لنتصور أن الحملة السعودية ضد مصلحة المغرب خلال الترتيبات بشأن التصويت من أجل تعيين البلد المضيف لمونديال 2026- أقول لنتصور إن تلك الحملة شجرة، وإن هذه الأخيرة تخفي غابة، وإن تلك الغابة تمثل ما هو كامن وراء الحملة. ركز المغاربة، إلى الآن، على الحملة نفسها، وهذا طبيعي نظرا للصدمة التي ضربت توقعاتهم ومشاعرهم. لكن التركيز على الحملة نفسها وعلى استفزاز المغرب من طرف ممثل رسمي على أعلى مستوى للرياضة السعودية- هذا التركيز قد يخفي ما وراء النازلة، والذي أظن أنه أكبر بكثير من أزمة في مجال كرة القدم.
في البداية، هناك توضيح مهم: لا أجزم أن الأصوات التي خذلت المغرب كانت كافية لضمان فوزه في حالة التصويت لصالحنا. والمسألة الأساس تتلخص في كون السعودية وقفت في وجه مصالح المغرب بعجرفة ملحوظة. ولا أحتاج إلى التذكير بالتحالف السعودي-الإماراتي ذي الصبغة الهجومية الجديدة في المجالات الاستراتيجية—تحالف لا ينفي وجود اختلافات عميقة في سياسات وأهداف البلدين كما يبدو ذلك جليا في اليمن. ولا أظن أن الضغوط الأمريكية وما سمي، بـ"صفقة القرن" وحدها تفسر الموقف السعودي، إذا لاحظنا أن تلك الضغوط مورست كذلك على قطر وعمان وبلدان أخرى صوتت لصالح المغرب.. ولا أتصور أن التحالف الأمريكي/السعودي-الإماراتي كان من المحتمل أن تصيبه نكسة لو أمسك النظامان الخليجيان عن دعم ثلاثي القارة الأمريكية خلال المشاورات وعملية التصويت.المحمدان:وولي عهد السعودية.. الماسكان بزمام الأمور في بلديهما
أتجنب التركيز على الحملة نفسها، وذلك لوفرة الكتابات في الموضوع أولا، ثم، وهذا أهم، لأن تركيز النظر عليها يحجب الدوافع البنيوية التي حركت النظامين في مواجهة كانت غير متوقعة مع المغرب. سأحاول تحليل تلك الدوافع، وليس غرضي الإتيان بتفسير شمولي، ولكن ملامسة عوامل أراها حاسمة.
أبدأ بطرح فرضية هذا المقال، بعد ذلك أخصص القسط الأطول للتنقيب عن الدوافع الكامنة وراء الحملة.
الفرضية
السعودية اليوم ليست هي السعودية التي عرفناها بالأمس. والشيء نفسه ينطبق على الإمارات. فهما اليوم لا يُطيقان تألق أي بلد عربي، أو فوزه باعتراف عالمي في ميدان ما؛ ويحرصان على الظهور فوق كل هذه البلدان في الفضاء الإعلامي، معززين بثقل رأسمالهما الذي يضمن نفوذاً ديبلوماسياً من نوع خاص. ودائما في تكتم وسرية.
معنى هذا أن ظهور المغرب على منصة التنظيم الكوني للمونديال يمثل، بالنسبة لهما، خطاً أحمرا وممنوعا. وتصريحات ممثل السعودية، ووقاحتها تحيل على هذا الاتجاه.
إلى زمن قريب كان النظام السعودي يعول على نشر المذهب الوهابي المتشدد، وتمويل الشبكات الموالية له بسخاء؛ وكذلك توزيع المنح المالية على الدول للتأثير في سياستها، وفي أوساطها السياسية والاجتماعية. وكان الحج أقوى منصة للدعاية الوهابية، وتكوين الشبكات الموالية للمملكة النفطية. هذه السياسات ما زالت متبعة، وقد زاد زخمها في العشرين سنة الماضية وهي في تنام مضطرد.
