غيرةُ اللُّغة:
في عام 2010 تلقَّيتُ دعوةً من المعهد الثَّقافيِّ الإيطاليِّ في قرطبة (بالأرجنتين) لعقدِ سلسلةٍ من اللِّقاءات. وقد قبلتُ بسرورٍ دون أن أدركَ إلى أيِّ حدٍّ من شأنه أن يكون تناقضيَّاً أن أعودَ إلى وطني الأمِّ، وطني الذي غادرْتُه منذ أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً، لكي أتحدَّث باللُّغة الإيطاليَّة إلى جمهورٍ أرجنتينيٍّ. هناك في قرطبة، وقبل البدء بكلِّ لقاءٍ، كنتُ أفكِّرُ دائماً بالمنعطفاتِ الغريبةِ للقدَر وأسألُ نفسي: كيف لي أن أتحدَّث بلغةٍ أخرى في البلد الذي وُلِدتُ وعشتُ فيه قرابةَ 24 سنة؟
ومع ذلك، لا بدَّ لي من الاعتراف بأنِّي كنتُ سأجدُ نفسي في مأزقٍ لو أنَّهم طلبوا منِّي التَّحدُّث بالإسبانيَّة. لا لأنَّني لا أتقِنُ هذه اللُّغة، بل إنَّني ما أزال أتقنها خيرَ إتقانٍ، على ما أعتقد، ولكن لأنَّ مُعجَمي، بعد سنواتٍ طويلةٍ من الغياب عن الأرجنتين، قد تقلَّص إلى حدٍّ كبيرٍ وفقدتُ تلك البداهةَ المعتادةَ التي هي سمةُ مَن يتحدَّث بها بطلاقة. في هذا الصَّدد، تؤكِّدُ سيلـﭭـيا بارون سوبرﭬـيل في كتابها أبجديَّة النَّار، المشار إليه سابقاً(1)، على صعوبة أن يحافظ المرءُ على لغته سليمةً بعد أن يهجرَها ليتبنَّى لغةً أخرى: "إنَّه اكتشافٌ مؤلمٌ. فلُغتان، على نفس المستوى من المعرفة، لا يمكنهما أن تتعايشا في الإنسان. عندما تتقدَّمُ إحداهما، تتراجعُ الأخرى" وشيئاً فشيئاً يتقلَّصُ معجمُنا. إنَّها لَحقيقةٌ في منتهى الغرابة، بل ودراميَّةٌ في بعض مناحيها. باختصارٍ، وأنا في ذلك الموقف، ألفيتُني أتعثَّرُ في العثور على الكلمات المناسبة. العديدُ من الأشياء التي أردتُ الحديث عنها كانت قد صُمِّمَتْ بلغةٍ أخرى، ولذلك فإنَّ تغييرها لم يكن من شأنه سوى أن يضعني في مأزقٍ وكنتُ سأشعرُ بالحرَجِ لو أنَّني اضطُرِرْتُ إلى البحثِ عبرَ التَّورياتِ والكناياتِ عن الكلماتِ المناسبة.
في ختامِ أحد اللِّقاءاتِ التي شاركتُ فيها، دنا منِّي لتجاذب أطراف الحديث رجلٌ إيطاليٌّ من كالابريا كان يعيش في الأرجنتين منذ عدَّة سنوات. تحدَّث بإيطاليَّةٍ غريبةٍ إلى حدٍّ ما، مطعَّمَةٍ بلهجةٍ قرطبيَّةٍ واضحة. أخبرني أنَّه ينسى بشكلٍ متزايدٍ اللُّغةَ الإيطاليَّة، وأنَّه، علاوةً على ذلك، ووفقاً لرؤيته الخاصَّة، يجدُ الإسبانيَّةَ لغةً جميلةً وموسيقيَّةً، ولكنَّها غيورٌ للغاية: إنَّها لغةٌ تقتلُ كلَّ لغةٍ حولَها، قالَ، لأنَّها تريدُ دائماً أن تسودَ على اللُّغات الأخرى (مثلما سادَت الفرنسيَّةُ على مَجَرِيَّةِ أغوتا كريستوف). بدَتْ لي استعارةً ناجحة. في تلك اللَّحظة فكَّرتُ أنَّه سيكون من الجميل أن أؤلِّف كتاباً عن غيرةِ اللُّغة. إنَّ هذه التَّأمُّلات البسيطة حول اللُّغة إنَّما وُلِدَتْ بطريقةٍ أو بأخرى من قصَّةِ هذا السَّيِّد الإيطاليِّ ذي اللَّهجةِ القرطبيَّة.
