جدليّات كأس العالم: ملف خاص
[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدودالدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة وستنشر النصوص تباعاً في هذه الزاوية.]
محمد آيت حنّا: ضربة الفيفر بيتش... ولا نحنُ نفهمُها يا دُنى
تساءلتِ الصديقة دُنى غالي في أوّل حلقات هذه السلسة عن أصول الكليشيهات التي ترى النّساء غير قادراتٍ على فهم كرّة القدم. ومقالُها الجميل، يجيب بلا شكّ عن أمور كثيرة بهذا الصّدد، لكنّي أودّ أن أنظر من زاوية أخرى: زاوية أننا –نحن الرّجال- أيضاً لا نفهم أموراً كثيرةً بالنّسبة إلى كرة القدم، أشياء كثيرة تبدو أقرب إلى منطقة اللغز.
في فيلم "فيفر بيتش fever pitch" يقول البطل، بعد علاقة حبّ دامت أشهراً، لحبيبته إنّه سيضطر للغياب مدّة يسافر خلالها إلى منطقة أخرى، حيث يقيم فريق الرّيد سوكس (الفريق الذي يشجّعه منذ طفولته ولم يفوّت له مباراةً من قبل) معسكره الإعدادي قبل بداية كلّ موسم؛ جدول أعماله مسطّرٌ سلفاً، يبدأ بوضع جدولة لمباريات الموسم كلّها، وتوزيع بطاقات الحضور على أصدقائه، وينتهي بالمعسكر الذي يعتبر أهمَّ لحظةٍ في الموسم بأكمله لأنّه يحدّد مسبقاً ملامح الشّكل الذي سيسير عليه الفريق طيلة الموسم. صديقته التي تعمل بمجال البزنس والموعودة بمستقبل يرتقي سريعاً درجات المجد الوظيفي، تسأله سؤالاً منطقياً: تذهب هناك مع أصدقائك لكي تقرّروا مع الفريق خطّة العمل والتشكيل؟
- لا!
- لا تقرّرون، لكن على الأقل تبدون رأيكم؟
- لا!
- لا يستشيرونكم؟
- لا!
- يتواصلون معكم على الأقلّ!
- لا، ولا يعرفون أسماءَنا حتّى!
لمَ إذن كلّ هذا العناء؟ لمَ الإصرار على قطع مسافاتٍ مكانية وزمانية لأجل فريق، مسيّروه ولاعبوه لم يسمعوا عنّا أصلاً؟
يميلُ المحلّلون -السّاعون اليوم إلى البحث عن أسبابَ لكلّ شيءٍ، وتكميمه وحسابِه عددياً- إلى الحديث عن أشياء من قبيل الأدرينالين والسعادة الكيميائية وأشياء كثيرة غريبة؛ وهي تفسيراتٌ، وأين وضّحت بعض جوانب اللّغز- لا يمكنها أبداً أن تفسّر سرّ الرّابط الذي يجمعنا إلى فريقٍ بعينه، خصوصاً حين يكون فريقاً يعتبر من الخاسرين (مع التحفّظ على هذه الكلمة، فلا مشجّع فعليّ يعتبر فريقه من الخاسرين).
كيف اخترنا الفريق فصار بمثابةٍ قدرٍ لا يمكن أن نتجاوزه؟ وهل اخترناه أصلاً؟ لربّما كان التّفسير (الذي نجد له كذلك أثراً في الفلم) هو: القصّة. لا نختار بالعادة فرقنا عشوائياً، كما لا نختارها بعناية، وإنّما الاختيار/ القدر يرتبط غالباً بقصّة؛ يحتاج الإنسان دوماً إلى أن يتوطّن/ إلى أرض يضع عليها قدميه، وحين يتعلّق الأمر بما مضى، فلا أرض فعلية له سوى ذكرياته، سوى قصصه، لهذا غالباً ما يميل إلى أن يرتبط بالقصص. ووراء كلّ تعلّق بفريق قصّة: بطل الفيلم ارتبط تعلّقه بالفريق بعمّه الذي كان يحبّه، والذي توفيَ بالسّرطان بعدما أورثه حبَّ الريد سوكس واشتراك تذاكر دخول مدى الحياة؛ وأنا ارتبط تشجيعي للمنتخب الألماني، ومن بعده فريق بايرن ميونيخ، بمونديال 1990 ومشاهدتي للوثر ماتيوس.
ربما تكون تلك القصص، تلك الأرض نعود إلى التوطّن فيها بلا توقّف، العزاءات الوحيدة التي تجعلنا نصرّ على الاستمرار في تشجيع فريق لم يعد عملياً يقدّم أيّ شيء! لقد حدث أمرٌ ما، شيءٌ جميلُ وعظيمٌ، ذات يومٍ، وسنظلّ نستعيدهُ إلى الأبد بغضّ النّظر عمّا يحدث الآن، فالفريق سيلعب الموسم القادم، ولا شيء يمنع تكرار تلك القصّة الجميلة التي عرفناها ذات زمنٍ، هذا الموسم سيء، لكن الموسم القادم قد يكون موسمَ إعادة كتابة القصّة.
لا أريد أن أنهيَ الكلام دون أن أشير إلى الجانب الآخر، الجانب السلبيّ: تلك الذكرى التي لا نتوقّف عن التوطّن فيها، قد تكون هي السبب في انهيار الأرض التي نعيش فوقها هنا والآن: أعرف حالات كثيرة تسبب لها الارتباط بفريق معيّن في فسخ علاقات مع أناسٍ ربّما كانوا ليشكّلوا لهم أكثر بكثير من مجرّد fever pitch.
حين عُرض الفيلم في القاعات السينمائية الفرنسية، اختار له الموزّعون عنواناً طريفاً "بطاقة صفراء"، أعتقد أنّ العنوان يعنينا بشكلٍ مباشر، نحنُ مجنونِي اللعبة، نحن في وضعية البطاقة الصفراء، بشكلٍ دائمٍ، غير مستقرّين ومهدّدين في كلّ لحظة بالبطاقة الحمراء، لا نريد التفريط في هذه الأرض ولا في تلك!