لكن يظهر أن هناك اليوم مذهباً جديداً يُتوج تلك السياسات الكلاسيكية: ألا وهو مذهب استبدال الأنظمة غير الموالية بالقوة، أي مثلا بمساعدة حركات انقلابية. هذا التوجه، في نظري، منسوخ من نموذج أمريكي معروف يسمى " regime change ". وقد بدأت تظهر بوادره في السنوات الأخيرة في ليبيا ومصر وغيرها، وكانت آخر المحاولات في الأسابيع الماضية في تونس كما هو معلوم.
والبرنامج الجديد يرمي إلى فرض التحالف السعودي-الإماراتي كقوة جهوية عظمى تبسط نفوذها على دول المنطقة. والظاهر أن هذه القوة الجهوية تضطلع بمهام تحقيق الأهداف الأمريكية والإسرائيلية مقابل حمايتها عسكريا وأمنيا.
ما وراء الحملة
بداية، أريد أن أدلي بتوضيح فيما يخص موقفي. ذلك أني أرى أن عنوان من قبيل "ما وراء الحملة" قد يسقط في خطاب المؤامرة. خطاب متضخم جداً في المغارب والمشارق. وفكرة المؤامرة هاته، وإن كان لها أساس في الواقع، (المؤامرة الصهيونية مثلا)، فإنها أصبحت اليوم بمثابة ستار يحجب الواقع. هذا طبعا لا ينفي إمكانية المؤامرة بالمعنى الكلاسيكي كما أقدمت عليه الإمارات مؤخرا بتدبير انقلاب فاشل في تونس.
فماذا إذن وراء الحملة السعودية؟
ليس غرضي الإحاطة بجميع العوامل، ولكن ملامسة عوامل أظن أنها عوامل قوية التأثير. ألخصها في خمس:
- تشكيلة مجتمعية وسياسية تتحكم فيها عائلتان
وراء الحملة نظام سعودي متحالف مع نظام إماراتي. وهما معاً ملكيتان بتروليتان تتمتعان بأرصدة مالية خيالية، قل نظيرها، إن نحن أخدنا في الحسبان حجم البلدين الديمغرافي الصغير نسبيا. هذه الأرصدة يُسخرها حكم عائلي- قبلي. وتتملك غالبيتها العائلتان الحاكمتان اللتان لا تميزان عمليا بين خزينة الدولة وثروتها الخاصة.
نعم هناك نظام قانوني وإداري يميز بين موارد الدولة وموارد العائلة. لكن هذه الأخيرة تتصرف وكأن موارد الدولة والوطن ملكية خاصة لها. وهذا راسخ منذ أن أبرم الجد، الملك عبد العزيز آل سعود، الاتفاقية المشهورة بشأن التنقيب عن النفط واستغلاله مع الشركات الأمريكية، وتلقى مقابل ذلك ثمنا ألح حينها على أن يكون من ذهب. والإمارات بالمقارنة حديثة العهد بالاستقلال، لكن عملية استغلال عائدات البترول لا تختلف كثيرا عن الجارة السعودية. فالعائلتان المالكتان، والعشائر القريبة منهما، والمتحالفة معهما، منظمة في شكل شبكة محكمة ومحصنة اجتماعيا، تقصي أي عنصر أجنبي عنها. وتوفر الخلايا الوهابية "المشروعية" الدينية لهذه التشكيلة.
ومعنى العنصر الأجنبي في هذا الباب يجب تدقيقه: العشائر المذكورة تعتبر نفسها، ومن قديم، مجموعات شرف ومجد يخولان لها التموقع في أعلى هرم المجتمع. فما هو أجنبي عنها في هذه النازلة يتكون من القبائل الأخرى، التي وإن كانت هي الأخرى عربية، تحتل مرتبة دونية في التراتبية. ثم تأتي مجموعات من أصول أخرى، وأوساط حرفية تحت إمرة القبائل. وكذلك أعداد الناس من ذوي الأنساب المختلطة (بالمقارنة مع القبائل الحاكمة التي تعتبر أنسابها عربية محضة...). والأجنبي هو أيضا العربي الذي نزح إلى هذين البلدين لكسب الرزق، والإقامة بصفة أو أخرى بهما: وهم الخبراء العرب واليد العاملة المستوردة من المستخدمين: من إداريين، ومهندسين، وأساتذة جامعيين، إلخ...
