من المستحيل الاقتناع بأن ما تمارسه هذه الحكومة والمتنفذين بها هو نتاج الجهالة وحدها إنهم جهلة أجلاف فاقدون للذوق، هذا أمر مفروغ منه!
ولكن هل بهذا وحده يمارسون هذا التدمير الممنهج لكل ما يمت للروح والذاكرة العراقية بأثر طيب؟ مبنى عمره أكثر من قرن مثل مدرسة راهبات التقدمة (ثانوية العقيدة للبنات) بمعماره الفذ وبكيانه المعنوي كرمز من رموز التعليم المتحضر الذي كان. ودلالاته الرمزية كمكان للعلمانية التربوية التي سادت مرة في العراق، حيث تدرس المسيحية والمسلمة واليهودية والمندائية في ثانوية واحدة بمنتهى الوئام والمحبة. كم صحبة عابرة للأديان نشأت في ظلال هذا الصرح الخالد؟ كم ذكرى لبلاد كانت رحبة القلب والروح طافت في أرجاء هذا المبنى؟ لا يعرف ساسة المولات من الجوعيّة شيئاً عن ذاكرة هذا المكان. وإن عرفوا لن يعنيهم لأن أية ذاكرة فيها روح المواطنة العراقية تكشف مدى قبحهم الطائفي الذي أسسوا عليه دولة العصابات والمولات. حين يفكرون بتحويل هذا المبنى الأثري إلى مول تجاري فإنهم، وعن قصد وإصرار، يسعون لتدمير ذاكرة أجيال نادرة مرت بهذا الصرح، ربما هي من خيرة أجيال التعليم والتحضر والمدنية وهذا ما يشعرهم بقزميتهم وخواء أرواحهم.
يتحدث ياقوت الحموي في «معجم البلدان» عن هذا المكان تحديداً ويذكر إنه كان موقعاً لدير ٍعظيم زمن الدولة العباسية. كان يسمى «دير الزَنْدوَرْد» وإنه كان شأنه شأن الديارات في تلك الأيام (راجع كتاب «الديارات» للأصفهاني ) كان مكان نزهة لأهالي بغداد على اختلاف دياناتهم وأطيافهم لما فيه من البساتين وعرائش الكروم، وأن له في الذكر النؤاسي حضوراً حيث يقول ابن هاني:
واسقِني من كرومِ الزنْدِوَردِ ضُحَى ً
ماءَ العناقيد ِ في ظل ِّ العناقيد ِ
غير أن الدير اختفى كما يبدو بسبب الفيضانات المتواترة لنهر دجلة. وربما انتبه لذلك مستشرق أو دارس فرنسي فأوعز إلى جمعية تعود لطائفة اللاتين الكاثوليك تدعى «جمعية اخوات المحبة الفرنسيات» بطلب لإنشاء دير في المكان نفسه. كان الحاج عبد الرحمن الأورفلي يمتلك هذه الأرض التي سُميت فيما بعد بالأورفلية، وكانت عبارة عن بساتين ممتدة على ضفة النهر. فأهدى الحاج الأورفلي قطعة من بستانه للجمعية (ويقال إن ذلك تم برجاء من الملك فيصل الأول) وإن شركة معمارية فرنسية باشرت البناء مطلع العشرينات وكان المعمار على غرار دير قديم كان الفرنسيون قد بنوه في القرن التاسع عشر في منطقة عگد النصارى وأسموه «دير راهبات التقدمة المركزي» أو «الكوليج دي سانترينو». تذكر صحف تلك الأيام أن الماسيرة جوزيف كانت هي المشرفة على بناء الدير، وكان يتكون أول أمره من سرداب ومبنيين. أحدهما يطل على موقع جسر الجمهورية الحالي وكان مخصصا كدير، والآخر كان يطل على جهة شارع السعدون الحالي كمدرسة للراهبات. وأما السرداب فكان مكاناً لمعيشتهن. لهذا الدير مفخرة علاج مرضى الطاعون الذي داهم بغداد في عشرينات القرن الماضي. كان يقدم الخدمة الصحية للجميع بغض النظر عن الديانات والمذاهب، حيث أن الراهبات في الدير كن جميعاً يعملن ممرضات في المستشفى المجيدي القديم (موقع الأبنية القديمة لمدينة الطب الحالية). بعد ذلك أضيف للمبنى طابقان آخران وأبنية جانبية ملحقة ليتم افتتاح «مدرسة راهبات التقدمة» التي اشتملت على روضة وابتدائية وثانوية. وكانت السيدة إميلي رزق الله أول مديرة للروضة ثم لم تلبث أن أصبحت مديرة للمدرسة بروضتها وابتدائيتها وثانويتها. وكان الكادر التعليمي من الراهبات الأجنبيات والمحليات ممن حزن تعليماً متقدماً. فكانت الأمريكية (الماسيرة جوزفين) تدرس اللغة الإنكليزية والفرنسية (الماسيرة دومنيك) تدرس الفرنسية. أما الماسيرة روز فكانت أستاذة للموسيقى وآلة البيانو.
في العام ١٩٦٤، ويبدو أن وزير للتربية لم يحتمل عقله أن تسمى مدرسة للراهبات بهذا الاسم وأن تدرس فيها بنات مسلمات ويهوديات فأصدر أمراً بتغيير اسمها إلى (ثانوية العقيدة للبنات)! كانت لإدارة المدرسة كما شاهدت بعيني سيارات باص صفراء تجلب البنات من أنحاء بغداد كلها. مع بزوغ صرعة الاشتراكية الاستعراضية التي دأب عليها الحكم في السبعينات قام بتأميم هذه الثانوية وأحال إدارتها لوزارة التربية ففقدت المدرسة خصوصيتها المستقلة وامتيازات منهجها المتقدم. قسمت المدرسة إلى روضة الشقائق، ومدرسة دجلة الابتدائية، وثانوية العقيدة. ويقال ولست متأكداً إنه بعد الإحتلال أضيفت لها مدرسة ثانوية على غرار كلية بغداد المعروفة. هذا الأثر يراد له أن يصبح مولاً! مجرد مول من مولات بغداد الاستهلاكية التي يمتلكها سراق السياسة الجديدة في العراق. هؤلاء الذين لايقف في عيونهم وخاطرهم أثر ولاذكرى ولا موروث ولاحضارة. إنهم المظليون الذين هبطوا كالجراد على سواد بغداد.
واه بغداد!
سأجلس على جسر الجمهورية منشداً:
واسقني من كروم الزندرود ضحى
ماء العناقيد في ظل العناقيد
علني أسكر سكرة لا أقوم بعدها ولا أرى بغداد على هذه الحال!