اسم الكتاب: عندما سحقت حية موسى: نشوء اليهودية في فلسطين في العصر الفارسي
المؤلف: زكريا محمد
صدر عن: دار الناشر، رام الله، فلسطين.
توزيع: دار الأهلية، عمان، الأردن.
الكتاب يقع في 256 صفحة من القطع المتوسط.
صدرت طبعة عربية للكتاب عن دار ميم في الجزائر.
- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
لدي اهتمام قديم بالديانة اليهودية وبالتوراة. لكن كما تعلم فإن التوراة عش دبابير. فهناك مئات الألوف من باحثي التوراة، الذين يعتاشون على تمويل الهيئات الدينية في الغرب، والذين يعتقدون أن التوراة حكر لهم، ويجعلون من محاولة الاقتراب منها لمن هم من خارج الحقل نوعا من الولدنة. فمن أنت حتى تضيف إلى مئات الملايين من الصفحات التي طالت كل مقطع من مقاطع التوراة؟ من أنت حتى تأتي بجديد؟ ومن سيستمع إليك؟ لذا عليك فقط أن تهدأ وتسمع.
أما أنا فقد قررت أنني لن أهدأ، بل وأنني سأقول كلاما مختلفا.
ففي العادة تجري دراسة أديان العرب في الجاهلية، ودراسة الإسلام، على هدي التوراة. خذ مثلا كتاب المستشرق الشهير رودي باريت «محمد والقرآن» الذي يبدأ بفصل خصص للنبي والقرآن. وقد بدأ هذا الفصل بالعنوان التالي: «المستوطنات اليهودية« في الجزيرة العربية. وهذا يعني أن مفتاح محمد والقرآن والإسلام، بل والجاهلية أيضا، هو المستوطنات اليهودية في الجزيرة العربية. وقد رأيت أن أقلب الأمور تماما. أي أن أدرس التوراة على هدي ديانة العرب قبل الإسلام، وعلى هدي القرآن. وهذا يشبه الكفر في الحقيقة. لكن ظني أن هذا كان مثمرا. لقد أمضيت العشرين سنة الأخيرة من حياتي مشغولا بديانة العرب قبل الإسلام. كنت أعيش في مكة قبل الإسلام في الحقيقة. وقد أردت أن أنطلق من نتائج ما توصلت إليه لدراسة اليهودية.
- من أين كانت نقطة انطلاقك؟
كانت نقطة انطلاقي الأولى هي السؤال الاولي: لماذا تملك اليهودية عمليا رأسيْ سنة وليس رأس سنة واحدا كما هي العادة؟ فلدينا شهر (أبيب) الربيعي الذي هو أول شهور السنة، ثم لدينا (راش هشنا)، أي رأس السنة في أكتوبر. فما معنى هذا، وكيف حصل؟
أما النقطة الثانية فكانت التساؤل عن العلاقة بين شهر (أبيب) المصري وشهر (أبيب) التوراتي. لدينا الشهر ذاته في الروزنامة التوراتية والروزنامة المصرية. لكن موقعهما مختلف تماما. فأبيب التوراتي يقع في الربيع (أغلبه في نيسان) وأبيب المصري يقع في الصيف (أغلبه في تموز). بالطبع، باحثو التوراة يخبرونك أنه لا علاقة بين أبيب المصري وأبيب التوراتي. لكنني لم أكن مستعدا لتقبل هذا التأكيد اللفظي. وقد افترضت أن أبيب التوراتي هو في الأصل مثيل أبيب المصري، وأن موقع هذا الشهر في الروزنامتين العبرية والمصرية كان في الأصل واحدا، ثم جرى تغيير موقع الشهر في أحدهما. وقد ثبت لي في الواقع أن أبيب التوراتي قد نقل من الصيف إلى الخريف أثناء الاحتلال الفارسي لفلسطين.
- ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟
الأطروحة المركزية في الكتاب أن الديانة اليهودية التي نعرفها الآن تشكلت في العصر الفارسي، أي عمليا بدءا من أوائل القرن الخامس قبل الميلاد، وأن هذه الديانة نهضت تكونت كحاصل جمع لديانتين، أو شرعتين، هما شرعة إسرائيل وشرعة يهودا. هناك فرق حاسم بين بني إسرائيل وبين بني يهودا. بنو إسرائيل كانوا يعبدون إلها يسمى إسرائيل. وبنو يهودا كانوا يعبدون إلها يسمى يهودا. وفي العصر الفارسي فقط جرى جمع هاتين الشرعتين في شرعة واحدة نسميها الآن باسم اليهودية، وصار إلهها يدعى (يهوه). بنو إسرائيل لم يكونوا من عباد (يهوه) في الأصل، بل كانوا يعبدون إلها خاصا يدعى (إسرائيل). ثم جرى دمج الديانتين تحت ضغط المصالح الفارسية في فلسطين، وجرى تغيير الروزنامة الدينية تبعا لذلك.
على هذه الأرضية جرى تحرير المواد السابقة الخاصة بالديانتين ضمن (سياسة الاستعادة). هذه السياسة كانت تهدف إلى تهدف إلى تصوير عملية دمج الديانتين معا، التي كانت تجري في العصر الفارسي، على أنها استعادة لعصر ذهبي قديم. أي أنه جرى نقل الأحداث الواقعية إلى زمن ميثولوجي قديم هو زمن سليمان وداود ومملكتهما الموحدة المفترضة. الوحدة كانت تجري في العصر الفارسي، لكنها تصور على أنها استعادة لوحدة أصلية قديمة اسمها (المملكة الموحدة) في زمن سليمان وداود. المملكة المحددة الفعلية نشأت في العصر الفارسي. أما مملكة سليمان وداود فمملكة خيالية لا غير.
ولم تكن عملية التوحيد عملية سريعة، بل دامت قرنا من الزمان على الأقل، وتخللتها حروب واشتباكات أيديولوجية وصفقات من كل نوع. اما عملية تحرير المواد فقد دامت قرنين او ثلاثة قرون.
ويبدو أن كتب التوراة الخمسة كانت في الأصل كتبا إسرائيلية، أي كتبا لبني إسرائيل لا لبني يهودا. لم يكون عند يهودا في منطق القدس-الخليل ثقافة متطورة كما عند إسرائيل. لذا كان عليها الاستناد إلى كتب إسرائيل بعد تحريرها.
وبالفعل يمكن القول أن الديانة اليهودية هي حاصل تحرير كتب موسى الخمسة. لقد طوّعت هذه الكتب لكي تتقبل هيمنة يهودا وإله يهودا، الذي له اسمان (يهودا- يهوه).
- ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
التحدي الرئيسي كان في الوصول إلى الوضع الأصلي قبل عملية التحرير. أي في الوصول إلى ما قبل (سياسة الاستعادة) مع عزرا ونحميا. مثلا: كيف كانت قصة ذبح إسحق في الأصل، أي قبل أن تحررها أيدي محرري الاستعادة؟ وكانت ديانة العرب قبل الإسلام عنصرا مهما للوصول إلى الطبقة الأصلية للقصة. فالأساطير الدينية الجاهلية لم تحرر. لم تعبث بها يد. لذا يمكن استخدامها لمعرفة تدخلات المحررين في العهد الفارسي. لدينا مثلا الذبيح عبد الله، والد النبي محمد، ولدينا الذبيح إسحق. وهما من الطراز ذاته. لذا يمكن فهم إسحق انطلاقا من عبد الله، والعكس أيضا. والحال أن القصة العربية الجاهلية تربط بين ذبح عبد الله وبين حفر زمزم. يقول عبد المطلب في أحد الأقوال المنسوبة إليه: (إن سقيت الحجيج [عبر حفر زمزم] ذبحت لك بعض ولدي). بالتالي، فحفر زمزم وذبح عبد الله قصة واحدة. قصة الحصول على الماء السفلي. أي أن ذبح عبد الله كان ثمنا للحصول على الماء. في التوراة جرى تحرير القصة. جرى فصل قصة (بئر سبع) عن قصة (ذبح إسحق). أي جرى فصل الإصحاحين 12 و 22 عن بعضهما. الإصحاح 21 يتحدث عن حفر بئر سبع، والإصحاح 22 يتحدث عن ذبح إسحق. وهما في الأصل فصل واحد وقصة واحدة. لكن يد محرر الاستعادة فصلتهما عن بعضهما، بحيث لم نعد قادرين على فهم أن ذبح إسحق حصل بسبب حفر بئر سبع. لقد كان ذبحه الرمزي ثمنا للحصول على الماء.