الملك محمد السادس صحبة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زا
والحاجز الرئيسي الذي يسد الباب في وجه ما هو أجنبي بالمعاني المذكورة هو عملية الزواج. ذلك أن العشائر الأرستقراطية غالبا ما تتزاوج مع بعضها البعض فقط. وقد تفتح الباب لتزويج نساء من شرائح أخرى من طرف رجالها، ونادرا ما تقبل زواج البنات خارج دائرتها، إلا مع تكافؤ المراتب..
هناك طبعا أمكنة السكن والعيش اليومي والترفيه. والمثير هو أن هذه الأمكنة معزولة عن بعضها البعض، بفعل الأصول والثراء مع قدر من التساكن في الأسواق وفضاءات الترفيه. وقد خضعت التصاميم المعمارية لهذه المعايير.
والأجنبي أيضا يتمثل في الأعداد الكبيرة من أصول غير عربية، والمستخدمة، وهي من (الهند وآسيا وغيرها)، من خبراء وتقنيين، ويد عاملة خاصة في ورشات البناء.
خلاصة: هذه المجموعات تعيش بمعزل عن العشائر المتنفذة، وفي أحيائها الخاصة. فما عدا الالتقاء في الأسواق والإدارات والجامعات والورشات مثلا، فإن كل جنس يعيش مع جنسه في منظومة شبيهة بالتمييز العنصري.
فما وراء "الحملة" تكمن النواة التي توجد في قلب التشكيلة وتسيرها، تسهر على استمراريتها بالقوة والدعاية الدينية والتواصليات التي تنقل إلينا "الازدهار" السعودي والإماراتي من أبراج ومعمار "خارق" من صنع أدمغة وأيادي أجنبية في الغالب.
أعرف أن في السعودية والإمارات شباب طموح ومتكون يشتغل في قطاعات عدة؛ وكذلك شباب عاطل (في السعودية خاصة) وعدد من الغربيين والمقيمين العرب قد لا ينطبق عليهم نظام التمييز في السكن. وأقرأ لعلماء مقتدرين في الدين وغيره، ولكتاب وشعراء ذوي باع كبير في مجال تخصصاتهم، وفنانين يمكن الاستمتاع بعطاءاتهم. وهناك مناضلون ومناضلات من أجل إنقاذ البلدين من عوائق النُظم التي وصفت بإيجاز. كما وأني أحترمهم وأحترم تضحياتهم. ولكن تبقى المنظومة طاغية مع تحول بطيء وإصلاح تسلطي موجه من الخارج (كما هو الحال في ظل حكم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان). وطبعا، فقد سبق أن وقفت بالملموس على أن الشعب السعودي متعدد الاتجاهات والمشارب، ولا يصح تنميطه بأي وجه.
- قوة مالية واقتصادية من نوع خاص
وراء هذه الحملة قوة مالية واقتصادية أصبحت عالمية. لكن ذلك التموقع العالمي للسعودية والإمارات لا ينبني على صرح اقتصاد منتج ومتفوق بفضل صناعات مبنية على تطور علمي وتكنولوجي من اجتهاد نخبة محلية. والبلدان لا يحتلان الصدارة بفضل قوة إنتاجية كما هو الحال في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا والصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما... وليس للبلدين إنجازات اقتصادية وصناعية تضاهي إنجازات بلدان إسلامية أخرى مثل ماليزيا وإندونيسيا. فيبقى البلدان أساساً بمثابة سوق عملاقة لترويج البضائع الغربية والخبرات الأجنبية.
إننا في الواقع أمام مجتمعين استهلاكيين بامتياز. نعم، قد تحسب القوة العظمى حسابا للقدرة الشرائية السعودية والإماراتية. لكن ليس لذلك تأثير حاسم في سياسات تلك القوى العظمى. بل العكس هو الصحيح، خاصة بالنسبة لأمريكا. والحال أن الأرصدة المالية للدولتين تجعل منهما رهينة للبنوك الأورو-أمريكية.
