مضت أربع سنوات على إزالة داعش لأول شاهد أثرى من مدينة الموصل في 17 حزيران 2014 وهو ضريح المؤرخ الموصلي ابن الاثير عز الدين أبي الحسن الجزري الموصلي (1160-1233)، أتذكر انني وقفت كثيرا امام ضريحه الذي مسح تماما من الأرض، كنت اسأل هل كانت الدولة الإسلامية (تعرف أيضا بداعش) حقا تريد تدمير الضريح فقط لأنه وفقا لعقيدتهم يعتبر ضريحا شركيا أم أن هناك امر أكبر وأبعد من مجرد تدمير الشاهد؟ أدركت حينها نعم الموضوع لا يتعلق بالشاهد بل بالرواية التاريخية التي تريد داعش تقديمها كبديل عن روايتنا المعروفة، وكان هذا واحدا من الدوافع الأولى لاقتناعي بخطورة التاريخ ومحاولة حماية الرواية الأصلية وليست التي كانت داعش تريد صناعتها تقديمها.
مضت السنوات وكانت عواقب احتلال داعش للموصل أكبر بكثير من أي حدث تاريخي سابق، تدمير شامل للبنى المعرفية والأخلاقية والاجتماعية للمدينة، وسلب كامل للسرد التاريخي لكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تطور إلى صراع طويل على سرد الرواية التاريخية، وهذه المرة لم تكن داعش الطرف الوحيد في صناعة الرواية، بل دخلت فيها الرؤية الغربية، ولكن ما حدث للقراءة والرؤية الغربية لداعش أن هذه المرة لم يكن الاستشراق الرصين والاكاديمي الذي عرفناه من المدارس الاستشراقية القديمة، بل تصدت الصحافة لاعداد الرواية والقراءة، فقد أعلنت صحيفة نيويورك تايمز الامريكية مؤخرا عن إطلاق مشروع إذاعي وكتابي تحت عنوان "الخلافة" وهو سلسلة حلقات إذاعية عملت عليها الصحفية روكميني كاليماكي مع فريقها من نيويورك تايمز عن تنظيم داعش في العراق. استندت الصحفية في عملها الإذاعي الصحفي هذا على مقابلات أجرتها داخل العراق مع عناصر من داعش أو ضحاياه وأيضا مع خبراء حول العالم مختصين بدراسة الإرهاب.
هذا هو ما يقوم به أي صحفي، إجراء التحقيقات وتتبع الحقائق والأشخاص أينما كانوا، وتحمل المخاطر للوصول إلى الحقيقة "الصحفية" وليست "العلمية" لكن روكميني – كصحفية – هذه المرة تجاوزت مفهوم الصحافة إلى الاستحواذ على الأدلة الاصلية نفسها، فقد قامت بطريقة غامضة بنقل أكثر من 16000 وثيقة (الرقم هذا تشير اليه روكميني نفسها، والإشارة إلى وثيقة هنا لا تعني ورقة، ربما تتشكل بعض الوثائق من أكثر من صحيفة) من الوثائق الداخلية لتنظيم داعش من أكثر من 11 مدينة وبلدة في العراق كانت تحت سلطتهم. ولا نزال لغاية اليوم لا نعرف ظروف الاستحواذ على الوثائق، وطريقة جمعها أو نقلها من العراق إلى الولايات المتحدة، وهل نقلت الوثائق بطائرة مدنية؟ أم عسكرية؟ وهل كانت هناك جهات معينة ساعدت وسهلت نقل الوثائق؟ ولا نعرف الفترة الزمنية التي استغرقت روكميني لجمع الوثائق، وأين كانت نقطة الجمع؟ لا بد أن روكميني قد جمعت الوثائق في مكان واحد ثم نقلتها، ويبقى السؤال مرة أخرى "كيف استطاعت روكميني تمرير هذا الكم الهائل من الوثائق عبر المطار؟ ومن أي مطار عراقي تم نقلها؟ وحين وصلت إلى الولايات المتحدة، كيف مرت الوثائق عبر المطار؟ وعبر أي مطار تم تمريرها؟ كل هذه الأسئلة لا نجد لها إجابة عند روكميني! ولا نيويورك تايمز!
كما اننا لا نعرف من هم الأشخاص الذين كانوا برفقتها، ولا أسماء الأشخاص (هي تذكر انها كانت برفقة قوات عسكرية عراقية) الذين رافقوها اثناء جمع الوثائق، ولا اللحظة التي قالت انهم كانوا على وشك احراق الوثائق، ولا الأماكن التي جمعت منها الوثائق بالتحديد.