مثل آخر هو قصة عبور يعقوب لـ (مخاضة يبوق). قبل عبوره المخاضة كان اسمه يعقوب، وبعد عبورها صار اسمه إسرائيل. ويعقوب في الأصل اسم آخر ليهودا. لقد كان عماده في نهر يهودا. لكن حين عبر نهر (يبوق) صار اسمه إسرائيل. ذلك أن نهر يبوق هو نهر إسرائيل وليس نهر يهودا. ويبوق هو (الأبكّ) العربي، أو (ذو بكّة) الذي كان يقيم في قواعد الكعبة. تحول يعقوب إلى إسرائيل هو مختصر نشوء اليهودية. فهو يمثل ابتلاع يهودا لإسرائيل.
كل الطرق في التوراة تؤدي إلى مخاضة يبوق. قصة مخاضة يبوق هي قصة التوراة كلها، هي قصة قيام اليهودية، هي قصة ابتلاع يهودا من قبل إسرائيل، هي قصة دمج إسرائيل بيهودا، تحت سيطرة يهودا. يعقوب كان ممثل يهودا، وليس ممثل إسرائيل. لكن حين عبر مخاضة يبوق سيطر على إسرائيل وأخذ اسمه. ابتلعه. صار هو يهودا وإسرائيل معا.
بذا، فقد كان التحدي عندي هو الحصول على القصة الأصلية، هو تجاوز محرري الاستعادة وشغلهم.
وبالمناسبة، فإن القرآن يفرق بشدة بين اليهود وبني إسرائيل. بنو إسرائيل عنده قوم غابرون، غير موجودين، بينما اليهود قوم حاضرون. لذا فالقرآن لا يشتبك مع بني إسرائيل، بل يشتبك مع اليهود. بالتالي، يمكن القول أن الإسلام يعود في بعض اللحظات إلى ما قبل سياسة الاستعادة، أي إلى الوقت الذي كانت فيه إسرائيل ويهودا كيانين مختلفين تماما. وهذا يعني أن بعض مصادر الإسلام أقدم من سياسة الاستعادة. وخذ مثلا على ذلك قصة ذبح إسماعيل. في التوراة يوجد ذبيح واحد هو إسحق، الذي هو مثيل عبد الله الذبيح. لكن في الإسلام هناك أيضا إسماعيل الذبيح. وهو ذبيح مختلف عن الذبيح إسحق. الذبيح إسحق هو (الأصغر والأحب) مثل عبد الله بن عبد المطلب. أما الذبيح إسماعيل فهو أضحية الولد البكر، فاتح الرحم: "لذلك أنا أذبح للرب الذكور من كل فاتح الرب" (خروج 13: 16). لكن أضحية الولد البكر محيت من التوراة. فالتوراة كانت تريد تثبت قداسة الأصغر، أي إسحق، لأن يهودا هو الأصغر، بينما إسرائيل هو الولد البكر: "فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر" (خروج 4: 22). هذا يعني أن قصة الذبيح إسماعيل في الإسلام مأخوذة من مصادر قبل تحرير التوراة، أي قبل سياسة الاستعادة.