لكن بمجرد ما نوجه النظر إلى بلدان العالم الأخرى، وخاصة تلك التي تحتاج التعاون المالي والاستثمارات، مثل المغرب وبلدان أخرى في أفريقيا وآسيا وغيرها، فإن القوة المالية السعودية والإماراتية تظهر بمظهر آخر: ألا وهو الاستقواء بوسيلة الاستثمارات والمنح. وبجانب ذلك هناك ما هو أكثر خطورة، وهو تمويل شبكات التأثير في الدول من داخل مؤسساتها، ومحاولة السيطرة عليها. ومن تلك الشبكات التنظيمات الدعوية السرية والعلنية والجمعيات الخيرية الوهابية والجوائز.
فما وراء الحملة السعودية يكمن في الاستقواء على "الأشقاء" الذين يُعتقد أنهم سقطوا في قبضة "الأشقاء" بفعل الحاجة إلى الإعانة وسد ثَغرات الميزانيات المحلية.
- أزمة اختلاف أنماط الحياة في المغرب
بَيَّن التحليل السابق الوجهين المهمين للقوة المالية والاقتصادية الخاصة بالسعودية والإمارات. الوجه الهجين المندمج في السوق الأمريكية من جهة، والوجه الهجومي والمُستقوي الذي يمارسه البلدان في العلاقة مع الدول "النامية" من جهة أخرى، خاصة مع الأشقاء الذين لا يملكون ثروة نفطية مماثلة، والمغرب من أولئك "الأشقاء".
لكن هناك ما هو أهم في نظري: ألخصه في محاولة تفريخ الفكر الإسلاموي المتطرف، ونشر أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية واليومية السعودية في المجتمعات الشقيقة. من آليات ذلك المجهود استعمال موسم الحج كقاعدة لبروباغاندا على مستوى المعمورة، والاستثمارات في المساجد، وفي "المدارس القرآنية" وكذلك الدعاية القوية للتخلق بأخلاق المملكة الرسمية في التصرفات والفعل اليومي، سواء تعلق ذلك بالعلاقات بين الجنسين، والأذواق الاستهلاكية، أو بنشر أفكار حول ما هو أنثوي والمروءات الخاصة المتصلة بهما؛ التي تعود إلى عادات البدو في الجاهلية، متلبسة بعباءة الإسلام الوهابي.
المجتمع السعودي يستهوبه نمط العيش الأمريكي
فضلاً عن ذلك، من المعروف أن العلاقات الأمريكية السعودية توطدت بعد الحرب العالمية الثانية. ومع تنامي المصالح المشتركة تكرس موقف الحكم السعودي من الحضارة الأمريكية، بحيث ترسخت لديه عقيدة قوية بأن لا علوم ولا تكنولوجيا ولا اقتصاد سوق يعتمد عليه إلا ما هو أمريكي.
وبانتشار هذا الإيمان انتشرت أذواق في الاستهلاك هي في الحقيقة أمريكية مقنعة بغلافات عربية (كما كنت قد وضحت في كتابي حول موسم الحج).
فما وراء الحملة السعودية، إن نحن أمعنا النظر في الأمر، يكمن في الحقد "الدفين"، و"المعلن" أحياناً، على أنماط عيشنا التي تختلف عن الأنماط المفروضة في السعودية. وإن نحن تأملنا الأشياء بدقة، فسوف نقف لا محالة على مظاهر الاختلاف الشديد الذي ما فتئ يغذي جاذبية أنماط الحياة المغاربية بالنسبة للشباب الخليجي. وكذلك فإننا سوف نشعر بالأزمة المتأصلة في ذلك الاختلاف وهذه الجاذبية.
أسباب الأزمة هاته متعددة ولم أذكر إلا بعضا منها؛ لكنها بقيت دفينة في العقود الأولى من استقلال البلدان المغاربية.
فما وراء الحملة السعودية: أن نُخب آل سعود وآل الشيخ ومن تبعهم، يحاولون فرض أنماط حياتهم على المغربيات والمغاربة. وإن اختلاف الرؤى قد يمثل نواة أزمة حادة في العمق. بقيت هذه الأزمة صامتة، مع تناميها منذ عقود، لكن بوادر خروجها إلى العلن واحتمال انفجارها شيء يجب الاستعداد لمواجهة عواقبه. وما خرجات تركي آل الشيخ، وهو لسان محمد بن سلمان، ومحاولته تقزيم المغرب والمغاربة إلا عربوناً عن ذلك "الحقد الدفين"، وربما علامة تخوف من جاذبية الحياة المغاربية، وإغراءاتها لشباب الخليج. نعم تبقى الجاذبية الكبرى في أذهان النخبة السعودية الحاكمة لأمريكا وأوروبا، ولكن حياة المغارب لها مزايا لا يستهان بها.