شِعريَّةُ الفوضى:
لا شكَّ في أنَّ المنفى والهجرة يقتضيان سلَفاً التقاءَ اللُّغات. فالسِّيَرُ الذَّاتيَّةُ وكتاباتُ أولئك الذين غادروا أوطانهم سوف تخترقها لا محالةَ العلاقةُ ما بين لغةِ الانتماء ولغةِ الاختيار. إنَّك تكتبُ بلغةٍ بينما يُعمِلُ عقلُكَ الفِكْرَ بلغةٍ أخرى، أو تجدُ نفسكَ تتحدَّث عن ماضيك بلغةٍ أجنبيَّةٍ (بالنِّسبة إليَّ شكَّلَ تحدِّياً، على سبيل المثال، أن أجعل جنديَّين أرجنتينيَّين يثرثران بالإيطاليَّة أثناء قيامهما بالحراسة، قبل أن يبدأ الإنجليز بإلقاء قنابلهم؛ وأشيرُ هنا إلى روايتي جنوب 1982، حيث حاولتُ في الواقع أن أعطي صوتاً جديداً لقصَّةٍ تتبَعُ سياقاً لغويَّاً دقيقاً). هذه هي المفارقاتُ التي تواجهُها عندما تتحوَّلُ من لغةٍ إلى أخرى.
في كتابهِ شِعريَّة المتنوِّع، يؤكِّدُ إدوارد غليسَّان(2) على هذا الجانب من التَّنوُّع اللُّغويِّ. إنَّنا اليومَ نتحدَّثُ ونكتبُ في ظلِّ الكثير من اللُّغات (ما مِن لغةٍ منها موجودةٌ في الواقع بمعزلٍ عن كونشرتو اللُّغات الأخرى ومن دون تواشجٍ معها). هذا لا يعني أن نكون على إلمامٍ بها جميعاً، وإنَّما يعني، وفقاً لما كتبَه الكاتب الكاريبيُّ النَّاطق بالفرنسيَّة، "أنَّني لا أحوِّلُ لغتي عن سياقها وأنقلبُ عليها من خلال إجراء توليفاتٍ لغويَّةٍ، ولكن من خلال ثغراتٍ لغويَّةٍ تسمحُ لي بالتَّفكير في علاقاتِ اللُّغات فيما بينها"(3). الكتابةُ في ظلِّ كلِّ لغاتِ العالَم: تلك هي إحدى تحدِّيات شِعريَّة العلاقة التي يتحدَّث عنها غليسَّان. لا يمكننا أن نفكِّرَ في لغةٍ من دون أن نأخذ بعين الاعتبار صِلاتِها والعلاقةَ التي تقيمُها مع اللُّغات الأخرى، أو بتعبيرٍ آخر، لا يمكننا أن نفكِّرَ فيها بطريقةٍ أحاديَّةِ اللُّغة. إنَّ التَّعدُّديَّة اللُّغويَّة، والكلامُ أيضاً لِغليسَّان، "لا تقتضي ضمناً التَّعايشَ بين اللُّغات، ولا معرفةَ العديد من اللُّغات، بل تقتضي حضورَ لغاتِ العالَم في مزاولةِ المرءِ لغتَه الخاصَّة"(4).
في هذا الصَّدَد، أتذكَّرُ تقديمَ أنيتا ديساي(5) لروايتها ليلٌ وضبابٌ في بومباي، عندما تعلنُ الكاتبة الهنديَّة أنَّ كتابَها كان في الوقتِ نفسِه تمريناً على اللُّغة: "مع أنَّني كتبتُ الرِّوايةَ باللُّغة الإنجليزيَّة، كنتُ واعيةً بجميع اللُّغاتِ التي كانت في خبايا الغيب"(6). هذا يعني الذَّهابَ بالكتابةِ نحو الطَّيَّاتِ الأكثر خفيةً وفتحَها على كلِّ الاحتمالات.