من المهم هنا الإشارة الى اننا نعيش الذكرى الرابعة لاحتلال الدولة الإسلامية للموصل وما قامت به من تدمير لتاريخ المدينة من عمليات نهب وتفجير وتهديم لكل الاثار والمواقع التاريخية في الموصل، وهي الذكرى الأولى لتفجير المنارة الحدباء التي ارتبط اسم المدينة بها على مدى قرون طويلة من الزمن، ومن المهم أيضا الإشارة الى ان الصحف الغربية بشكل خاص كانت تكتب باستمرار عن قيام داعش بالتدمير والسلب والنهب، حتى ان هذه الصحافة الهمت المؤسسات باطلاق مشاريع لحماية التراث من الضياع، إضافة الى ان صحف مثل نيويورك تايمز لطالما تحدثت عن سرقة التاريخ من قبل داعش، ولكن كيف تنهى نيويورك تايمز عن خلق وتاتي بمثله؟ من الضروري جدا هنا تذكير روكميني وغيرها من الصحفيين ودعاة الحذاقة بالنظر بعناية الى تاريخ المدن العتيقة، خاصة مدينة مثل الموصل، فهم لا يعرفون عتاقة كهذه وليس سهلا عليهم فهمها، وان وجودهم في هذه المدن في حالة الحرب لا يعني انها "مدن متاحة" للعبث، ويذكرني ما فعلته روكميني بمقولة شعبية شائعة في العراق "يصلخ ميتين" (أي يقوم بنهب ما يحمله الميت من ثياب وحاجيات أخرى). فقد اعتقدت روكميني ان المدن المدمرة هي جثمان لا صاحب له يمكن سلبه. ففي الوقت الذي كانت تشهد فيه روكميني وفريقها الدمار الذي يحصل في الموصل والمدن الأخرى، والموت الذي يقطف رؤوس الأطفال والنساء والرجال كانت هي تبحث في جثة المدينة عن "وثائق" لسبقها الصحفي!
وان هذا الفعل يفتح المجال للبحث مرة أخرى في اخلاقيات الصحافة في زمن الحروب، فهل الوجود على ارض المعركة يعطي الصحفيين الحق في التصرف دون ضوابط او شروط؟ وهل الصحافة بتعريفها الاشمل والاستقصائي تمتلك الحق بالاستحواذ على اية وثائق وادلة يعثرون عليها؟ ان ما فعلته روكميني وضع الصحافة واخلاقياتها في مأزق خطير، وسيتعين عليهم إعطاء تفسيرات أكثر اقناعا من التي حاولوا طرحها في قضية روكميني.
فبعد ان اثير الجدل حول الوثائق، انبرى المدافعون عن القضية بطرح جدليات واهية ساندتها روكميني وكثير من دعاة الحذاقة بالشرق وتاريخه.
احدى التبريرات التي تقدمها روكميني حول استحواذهم على الوثائق على انها مجرد وثائق تتعلق بإدارة داعش للمدن التي استولت عليها، وان هذه الوثائق لا قيمة امنية لها. ان ما تجهله روكميني وكثير من الصحفيين الذي عملوا في العراق خلال فترة داعش وان إساءة استخدام هذه الوثائق يهدد السلم الأهلي بعد 4 سنوات من محاولة ترميم العلاقة بين المدن التي خضعت لسلطة داعش وبقية مناطق العراق، كما ان المشكلة الأكثر تعقيدا والتي تعاني منها هذه المدن والعراق بشكل عام هي مشكلة قانونية لم يوجد لها حل لغاية الان، هي مشكلة "تشابه الأسماء" وهي المشكلة كانت موجودة منذ زمن طويل في العراق ولكنها أصبحت اخطر بعد القضاء على داعش لان العراق ومن ضمن ثقافته العامة استخدام أسماء متشابهة، هناك مئات يحملون ذات الإسماء، وفقط الذين يحملون الاسم (محمد جاسم محمد) الذين تتطابق أسماءهم مع أسماء إرهابيين من داعش يبلغ عددهم 97 كما ان هناك اكثر من 2500 اخرين تتطابق أسماءهم تماما، وعدد غير معروف من المعتقلين فقط بتهمة تشابه الأسماء. ان هذه الوثائق تحتوي مئات الأسماء التي ستقود الى احداث ضرر كبير جدا وتعريض حياة الكثير من المواطنين العراقيين الى مخاطر امنية جسيمة، روكميني بالطبع لا تلتفت الى هذه المشكلة فهي من وجهة نظرها "محلية" لانها كما فصلّت سابقا تنطلق من نسق مختلف تماما لا يرى في الشرق هذه التفاصيل الصغيرة.