- السعودية والإمارات محاطتان بثلاثة عمالقة ثقافيين مخيفين بالنسبة إليهما
والتخوف من أنماط الحياة المغربية، ومن قدرة المغاربة على التعلم الهادف ربما يمثل سر التهجمات السعودية والإماراتية. وقد يتقاسم المغاربة هذه الخصال مع الجزائريين، والتونسيين، والموريتانيين بالخصوص.
وللتخوف المذكور مبررات تتجلى بوضوح حينما نحلل الوضع من منظور القوة الثقافية مقارنة مع القوة المالية. لأننا نقف لا محالة على معطيات حيوية. لكنها تخفى عن العيان في غالب الأحيان.
في السعودية كما في الإمارات نجد إنتاجا أدبيا بعضه تراثي والبعض الآخر من إبداعات معاصرة. ماعدا ذلك فالإنتاج الضخم للسعودية ينحصر في علوم الدين حسب المذهب الوهابي أو في إنتاج لأقلام وأساتذة "إخوانيين" كانوا قد استولوا على نظام التعليم في أواخر الستينات. لكن في السنوات الأخيرة شعرت النخبة بإغراق الوهابية في بحر من الإخوانيات فأبعدت مروجي تلك الأدبيات. لكن يبقى أن الإنتاج الديني بهذا المعنى يفوق في حجمه وفروعه وإصداراته بكثير الإنتاجات الأخرى.
بالمقابل فإن البلدين محاطان بثلاثة عمالقة ثقافيا: مصر، والمجموعة المكونة من العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، ومجموعة المغرب الكبير. فالبلدان أيضا في موقع ضعف من جانب الإبداع الثقافي بالمعنى الأوسع والجذاب. وعدم سيادة الوهابية الدينية في هذه العمالقة الثقافيين هو ما يقزم دور السعودية والإمارات أكثر.
عودية طالما استعملت الحج كمنصة للترويج لفكرها الوهابي
أما في حالة المغرب فإن الإخوانية بمعناها المصري تتكيف مع الفكر الديني السني المالكي السائد في البلاد. والتنافسات في هذا المجال مفتوحة، تتحاور وتتضارب مع اتجاهات فكرية وعلمية متعددة. وهناك أيضاً تجذر ملحوظ للفكر الفلسفي والنقدي وكذلك الإبداعات الفنية على اختلافها. كل هذا في جو الانفتاح على التيارات الخارجية الأخرى، في العالم العربي كما في أوروبا وغيرها. فالسعودية والإمارات، من هذا المنظور، يظهران في موقف ضعف. وكذلك فإن منظومتهما الدينية–الثقافية تظهر مهددة باستمرار، بالرغم من المليارات التي تصرف يوميا لنشر قوالبها، والدفاع عنها، وكذلك شراء الذمم وتمويل الأوساط المتعصبة. ولا ينفع مع هذا كون آل سعود نصبوا أنفسهم خدام الحرمين الشريفين.
كذلك لا ينفع تسخير الأموال لاقتناء فروع جامعات أوروبية وأمريكية عتيدة، ونصبها على ضفاف الخليج، ولا فروع المتاحف ذات الشهرة العالمية مثل اللوفر الباريسية، ولا التظاهرات الثقافية، ولا ترسانة الجوائز التي غالبا ما يفوز بها "أشقاء" من خارج البلدين... وهذا في حد ذاته مؤشر من مؤشرات الضعف. ولا ينفع مع ذلك برامج الترفيه الجديدة والمدن الافتراضية التي تستند تصاميمها وإنجازها إلى مقاولات غربية.