ولكنْ من ناحيةٍ أخرى، لا يمكن للُّغةِ أن تكون بمنأىً عن تعدِّي اللُّغات الأخرى التي تخترقها؛ بل إنَّه ليس من الممكن لها أن تشكِّلَ أنموذجاً قابلاً للتَّطبيق على جميع المتحدِّثين بها (من المستحيل فرضُ لغةٍ من اللُّغاتِ كقاعدةٍ، أو كمجموعةٍ من القواعد). لا يمكننا حتَّى أن نحميها كنوعٍ مهدَّدٍ دون أن نأخذ في الاعتبارِ جميعَ علاقاتها (تنطلقُ الأحاديَّةُ اللُّغويَّةُ من افتراضٍ مفادُه أنَّ لغتي هي جذوري وأنَّني مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بموضعٍ واحدٍ). يتحدَّث غليسَّان في كتابه شِعريَّة العلاقة عن جماليَّة التَّهجين اللُّغويِّ (الذي كانت الباروكيَّةُ تعبيراً جوهريَّاً عنه، لإفاضتِها المكانيَّةِ وتوالديَّتِها، ضدَّ مزاعمِ الوحدانيَّة) ويبتكرُ مفهومَ "الفوضى-العالَم" الذي يعني الانفتاحَ على أيِّ تلوُّثٍ مُحتمَل. إنَّها ليست حالةً من الشَّواش أو انعدام النِّظام. فالفوضى، كما يقولُ غليسَّان، ليست فوضويَّةً: "إنَّ نظامَها الخفيَّ لا يقتضي ضمناً تراتبيَّاتٍ، أو أسبقيَّاتٍ - لا لِلُغاتٍ مُنتخبَةٍ ولا لِشعوبٍ أميريَّةٍ"(7). إنَّ الواقعَ الأرخبيليَّ، في منطقةِ البحر الكاريبيِّ أو في المحيط الهادئ، يجسِّدُ وفقاً لِغليسَّان فكرةَ شِعريَّة العلاقة:
"إنَّ ما حدثَ في منطقةِ البحر الكاريبيِّ، والذي يمكننا اختصارُه في كلمةِ تهجينٍ، يمنحُنا أفضلَ فكرةٍ تقريبيَّةٍ ممكنة. إنَّه ليس مجرَّدَ التقاءٍ، أو صدمةٍ (بالمعنى السِّيغاليِّ(8) للكلمة)، أو اختلاطَ أجناسٍ، وإنَّما هو بُعدٌ مجهولٌ يسمحُ لكلِّ امرئٍ أن يكون هنا وفي مكانٍ آخر، متجذِّراً ومنفتِحاً، تائهاً في الجبلِ وحرَّاً في البحر، في وفاقٍ وفي شِقاق"(9).
وبالتَّالي فإنَّ حركة التَّهجين اللُّغويَّة ليست مرحلةً وسيطةً لسلسلةِ علاقاتٍ، ولا هي المرحلة النِّهائيَّة لعمليَّةٍ من العمليَّات. إنَّ التَّهجين اللُّغويَّ يقتضي ضمناً التَّعدُّديَّةَ اللُّغويَّةَ، يفتحُ العلاقاتِ ويستدعي التَّلوُّث. إنَّ عالمنا اللُّغويَّ اليومَ مقيَّدٌ على نحوٍ مفرطٍ بتشابك العلاقات. ثمَّة العديد من اللُّغات الإنجليزيَّة أو الإسبانيَّة أو الفرنسيَّة، وقد اختفَتْ الأحاديَّةُ اللُّغويَّةُ غير الملموسة.
ومع ذلك، يمكننا أن نسألَ أنفسنا: تُرَى في أيَّة لحظةٍ أصبحَت اللَّاتينيَّةُ المحكيَّةُ في شوارع روما القديمة هي اللُّغة الحديثة التي نسمِّيها الإيطاليَّة؟ متى تولَدُ لغةٌ ومتى تموت؟ إلى متى اللُّغةُ الإيطاليَّةُ، "التي هي معقَّدٌ من اللُّغات أكثر ممَّا هي لغةٌ واحدةٌ" كما يقولُ ليوباردي في كتاب مذكَّراته زيبالدونِه(10)، ستظلُّ هكذا؟ هل هناك لحظةٌ تدخلُ فيها لغةٌ لغةً أخرى وتحوِّلُها من الدَّاخل؟ ثمَّة شيءٌ واحدٌ مؤكَّدٌ، أنَّه ما مِن لغةٍ، حتَّى تلك الأكثر قداسةً، يمكنها أن تُفلِتَ من عدمِ ديمومتِها. وحول هذه النُّقطة أودُّ أن أذكرَ مرَّةً أخرى ما جاء في كتاب زيبالدونِه (955، 18 نيسان، 1821): "إنَّ اللُّغاتِ تتغيَّرُ دائماً، وليس بشكلٍ طفيفٍ، وإنَّما بشكلٍ تنتهي معه إلى الموت [...]. بحيث يمكن القول إنَّه ما مِن لغةٍ كانت، وما مِن لغةٍ أخرى بالتَّالي ستكون، أبديَّةً".