بينما برر آخرون لها، كما فعلت هي أيضا، بان هذه الوثائق كانت ستحرق لو تركت هناك، وقال احد مدعي الحذاقة محاولا تأييد طروحات روكميني "بان ترك الوثائق هناك يعني اتلافها وحتى لو نجت فهل يوجد عراقي صحفي او باحث قادر على دراستها؟" هنا مرة أخرى يكررون حماسة لا مارتين غير المنضبطة ويعيدون طرح الاستشراق من جديد. وللرد على هذه الجدلية حول "احتمالية احتراقها" و "اين تحفظ"؟ تكفي الإشارة الى حجم الدمار الذي سببته الغارات الجوية على المكتبة المركزية لجامعة الموصل ومكتبة الأوقاف العامة التي أدت لخسارة كارثية لمخطوطات يندر وجودها في مكان آخر غير الموصل، وتكفي الإشارة الى ما حدث للمتحف الوطني في بغداد، ومتحف الموصل، ومدينة الموصل القديمة! من يحرق التاريخ؟ نحن ام هم؟
ولا تزال روكميني وصحيفتها مصرة على الإبقاء على الوثائق، بل ذهبوا لابعد من ذلك الى القول بأنهم "سيتبرعون بالنسخ الاصلية للسفارة العراقية في واشنطن" بهذه العبارة ردت روكميني على سؤالي لها! استخدمت كلمة "تبرع" أي انها انهت الجدل حول القضية باعتبار الوثائق حق لهم.انها ببساطة مثلها مثل الكثير من الغربيين لا يدركون وجود ذلك النسق التاريخي الذي يعيشون داخله، وهو ذاته النسق الذي تحدث عنه ادوارد سعيد في ان "الغرب يعتقد انه الاجدر والاقدر على سرد التاريخ، تاريخ الاخرين". نسق لا يمكن لمن يعيشه اداركه او الشعور به، فهو نمط حياة يعيشه الغربي في تصوره تجاه الشرق والتاريخ.
العبث بتاريخ الامم ليس امرا جديدا، اذ تزخر بطون الكتب بالشواهد على تلك السرقات، والامر لا يتعلق بجدلية الغرب – الشرق فقط، بل يتعدى لأكثر من ذلك، فسرقة التاريخ ليست فقط سرقة للزمان والمكان، ولكنها احتكار للمراحل التاريخية أيضا، واحتكار لصناعة التاريخ وتقديم الرواية. والأخطر من ذلك هو التلاعب باللغة عن جهل، هكذا هي الصحافة غالبا تأخذ الظاهر امامها ولا تدرك حقائق الأمور ولا تهتم لمشاعر الأمم وتاريخها وثقافاتها.
ان خطورة الوثائق تكمن في انها لا تزال ادلة جنائية تتعلق بمدن دمرها الإرهاب وحكم شمولي استعبد الناس وطرد جماعات من السكان من مناطقهم، و اعدم الاف من الناس، ان هذه الوثائق ادلة جنائية لا يمكن للصحافة المساس بها قبل الانتهاء من عمليات التحقيق ويجب ان تتمتع بالسرية الى حين إقرار السلطات العراقية بالافراج عنها، ولا تمتلك روكميني ولا أي احد غيرها الحق في العمل على الوثائق، وان استمرارهم بهذا الفعل يجب ان يجابه بإقامة دعوة قضائية ضد الصحيفة واتهامها بتهديد السلم الأهلي وتهديد حياة المواطنين العراقيين وينبغي على النخب الثقافية العراقية وخاصة من المدن التي خضعت لارهاب داعش الوقوف ضد ما تقوم به نيويورك تايمز، خاصة و ان ما تقوم به الصحيفة هو صحافة تجارية، اذ ان البرنامج الإذاعي الذي في معظمه على هذه الوثائق ليس متاحا مجانا بل تجني مقابله الصحيفة الأموال، فيجب دفع مبلغ مالي للاشتراك في البرنامج للاستماع اليه، فهل يتوافق هذا العمل مع حجج روكميني بان "الوثائق كاد ان يحرقها العراقيون"؟