وبالمناسبة، فإن الإسلام والمسيحية معا هما نوع من استعادة إسرائيل القديمة. إنهما استمرار لإسرائيل القديمة لا اليهودية. بالتالي، يمكن وصف الإسلام بأنه ديانة موسوية. والموسوية هي جذر ديانة بني إسرائيل.
- ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
أظن أنه كتاب مهم بالنسبة لي. بالطبع، أنا أدخل عبر هذا الكتاب منطقة غير ممهدة، غير مألوفة، وغير آمنة، سابحا عكس التيار. وهذا يحمل مخاطر جمة. كما أنه يحمل إمكانية حصول أخطاء هنا وهناك. بذا فانا مصر على الاتجاه العام للكتاب، في حين أن التفاصيل تظل خاضعة للجدال.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
أعتقد ان الكتاب موجه للنخبة المثقفة لا للجمهور العريض، مع أن بعض فصول الكتاب قد يجد فيها الناس العاديون ما يغري.
- ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
لدي عدد كبير من المشاريع. وأحس نفسي أحيانا ضائعا بين هذه المشاريع. لدي كتاب أعمل عليه منذ عشر سنوات وهي هو عن روزنامات العصور الحجرية، وعن ديانة العصور الحجرية. ولدي مشروع كتاب عن نقوش شمال الجزيرة العربية، وقد أنجزت جزءا كبيرا منه، وهناك مشروع كتاب عن نقوش فلسطين أيضا. لدي مشروع رواية. ولدي مشاريع أخرى كثيرة. وأحس أحيانا أنه لم يتبق لدي من الوقت ما يمكنني من إنجاز كل هذه المشاريع. لذا فأنا انتقل بينها. أعمل شهرا على هذا ثم أنتقل إلى ذاك، على أمل أن لا أخسر أيا منها.
مقطع من مقدمة الكتاب
ثمة عقبتان تعترضان فهمنا لكيفية تأليف التوراة:
الأولى: تتمثل بأن قاعدتها الأساسية وُضعت في العصر الفارسي، الذي لا نملك عنه إلا معلومات ضئيلة ومشتتة، بل إنه عصر يكاد يغرق في العتمة.
العقبة الثانية: وهي الأهم، فتتمثل في أن هناك حبكة ما، قصة ما، وراء التوراة، ووراء الصيغة التي وصلت بها إلينا. وما لم يجر الكشف عن هذه الحبكة المقصودة، فلن نتمكن من فهم هذا الكتاب، ولا من فهم أي عنصر تاريخي يكمن في روايته. لقد صنع محررون محترفون هذه الحبكة، هذه التوليفة، وانطلاقا من مصالح سياسية ودينية محددة، في لحظة تاريخية محددة. بالتالي، لا يمكن كشف هذه الحبكة إلا عبر الكشف عن هذه المصالح. وهذا يعني أن الأمر يجب أن يبدأ بالمصالح، بالسياسات التي فرضت وضع الحبكة، وتأليف التوراة على أساسها.
وبسبب الحبكة القصدية التي نتحدث عنها فإن التوراة - أي الكتب الخمسة الأساسية في الكتاب المقدس - كتاب عنيد، ولا يعطي ما عنده بسهولة. بل إنه في أحيان كثيرة جدا صيغ بالضبط لكي يخفي، لا لكي يضيءَ ويكشف. وهذا ما يجعل الحصول على الحقيقة منه عملية مرهقة جدا. فلا يجري الوصول إلى المعلومات الدينية، أو غير الدينية، فيه إلا عبر سلسلة طويلة من المناورات التي على الباحث أن يقوم بها. عليه، فالشك يجب أن يكون أداة مركزية من أدوات فهمنا للتوراة. يجب الشك في أن كل واقعة مركزية في هذا الكتاب قد حُرّرت، وعُدّلت، بل وربما قُلبت رأسا على عقب، في أحيان كثيرة. أي أن الحقيقة قد تكون في الواقع عكس ما يقال لك. في كل خطوة عليك أن تتوقع أن هناك من يريد أن يخدعك، من يريد أن يضللك. والأمر لا يتعلق هنا بالأخلاق، بل يتعلق بالمصالح. فالتوراة كما وصلتنا تعكس مصالح محددة. وهذه المصالح هي التي فرضت صياغتها بالشكل الذي نراه، أي فرضت الخدع والكمائن المتتابعة التي تصادفك وأنت تحاول فهمها.
