في زمن النُّدرة الذي نعيشه يأتي هذا العمل كما لو ليعرِّفنا مرَّةً أخرى ما هي اللُّغة، ما هو الشِّعر، وما هو الفنُّ بأسمى تجلِّياته. هذا حقَّاً ما تفعله هذه المسرحيَّة، والتي تُعَدُّ أكثر أعمال دانُّونتْسو اكتمالاً، وأكثر أعمال ذلك العصر دراميَّةً، وهي التي شكَّلت بإجماع النُّقَّاد أفضل محاولةٍ لخلق مسرحٍ حديثٍ ذي أثرٍ تطهيري. فمع أنَّه قد مرَّ على صدورها الأوَّل قرابة المِائة والعشرين عاماً، يمكنني الزَّعم أنَّها ستبدو للقارئ العربيِّ كرغيف خبزٍ طازجٍ أو كوردةٍ تفتَّحت للتَّوِّ.
في هذه المسرحيَّة يطالعنا مثالٌ لقوَّة الفكرة الدِّراماتيكيَّة، القوَّة التي تحوِّل ما هو عادةً خارج نطاق الفنِّ إلى موضوعٍ مقنعٍ فنِّيَّاً. فإذا كان بإمكان المرء أن يعترف بالقوَّة الرُّوحيَّة أو النَّفسيَّة للشَّرِّ كفكرةٍ مجرَّدة، فإنَّه لن يجد صعوبةً في فهم الظَّرف المأساويِّ الذي تتصاعد وتتحوَّل عنده هذه الدِّراما.
قليلةٌ هي الأعمال الدِّراميَّة أو الرُّومانسيَّة التي كان فيها الحبُّ غير المشروع للأخ أو الأخت هو الدَّافع المركزيُّ، وربَّما كان السَّبب الرَّئيس لرفض تلك الأعمال التي تُدرَج جزافاً تحت مسمَّى "الفن" هو افتقارها لأيِّ فكرةٍ أساسيَّةٍ قويَّةٍ ومقنعةٍ بشكلٍ كافٍ لتبرير اختيار موضوعٍ كهذا. ولكنَّ هذا السَّبب –على الأقل- لا يمكن استخدامه ضدَّ "المدينة الميِّتة"، والتي تحكي قصَّة مجموعةٍ مكوَّنةٍ من أربعة أشخاص –ولنعترف هنا- كانوا أكثر من مستعدِّين للوفاء للدِّراما العاطفيَّة والغرائبيَّة لتلك الحياة الجنونيَّة قرب أنقاض مِسِّينا، حيث الجريمة القديمة، الأكثر فظاعةً ومأساويَّةً في تاريخ الدِّراما اليونانيَّة، ما تزال تلقي بظلالها على الجميع، ولا سيَّما على "ليوناردو" الذي لم تتوقَّف تلك المدينة الخبيثة يوماً عن تعذيبه ونهش روحه وهو ينقِّب فيها عن بقايا الآتريديِّين. وكما عبَّر عن ذلك أمارجي بقوله إنَّ "النُّبوءة التي احتُبست قروناً تتنفَّس الآن صُلبَ اللَّعنةِ وتُختتَم بسيف إيروس الذي يحضُّ حمَّى شهواتٍ محرَّمة، ولا شيء في الأرض يقهره".
وكما هو الحال في "الأنتيجونه" لسوفوكليس، نشعر في المدينة الميِّتة بأنَّ ربَّة القدر تعمل عملها المرعب الخاصَّ، "حيث لا يوجد منقذٌ من ويلٍ معيَّن". هذا المصير الذي لا يطاق يحقِّق نفسه في حالةٍ من الرُّعب والجمال، وهو جمالٌ يكادُ لا يُحتمَل، ربَّما أكثر ممَّا لا يُحتمَل الرُّعبُ الكئيبُ نفسُه. فلا أحد من الشَّخصيَّات الأربع في المسرحيَّة يعرف يقيناً ما الذي تولِّده تربة تلك المقابر من لعنةٍ مروِّعة. كلُّهم عالقون في هذا الشَّرِّ، كطيورٍ ضالَّةٍ وقعت في شبكة.
وهنا تكمن قوَّة وضعف مسرحيَّة المدينة الميِّتة، إذ أنَّها تملك الدَّافع التِّراجيديَّ ولديها الرُّوح والفكرة، ولكن لديها أيضاً، والكلام هنا من وجهة نظرٍ شخصيَّة، ذلك الضَّعف في علاج "المصير المحتوم" والذي يميِّز المسرح الحديث، وهي نقطة ضعفٍ لا نجدها عند إسخليوس أو سوفوكليس، اللذَين لا يتخلَّى رجالهم ونسائهم عن كلِّ شيءٍ ليموتوا ميتةً عابرةً، بل يقاومون حتَّى النِّهاية المصير الغامض المحيق بهم.
لا أريد الخوض هنا في تفاصيل تراجيديا المدينة الميِّتة، لكي أدع للقارئ فرصة الاستمتاع بهذه المسرحيَّة الجميلة كقصيدة، فثمَّة هنا، في هذا العمل الذي كتبه شاعرٌ وترجمه شاعر، "جَمالاتٌ أخرى ليُرفَعَ الحجابُ عنها، ونِعَمٌ أخرى ليُستولى عليها [...] هيَ عذبةٌ ومُبهجةٌ كأجملِ تخاييلِ الشِّعر".
"فيكِ أنتِ كلُّ تلك الأشياء التي يتحسَّر الرِّجال على فقدانها دون أن يكونوا قد امتلكوها" يقول ألِسَّاندرو لبيانكا ماريَّا ويتابع "لن أسألك عمَّا فعلتِ في السِّنين التي أمضيناها كالغرباء........ فأنا أعرف، أنا أعرف! كنتِ تعمِّدين كينونتك في نهر الغموض والجمال" وإنِّي لأعتقد أنَّ شاعرية أمارجي مكنته من نقل هذا النصٍّ بمنتهى الحرفيَّة والجمال.
الكتاب: المدينة الميِّتة، مسرحيَّة
المؤلِّف: غابرييل دانُّونتْسو
المترجم: أمارجي
النَّاشر: دار التَّكوين، دمشق، سوريا 2018
[This article was originally posted to Tadween Publishing's Al-Diwan Blog.]