الجدل الذي اثير حول الوثائق المسلوبة تمتعت بالسطحية والتشبث بقشور القضية دون جوهرها، ان موضوع الوثائق يتعلق بجوهر التاريخ ومن يكتبه، ومن يمتلك الرواية الأولى؟ لطالما أثيرت جدلية ان المنتصر هو من يكتب التاريخ، والحقيقة ان هذه الجدلية لا تصمد امام حقيقة ان المهزومين أيضا كتبوا تاريخهم، ولكن الجدلية الأكثر قبولا في سياق ما جرى للموصل بعد احتلال داعش لها وحتى قبل ذلك بكثير بدءا من نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية اعيد بشكل ممنهج تشكيل تاريخ امة كاملة بفعل النسق التاريخي الذي تمتع به الغربيون الذين زاروا او كانوا جزءا من حملة وادي الرافدين، وبقدر ما يتعلق الامر بالموصل فان الاثار السلبية لهذا النسق التاريخي كانت كارثية، فقد الصقت بالمدينة روايات تاريخية لا علاقة لها بالمدينة وتاريخها تماما مثلما تفعل روكميني الان في طرحها لرواية تاريخية عن الموصل، وهي في كثير من كتاباتها لم تستطع التمييز بين الموصل و داعش على انها حالتين منفصلتين تماما، كما ان روكميني التي لا تتقن اللغة العربية ولا حتى اساسياتها (كان المستشرقون الأوائل رغم خروجهم غالبا من ذات النسق يتمتعون على الأقل بإتقان العربية وفقهها) قد تلاعبت بشكل خطير باللغة العربية حين البست العربية احدى عبارات داعش، واطلقتها على انها عبارة الدولة الإسلامية (داعش) وهي عبارة "قريبا قريبا" لتشير بذلك الى النسق الذي تعيشه هي مثل ملايين من الغربين بان كل ما هو عربي يعني انه إرهابي.
ان ما تنطلق منه روكميني وكثير مثلها من الصحفيين الغربيين الذين دخلوا الموصل والمدن الأخرى التي قبعت تحت سلطة إرهاب داعش لا يختلف عن الحماسة غير المنضبطة التي تمتع بها لامارتين (1790-1869) حين بدأ رحلته الى الشرق 1833 فالأرض العربية بالنسبة له هي ارض المعجزات، كل شيء يزدهر فيها، وأيضا، كل ساذج او متعصب يمكن ان يصبح بدوره نبيا، وقد صار لامارتين نبيا لمجرد وجوده الفعلي في الشرق، كما صار الان صحافيون ومدعو الحذاقة انبياء لمجرد زيارتهم الموصل او استحواذهم على وثائق داعش. هو ذاته النسق الذي كان لامارتين يتخيله في سرد ملاحظاته المتحيزة، فكل امرأة يراها تذكره بـ هيدي في دوان جوان، والعلاقة بين المسيح وفلسطين كالعلاقة بين روسو وجنيف، ونهر الأردن الأقل نفسه اقل أهمية من "الاسرار" التي يثيرها في روح الانسان. وبهذا النمط من الحكم والنسق، فان الوثائق في رؤية روكميني ونيويورك تايمز تولدت كحق غربي في الاستحواذ عليها.
عاشت الموصل ومدن أخرى تحت إرهاب داعش، دمرت مدننا وتساقطت حجرا حجرا اماما اعيننا، اختلطت دماء اهالينا مع تراب المدينة، دمر تاريخنا امام اعيننا، كل هذا لم يقف في عين روكميني لتنظر الى الموضوع بجانبه الاخر وليس بمنظورها هي! ويجب إعادة الوثائق الى اماكنها الاصلية، وبنسخها الاصلية بدون السماح لهم بالحصول على نسخة الكترونية، فهذه الوثائق هي حق تاريخي لسكان المدن التي دمرها الإرهاب. وعلى روكميني ونيويورك تايمز تقديم اعتذار علني لسكان هذه المدن ليس فقط لاستحواذهم على الوثائق، بل أيضا لاخذها في تلك الظروف التي كانت تعيشها المدينة، سرق تاريخنا منذ 1918 وتكرر الامر 2003 وتكرر 2014 على يد داعش ويتكرر الآن على يد نيويورك تايمز.
لقد حاولنا على مضض تجنب طروحات ادوارد سعيد وجاك غودي ليس لأنها لا تمثل الواقع الأصلي في العلاقة بين الغرب والشرق، بل لأننا أردنا بداية جديدة مع الغرب قائمة على الشراكة المتكافئة، فكنا نقسو على سعيد ونصرخ بوجه غودي ولكن استمرارية الغرب بمصادرة التاريخ والزمان والمكان سوف تعيد الينا صرخاتنا نحو سعيد بصدى واحد "ان الغرب سيظل دوما يعبث بتاريخنا".