والحقيقة أن الباحثين كانوا منذ القرن التاسع عشر يحسّون بوجود حبكة ما وراء التوراة، لكنهم لا يدركون عمقها وعمق قصديتها. لذلك فقد بدا لهم أن الأمر يتعلق بالمصادر واختلافها. فلدينا مصدر يهويّ، ومصدر إيلوهيمي، ومصدر كهانيّ. وقد جرى نسج التوراة من هذه المصادر المختلفة، وهذا هو جذر تضارب الأخبار والروايات والصيغ. أي أن الاضطرابات والتناقضات نتجت- بناء على هذا الرأي- عن تنوع المصادر، وحصلت رغم جهود المحرّرين لتنسيق المواد المختلفة، وتوحيدها. وهو ما يفترض أن تدخل المحرّرين في المضامين كان في حدوده الدنيا، وأنه كان موجها نحو مصالحة التقاليد المختلفة والمتناقضة. والحقيقة أن الأمر أبعد من ذلك بكثير، وأعقد. صحيح أن التوراة صيغت من مواد مختلفة، أتت من مصادر متنوعة. غير أنه كانت هناك دوما فكرة حاكمة، فكرة مشرفة، تتحكم في صياغة المصادر، ونسجها، وترتيبها. وهي فكرة مدركة، تحذف وتقصي، تضيف وترمي، تظهر وتخفي، وانطلاقا من حسابات محددة، ومصالح محددة. هذه الحسابات وهذه المصالح ظلت غائبة عن الغالبية الساحقة من الباحثين الغربيين، وغائبة عن وعيهم. والسبب هو الإيمان العميق، ذو الجذور الدينية بلا شك، بأن التوراة انبثقت من وحدة ما أصلية، وأنها تعكس هذه الوحدة، لا أنها فرضتها فرضا.
غير أن الحقيقة هي أن التوراة نُسجت من تقليدين اثنين، تقليدين متعارضين متعاكسين. وكان هدف محرّريها الانتصار لتقليد على تقليد، إخضاع تقليد لتقليد، وقمع تقليد لصالح تقليد. أما التقليدان فهما: تقليد يهودا، وتقليد إسرائيل، أو تقليد بني يهودا، وتقليد بني إسرائيل. والاحتمال الأغلب أن التقليد المركزي المكتوب الذي كان بين أيدي محرّري سلطة يهودا في منطقة القدس كان في الأساس تقليد إسرائيل، لا تقليد يهودا. فلم تكن يهودا، في ما يبدو، تملك تقاليد دينية مكتوبة راسخة. وقد اشتغل محررو التوراة على التقليد الإسرائيلي الذي وقع بين أيديهم. حرروه بشدة، وأرغموه على أن يتوافق بشكل ما مع تقليد يهودا وسلطتها. بذا، فكتب التوراة الخمسة خرجت من ورشة محرري سلطة يهودا على غير الشكل الذي دخلت فيه إلى الورشة. وما لم ندرك هذا فلن يكون ممكناً لنا فهم التوراة، ولا فهم الديانة اليهودية.
