«نريد الوطن. . . الوطن وينه؟»
هذا ما قاله أحد المتظاهرين العراقيين المشتركين في التظاهرات الاحتجاجية المستمرّة منذ أسابيع في عدد من مدن العراق. وهي ليست الأولى، بالطبع، بل هي موجة جديدة من ظاهرة بدأت منذ سنوات. إلا أنّها ازدادت حدة وغضباً هذا الصيف. وإذا كانت المطالب الخدمية، الكهرباء بالذات، هي شرارة هذه التظاهرات ووقودها وأحد عناوينها الرئيسة، إلا أنّها تجاوزت وتتجاوز الأعراض لتشير بقوة إلى الأسباب البنيوية والخلل الجذري. وتوجه أصابع الاتهام إلى النظام السياسي والطبقة الطفيلية الجاثمة على صدر البلاد. هذه الطبقة التي لم تنتج إلا الخراب والبؤس للمواطن العراقي بعد ١٥ سنة من ما سميّ بـ «الـعملية السياسيّة». الطبقة التي اكتنزت، بالمقابل، ثروات هائلة لرموزها ولأتباعها، نهبتها من المواطن العراقي، الذي يجد نفسه الآن وحيداً أعزل إلا من سلاح الصوت والجسد وهو يتشبّث بحقوقه وبحصته في هذا الـ «وطن». الوطن الذي مسخه وشوهه نظام المحاصصة الطائفية والفساد الخرافي. المواطن العراقي، على العكس من الكثير من رموز «العملية السياسيّة» ووجوهها وعملائها، لا يمتلك حسابات مفتوحة وثروات طائلة، أو أملاك خارج العراق ليهرب إليها ويستعين بها. إنه لا يملك إلا العراق.
ولعل ما أظهرته هذه الموجة الأخيرة بوضوح صارخ، وقد تجلّى ذلك في ردود فعل الطبقة السياسية وخطابها الإعلامي، هو إفلاسها الكامل سياسياً. إذ استعانت بسلاح طالما استعانت به الأنظمة الدكتاتورية لنزع الشرعيّة عن المظاهرات ولشيطنة المتظاهرين. وهي ذات التهم التي تُستخدم كلما اندلعت احتجاجات وتظاهرات تنادي بحقوق المواطنين الأساسية. فأعيد تدوير التهم الباطلة ونفس الأساليب التي كان يستخدمها النظام البائد حين صور الذين انتفضوا ضده عام ١٩٩١ على أنّهم «غوغاء» وأطلق مصطلح «صفحة الغدر والخيانة» على الانتفاضة التي أعقبت هزيمة العراق في حرب الخليج الأولى بعد كارثة غزو الكويت. كما عمد بعض رموز النظام الحالي إلى الاستعانة بشمّاعة البعث والتصريح بأن «فلول» النظام البائد، أو جهات خارجيّة، هي التي تقف وراء هذه المظاهرات وتحركها بيد خفية! وهي التهمة التي كانت تستخدم ضد المتظاهرين في المناطق الأخرى في العراق والتي ليست ذات غالبية شيعيّة. وهكذا، تم الترويج لمقولة «مندسين.» كما تم استخدام العنف المفرط وقتل وجرح المتظاهرين وإلقاء القبض على عدد منهم وإجبارهم على توقيع تعهدات وتهديدهم.
والمفارقة هي أن صفة «المندسين» تنطبق على عدد لا بأس به من أبرز رموز الطبقة السياسيّة. فهم الذين كانوا يرتبطون بمخابرات دول أجنبية وعربية وهم الذين جاؤوا بفضل الاحتلال والغزو عام ٢٠٠٣ وتعاونوا مع المحتل. وهم الذين نهبوا وأهدرواالبلايين من ثروات البلد ولم يظهروا إلى اليوم حرصاً على الوطن أو مصلحته. بل يمعنون في استهتارهم واحتقارهم للمواطن. ولعل أحد الأمثلة اللافتة هو قيام أحد المتظاهرين في البصرة برفع لافتة تخاطب النظام باللغتين العربية والفارسية في إشارة بليغة إلى ارتهان الأحزاب والقوى المسيطرة على العملية السياسيّة للنظام الإيراني.
وما زالت محاولات احتواء المظاهرات (التي تحولت في بعض الأماكن إلى اعتصامات) وامتصاص زخم الغضب أو تحويل مجراه مستمرّة بشتى الطرق. النظام القائم فاسد حتى النخاع وليست لديه القدرة ولا الرغبة، في إصلاح أمور البلاد. والوهم الذي تعيشه الطبقة السياسية هو أن هؤلاء المطالبين بحقوقهم سيتعبون أو سيسكتون وسيعودون إلى بيوتهم وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. لا يدرك رموز الفساد أن صلاحيتهم، مثل القنابل المسيلة للدموع التي استخدمت ضد المتظاهرين، منتهية. لقد انتهت صلاحية ومفعول الخطاب الطائفي والنظام الذي سوّقه والذي غيّب الوطن ونهبه باسم الطائفة والمذهب والدين.
أين الوطن وأين ثرواته؟ المواطن يطالب بوطن يعيش فيه بكرامة. وليس لدى نظام المحاصصة الطائفية وطبقة السرّاق ما يقدمونه للمواطن سوى الوعود الزائفة أو الاتهامات. لن تكون استعادة العراق من براثن هذا النظام وإعادة بنائه مسألة سهلة. فهي معركة طويلة ومعقدة ستستشرس فيها القوى المحلية المستفيدة والإقليمية. لكن هناك ما يدعو للتفاؤل والفخر. فبالرغم من محاولات التجهيل والتخريب الفكري الذي مارسه النظام السياسي والأخطبوط الإعلامي للأحزاب الطائفية الفاسدة الذي بث سمومه على الشاشات وعبر مدونين مأجورين يعيثون فساداً في وسائل التواصل الإعلامي لسنوات طويلة، بالرغم من كل هذا وغيره، هناك جيل جديد يقف بشجاعة وإصرار ووعي ليستعيد وطنه.