لا أدعي أن المغرب حقق التقدم الأمثل؛ ولكنه بالمقارنة وبالنظر إلى إمكانياته، قد حقق الكثير؛ وصار يطفو إلى سطح التثمين العالمي في مجالات، منها الإبداع الفني والثقافي، وبناء فلاحة عصرية، وصناعات حديثة. وإذ نشكو بؤر الفقر والفوارق الطبقية، وأزمة برنامج النمو، فإن ذلك بالأساس يمثل أزمة نجاح في تنمية مجالات عدة معروفة.
فما وراء محاولات تقزيمه من طرف حكام السعودية في الميدان الكروي، ما هو إلا موقف دفاعي للمملكة النفطية الغنية ماليا والمتواضعة علميا وثقافيا. وهو في الحقيقة تحامل على إنجازات بناها المغاربة بعقولهم وسواعدهم وبدون نفط !
- مشروع قوة جهوية مهيمنة على المنطقة مقرونة بمذهب جديد
قلت إن بذور الأزمة قديمة، وحاولت تبيان تناميها، في الخفاء والصمت النسبيين، ولعقود مضت. وقد حافظ المغرب على التوازنات الأساسية، وعلى الأواصر الحقيقية بينه وبين السعودية والإمارات. وهذا يدل على أن هناك رصيداً من الحكمة والتجربة المشتركة يحفظ ما هو حيوي في العلاقات والمصالح المتينة التي تجمع بين البلدان الثلاث.
لكن هناك شيئاً جديداً برز مؤخرا، وأظن أنه تتويج لسياسات ما فتئت تنمو منذ عقود. بهذه السياسات ترمي السعودية إلى بلوغ مكانة متميزة كقوة جهوية بلا منازع في المنطقة، وتتفوق على مكانة مصر التقليدية. وقد برز هذا المجهود بجلاء منذ الأزمة اللبنانية واتفاقية الطائف الشهيرة. وأستغني عن ذكر معالم أخرى في تلك الطريق. لكن القطيعة تظهر اليوم في اتخاذ مذهب وسياسة جديدتين تجاه الأشقاء في المنطقة: أعني بذلك نظرية استبدال الأنظمة غير الموالية بالقوة. نرى ذلك في تحركات لا تخفى أهدافها. والمثال الأخير تجلى في تدبير انقلاب فاشل في تونس، وقبله حجز رئيس الوزراء اللبناني في الرياض... وسياسة عرض العضلات القوية هذه تمارس يوميا في المناورات العديدة، وفي حرب اليمن، كما في الخرجات الإعلامية، لا سيما في القنوات الأوروبية والأمريكية... واستعمال القوة والإكراه هذا يطال الفرقاء السياسيين داخل السعودية والإمارات نفسهما، كما الدول "الشقيقة". وبما أن كل شيء عظيم في ذهن حكام البلدين، كما ذكرت هو أولا وقبل كل شيء أمريكي، فإن استبدال الأنظمة بالقوة بدوره يمثل استنساخا للمذهب الأمريكي المعروف بـ"regime change".الملك محمد السادس و محمد بن سلمان وسعد الحريري
فما وراء الحملة السعودية يكمن الوجه الجديد لسياستها تجاه "الأشقاء"، ومن ذلك ضرب الحصار على قطر، والقفز على حقوق الفلسطينيين ومصالحهم.
أما كرة القدم والمونديال فهما ليسا سوى الشجرة التي تخفي الغابة الكامنة وراء الحملة السعودية.
خاتمة: ما العمل؟
قبل تحديد آفاق ممكنة للعمل الجاد في هذه المرحلة من العلاقة بين البلدين، يكون من المفيد توضيح مؤهلات المغرب ومكتسباته. أولها اقتصاده النامي نسبيا والمتنوع. ثانيها تعدد شركائه في المنطقة، وفي أوروبا وأمريكا. وكذلك بلدان أخرى من المنطقة العربية. وبذلك فإنه ليس بسجين العلاقات مع السعودية والإمارات. صحيح أن تمويلات البلدين تسد ثغرات مهمة في ميزانية المملكة، لكن اقتصاد المغرب منتج، وحظوظه في جلب استثمارات متعددة الجنسية لا بأس بها.
