا تتردد في إنفاق وقتها ومالها لتروج لصورة حسنة لوطنها، جماهير تختنق بالعبرات حين يخذلها منتخبها لكنها تواصل رغم ذلك رفع راية بلادها في "بلاد الناس".
شيء غريب ومفاجئ حدث مع مشجعي منتخب تونس، فلقد تأهلت الجماهير في حين أُقصي منتخبها الذي قدّم أداءً باهتًا رغم الإمكانيات المادية الضخمة التي وفرتها له الدولة، بعد أن أهدت المواطنين برامج تقشف تكسر الظهور.
"الجماهير التونسية في روسيا طبعت في الأذهان، أكثر من منتخبها" هكذا وصفت وكالة سبوتينك الروسية المشجعين التونسيين في أعقاب خروج تونس من سباق المونديال منذ الدور الأول.
الحقيقة أن صيت تونس التي صنعت ثورة الياسمين قبل سبع سنوات منذرة بتحولات هزت المنطقة العربية برمتها، كان يراوح بين العلو والنزول، فمن صناعة ديمقراطية فريدة في العالم العربي، إلى سمعة سيئة بسبب عدد الدواعش التونسيين تتفنن وسائل الإعلام في تقديمها قبل الحديث عن الإنجازات في الديمقراطية والحريات الفردية والعامة.
هذا الصيت لم يكن يحتاج إلى خطب عصماء لنفض الغبار عن صورة تونس، ولا إلى فوز يتيم أمام منتخب متواضع مثل منتخب بنما، بل كان يحتاج إلى سواعد "يهتز فوقها العلم" (كما يقول النشيد الوطني التونسي) وهذا ما قامت به الجماهير التونسية في روسيا دون علم سياسييها المتناحرين على السلطة ودون إدراك لاعبي المنتخب الذين فاتهم أن تونس أكبر من المنتخب.
على مدى أيام، حوّل المشجعون التونسيون نساء ورجالًا وأطفالًا ساحات المدن الروسية إلى ساحات حمراء، حيث وشّحوا أهم معالمها بالعلم التونسي، ولم يترددوا في وضع الشاشية التونسية (قبعة تقليدية تونسية من الصوف لونها أحمر قاني) على رؤوس تماثيل لينين وبوشكين في موسكو وفولغوغراد وسارانسك.
لم تدْرُس هذه الجماهير التسويق السياحي ولم تتلق أي أموال من وزارة السياحة لكنها روجت من تلقاء نفسها للسياحة في تونس، فكانت أنجع بكثير من حملات الوزارة نفسها التي كانت شبه غائبة في حدث هام مثل المونديال.
"الجماهير التونسية اللطيفة والصاخبة بالرقص والأهازيج" مثلما وصفتها الصحافة الروسية تفننت في التعريف بتونس، شباب لم يكتف بتوزيع أطباق "الكسكسي" والهدايا التذكارية على المواطنين الروس والمشجعين الأجانب (منتجات تقليدية تونسية وبطاقات بريدية وأقمصة تحمل اسم تونس) بل أبدع في نشر التراث الصوفي التونسي تحت سماء روسيا، مترجمًا دون عناء جنوح التونسيين الوجداني المتجذر نحو الطرق الصوفية.
تحت تلك السماوات البعيدة صدحت حناجر الشباب التونسيين بأناشيد "بابا جلول" نسبة إلى الولي الصالح عبد القادر الجيلاني، و"سيدي منصور" نسبة إلى الولي الشيخ سيدي منصور الذي عاش في صفاقس جنوب تونس قبل نصف قرن.
أناشيد الزهد والسلام الروحي يصاحبها قرع البنادير (البندير آلة موسيقية إيقاعية تشبه الدف لكنها أكبر مستعملة في المغرب العربي في الغناء الصوفي والأمداح)، كانت تتقاطع مع إيقاع موسيقى "السطمبالي" التونسية التي تحاكي في الأصل قرقعة سلاسل العبودية التي كانت تقيّد السود والأحباش القادمين من جنوب شرق إفريقيا إلى أسواق النخاسة في تونس قبل منع تجارة الرّق واستعباد الناس، صنعت مشهدًا ملحميًا يكاد يكون سُرياليًا.
تلك التقاطعات الموسيقية لم تكن استدراجًا لتاريخ تونس المتعدد إلى بلاد تولستوي فحسب، بل كانت ترياقًا نجح في إطفاء نيران الشعور بالهزيمة الثقيلة، ليعلو شعور الفرح على الشعور بالخذلان، كمن يتحرر وللأبد من سلاسل المهانة والنكد.
الكرم حتى في الغناء والرقص، ونفض التراث الموسيقي والافتخار به، ترجما قدرة العطاء غير المشروط للغرباء وعابري السبيل على محو آثار الهزيمة.
على المشجعين التونسيين العائدين من روسيا أن يقدموا لبقية التونسيين وصفة "كيف تبقي على دفء فرحك"؟ وأن يقدموا لسياسيي البلاد وصفة "كيف تخدم بلادك دون حسابات حزبية أو شخصية".
أما المشجعون التونسيون الذين نظفوا (رغم الهزيمة) مدارج الملعب قبل مغادرته، فَكنت أتمنى أن أضمهم واحدًا واحدًا. كم وددت أن أستنسخهم ليكون في كل مدينة وقرية في تونس أمثال لهم.
هل صدرنا إلى روسيا أفضل ما عندنا، أم أننا في روسيا رأينا أفضل ما عندنا؟ شعب خلوق، مرح، كريم، خدوم، نظيف، أتمنى أن ألتقي به كل يوم.