إنَّها شِعريَّة الفوضى، وبالتَّالي فهي موجاتُ الهجرة، والغزوات، والتَّناقضاتُ والتَّواطؤاتُ ما يشوِّشُ نظام اللُّغات، وما يخرِّبُها ويُثريها. ولعلَّ سرَّ اللُّغةِ يكمن هنا، في انحنائها للُّغاتِ الأخرى إلى أن تتحوَّلَ وتصيرَ شيئاً آخرَ غيرَ نفسِها.
* * *
أدريان ن. براﭬـي: كاتبٌ أرجنتينيٌّ يكتبُ باللُّغة الإيطاليَّة. وُلِدَ في بوينس آيرس عام 1963، ويعيشُ حاليَّاً في مدينةِ رِكاناتي الإيطاليَّة. انتقلَ إلى إيطاليا في أواخر الثَّمانينيَّات لمتابعةِ دراسته، فتخرَّجَ من كلِّيَّةِ الفلسفة في جامعة ماتْشِراتا للدِّراسات وعملَ كأمين مكتبةٍ في الجامعةِ نفسِها حيث كان مسؤولاً بشكلٍ رئيسٍ عن أرشفة الكتب القديمة. في عام 1999 نشرَ روايته الأولى باللُّغة الإسبانيَّة وفي عام 2000 بدأ مشوارَ الكتابةِ بالإيطاليَّة. مُعظَمُ رواياته صدرَتْ عن منشورات Nottetempo في روما. كما صدرَ له كتابٌ للأطفال والعديدُ من المقالات والدِّراسات النَّقديَّة. حصلَ على العديد من الجوائز، وتُرجِمَتْ نصوصُه إلى الإنجليزيَّةِ والفرنسيَّةِ والإسبانيَّة. من أعماله نذكر: "الشَّجرةُ العطشى" 2010؛ "الشَّجرة والبقرة" 2013؛ "الفيضان" 2015؛ "العُرجان" 2016؛ و"غيرةُ اللُّغة" 2017.
* * *
هوامشُ المؤلِّف والمترجم:
1- نظرْ فصل "أمومة اللُّغة I" من الكتاب نفسِه والمنشور في جدليَّة من ترجمتنا؛ (المترجم).
2- Édouard Glissant (1928-2011) شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ فرنسيٌّ وُلِدَ في جزيرة مارتينيك الكاريبيَّة، حصلَ على جائزة رينودو الأدبيَّة عام 1958؛ (المترجم).
3- إدوارد غليسَّان، شِعريَّة المتنوِّع، ترجمة فرانتشِسكا نيري، روما، منشورات مِلْتيمي، 2004، ص32.
4- المرجع السَّابق، ص33.
5- Anita Desai، روائيَّة هنديَّة وصلَتْ ثلاث مرَّاتٍ إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، وحصلت على جائزة الغارديان البريطانيَّة عن روايتها "قريةٌ على البحر"؛ (المترجم).
6- ديساي، ليلٌ وضبابٌ في بومباي، صVIII.
7- إدوارد غليسَّان، شِعريَّة العلاقة. بحثٌ في الشِّعر III، ترجمة إنريكا رِستوري، ماتْشِراتا، منشورات Quodlibet، 2007، ص96.
8- نسبةً إلى رونالد سيغال Ronald Segal (1932-2008) الكاتب الجنوب إفريقيِّ صاحب كتاب "الشَّتات الأسود"؛ (المترجم).
9- إدوارد غليسَّان، شِعريَّة العلاقة. بحثٌ في الشِّعر III، ترجمة إنريكا رِستوري، ماتْشِراتا، منشورات Quodlibet، 2007، ص42.
10- Zibaldone، وتُطلَق الكلمة بالإيطاليَّة على دفترٍ تُدَوَّن فيه الأفكار والملاحظات والمذكَّرات دونما نظامٍ أو ترتيبٍ معيَّنٍ؛ (المترجم).
المصدر: كتاب "غيرة اللُّغات" للكاتب: أدريان ن. براﭬـي Adrián N. Bravi الصَّادر عن منشورات جامعةِ ماتْشِراتا EUM
[التَّرجمة عن الإيطاليَّة: أمارجي]