من أجل هذا، ربما كان علينا، في أحيان كثيرة ، افتراض أن الحقيقة هي بالضبط عكس ما تقوله لنا أسفار التوراة وإصحاحاتها، أي أن علينا قلب الرواية إن أردنا الحصول على الحقيقة. وبما أن عملية التحرير، أي إعادة صياغة التقاليد بناء على ما يجري على الأرض - وما كان يجري كان هو انتصار يهودا على إسرائيل- فقد كانت هذه العملية معقدة وطويلة جدا، ومرت في ما يبدو بمراحل مختلفة. فقد كان يُمسك بتقليد، ثم يجري تحريره، لكن النتيجة تكون غير ملائمة تماما. ذلك أن النص الأصلي يظل هناك مهما حرّرته، يظل يقول شيئا من قصته كما أرادها مهما قمعته. أي يظل عصيّا على التطويع. لذلك كان يجري في كثير من الأحيان إعادة كتابة نسخة جديدة من السفر، أو القصة. أي أن التحرير كان يبدأ من جديد من نقطة الصفر، وبما يتيح حرية أكبر للتعديل عبر الحذف والإضافة.
وبسبب هذا نشأت ظاهرة الـ (تثنيات)، أي الأسفار المزدوجة، في التوراة. فسفر (التثنية) كان (تثنية) على نص آخر، أي صياغة ثانية لنصٍ قديم معروف. يؤيد هذا أن الملك يوشيّا ادعى أنه اكتشف نسخة أصلية من الشريعة تخالف النسخة الموجودة. ويعتقد أن هذه النسخة هي (سفر التثنية) ذاته. وهو ما يعني، عمليا، أنه ألّف نسخة ثانية مختلفة من السفر نفسه قالت أشياء ليست موجودة في السفر المتداول وقتها. كما أن سفر الملوك كانت له (تثنية) ما أيضا هي سفر (الملوك الثاني). وكذا الأمر في ما يخص (أخبار الأيام) و(صمويل). فهناك (أخبار أيام ثان)، و (صمويل ثان). التثنية، إذن، تكمن في جوهر التوراة ككتاب. وحتى حين لا يكون هناك (سِفر ثان)، فإنه يمكن اعتبار التكرار والإعادة داخل بعض الأسفار نوعا من (التثنية)، نوعا من الكتاب (الثاني). وبسبب هذه التثنيات تضخمت نصوص الشريعة، وتضخّمت التوراة.
التوراة، إذن، نص مزدوج. نصّ فوق نصّ. تقليد فوق تقليد. التوراة حرب أهلية داخلية بين: نصين، تقليدين، تاريخين دينيين مختلفين، وشرعتين متعاكستين. التوراة نص منشقّ على ذاته. والديانة اليهودية بنيت على انشقاق داخلي بين الثنائيات التي تتكاثر: يهوادا وإسرائيل، جبل الهيكل وجبل جرزيم، يعقوب وإسرائيل، الصغير والكبير، الشمال والجنوب، الهارونيون واللاويون. ولهذا تضخم كهنوت هذه الديانة، وتضخّمت شرائعها.
فهم هذه الثنائيات المتضاربة، وفهم الأرض السياسية الواقعية التي انبثقت منها، هو السبيل لفهم التوراة، وفهم مسار تكوّن الديانة اليهودية التي نعرفها، والتي وُلدتْ عمليا في العصر الفارسي حسب اعتقادي واعتقاد كثيرين. لكن يبدو أن فهم التوراة انطلاقا من هذه الأسس أمر غير ممكن بالنسبة لغالبية الباحثين الغربيين. فهُم، من جهة أولى، مقيدون بالإيمان الديني الذي يطوّقهم من كل ناحية، ويفرض عليهم حدودا يصعب تجاوزها. كما أنهم، من جهة ثانية، محكومون بالتمويل الذي يأتي بغالبيته الساحقة من مؤسسات دينية. وهذا التمويل يفرض عليهم شروطا أشد وأقسى من شروط الإيمان. فهو يمسك بلقمة خبزهم. ومن الصعب على المرء أن يتجاوز حدود من يمسكون بلقمة عيشه.
بذا يفترض بنا ألا ننتظر هؤلاء حين يتعلق الأمر بدراسة التوراة، وبدراسة تشكّل اليهودية في فلسطين. المهمة ملقاة على أكتافنا نحن. لن يقوم بها بالشكل المطلوب غيرنا.
وهذا الكتاب يرى نفسه خطوة على طريق إنجاز هذه المهمة.