وثالثها أنه ينهج سياسة تنموية جديدة؛ وبمجهود في ترشيد النفقات، والحد من التبذير، ومع قدر من التقشف فلربما قد يكون الاستغناء عن الاستثمارات والمنح السعودية والإمارتية ممكنا. والمعروف أن حجم هذه المساعدات يكون عادة أقل مما يُنشر في التصريحات. وأخيراً فإن رابع مؤهلات المغرب تتمثل في قدرات المغربيات والمغاربة على العمل المنتظم، واستعمال الأدمغة والأيدي التي ترتفع إنتاجيتها وتنافسيتها يوماً بعد يوم. ومع إصلاحات ضرورية قد يتحقق التوافق حولها بسهولة، فلي اليقين أن الاقتصاد المغربي سوف يحقق أهداف النمو والازدهار.
وأخيرا هناك قدرات المغاربة المعرفية والتقنية، وكذلك قدراتهم العسكرية بفضل جيش محترف ومتدرب على الدوام. هذه القدرات الأخيرة تتفوق على سياسات تكديس الأسلحة في المستودعات الخليجية.
والملاحظ أيضا هو أن المغرب راكم في مجال الاستخبارات العلمية التي تراقب بنجاح خلايا العنف والترهيب، سواء كانت قاعدية أو داعشية أو غيرها. وقدرات الجيش المغربي مجربة، وقد أبان عن حسن بلائه، وبسالة جنوده، وتمكن قياداته في الجولان قبل خمسين سنة مضت، وفي تصديه لحرب عصابات البوليساريو.
بهذه المؤهلات، وأخرى لا يتسع المجال لذكرها، يكون بإمكان المغرب الاستغناء عن التعاون مع "الأشقاء" السعوديين والإماراتيين، والتركيز أكثر على تكثيف موارده، ورفع تنافسيتها في الأسواق الأمريكية والأوروبية وغيرها. والتعاون مع البلدان الإفريقية الصديقة له مستقبل واعد. وفوق هذا وذاك الاستعداد لمشاركة بناءة في مشروع الاتحاد المغاربي، بمجرد ما تتوفر الفرصة الحقيقية التاريخية للانخراط في ذلك المشروع الذي تنتظره شعوبنا بفارغ الصبر.
وعلى كل حال، فإن هذه المؤهلات لابد وأن تدخل في الحُسبان إن كان اختيار "الأشقاء"، وهذا هو الأمل، هو التفاوض الرزين على المصالح. وأظن أن المغاربة مستعدون لذلك، في جو من الاحترام المتبادل.
وإن نحن حاولنا رصد واقع الحال في السعودية والإمارات بإيجاز، فإنه يفهم أن مستقبل هذين البلدين رهين بمنظومتيهما الخاصتين اللتين تعتمدان على خبرة وعمل مجموعات من أجناس متعددة، تسخر تلك الأعداد لخدمة السكان الأصليين الذين ربما سوف يصبحون أقلية في بلدانهم، والحالة أن تلك الأعداد تُسخر في خدمة النواة الاجتماعية ذات النفوذ الحقيقي. هذه النواة تحافظ على التراتبية وعلى مصالحها بفعل الانعزال عن الباقي، وفرض التمييز بوسيلة هندسة المعمار.
وأخيرا فإن هاته النواة تحكم المنظومة برمتها، بقوات الأمن والجيش، زيادة على الشبكة الوهابية. وإنه ومن الوارد أن تنقلب اللعبة يوما من الأيام على أصحابها طال الزمان أم قصر. ومهما يكن، فإن لا مستقبل لتصدير تلك المنظومة، وأنماط العيش، في شبه تمييز عنصري، ولا أسسها الثقافية إلى مجتمعات المغرب الكبير. وإن كانت هي تغري أقليات بالمال والوعظ فإن أغلبية المغاربة والمغاربيّين لن يطيقوا العيش في يوم من الأيام في ظل نظام اجتماعي من هذا النوع. وبالعكس، فإن أنماط العيش في مجتمعات المغرب لها جاذبية قوية بالنسبة لشباب الخليج.
ملاحظة: يوجه الكاتب شكره لعبد الرحيم حماموشي على رقنه لهذه المقالة باللغة العربية على الحاسوب.
ظهر نسخة أولى من هذه المقالة في موقع Lakome