أعلن الجيل الجديد للسينما السورية قطيعة مباشرة مع سينما الرواد، متخذين من مفردات الحرب مادةً جوهرية في صياغة أشرطتهم التي يبقى تقييمها رهناً للزمن الآتي، ففي حين نطل على تجارب لافتة على مستوى صياغة الفيلم بصرياً وفكرياً وجمالياً، تعاني أفلام الشباب من ضعف واضح في إنتاج بنية سينمائية بعيدة عن مشاهدات التلفزيون والفيديو كليب، لتبقى عشرات الأشرطة بعجرها وبجرها وثيقة عن زمن وقفت فيها كاميرات شباب وشابات سوريين في مواجهة الرصاص والقذائف، بعد أن فقدت البلاد العديد من صالات العرض، إضافةً لانقسام شاقولي عانت منه النخب السينمائية بين داخل وخارج.
واقع صالات العرض
مع انكفاء رؤوس الأموال الخاصة عن الإنتاج السينمائي السوري، باءت كل محاولات الحكومة السورية للاحتفاظ بصالات العرض السينمائية الخاصة؛ فمنعتها قوانين أصدرتها وزارة الثقافة منذ الثمانينات بعدم تحويلها إلى محلات تجارية. لكن القانون الذي أصدرته وزيرة الثقافة السابقة نجاح العطار بحصر استيراد الأفلام من قِبل مؤسسة السينما، تم تعديله عام 2000 بإمكانية استثمار هذه الصالات وإعفاء أصحابها من كل الضرائب والرسوم في حال قيام ملاكها بإعادة ترميمها وصيانتها، فتم تعديل قانون استيراد الأفلام لإتاحة الفرصة لأصحاب هذه الصالات باستقطاب آخر إنتاجات السينما العربية والعالمية بتسهيلات واسعة مع سوق الأفلام الدولية، أو حتى السماح بتحويل هذه الدور إلى (مولات)- مراكز تجارية بشرط افتتاح صالات سينمائية صغيرة ضمنها.
شرط لم يعجب أصحاب هذه الصالات، فلم يطوروا من صالاتهم رغم الوعود التي قطعوها للمؤسسة العامة للسينما بالتطوير والتحديث، بل حوّلوها إلى أماكن عرض من الدرجة الثالثة، متبعين طريقة العرض المستمر لثلاثة أو أربعة أفلام يومياً وببطاقة دخول واحدة، ناشرين على جدران ومداخل صالاتهم ملصقات (بوسترات) لأفلام متهالكة أكل الدهر عليها وشرب.
اليوم توفي جميع أصحاب هذه الصالات، تاركين شأن هذه الدور العريقة للورثة الذين سافر قسم كبير منهم خارج البلاد من مثل عائلات مأمون الثري، صبحي فرحات وآل مسعود.
إن نزهة سيراً على الأقدام من شارع الفردوس وشارع شيكاغو باتجاه شارع ٢٩ أيار في العاصمة دمشق، سنلاحظ ما حلَّ اليوم بصالات دنيا و الفردوس و السفراء و الأهرام والخيّام والأمير وأوغاريت وسابقاً الزهراء قبل إغلاقها مؤخراً للصيانة. فجأة صار من المتعارف عليه أن هذه الأماكن تحولت إلى ما يشبه (غرف نوم مفروشة) لبنات هوى يقمن باستدراج شبان صغار إلى عتمة الصالة، مقابل مبالغ معلومة لمستخدمي الصالات التي ما زالت تعرض بتقنية الـ35 مم لكنها مؤخراً استخدمت تقنية الإسقاط (الفيديو بروجوكتور) لعرض أفلام بورنو مُقرصنة يشتريها القائمون على هذه الصالات من سوق البحصة المجاور!
تخبرنا الكتب وصور العروض والملصقات السينمائية بأن جمهور هذه الدور كان من الطبقة الوسطى التي اضمحلت وبادت مع سنوات الحرب السورية، فلا يمكن اليوم أن يدخل إلى هذه الصالات سوى من تقطّعت به السبل، ثم إن الصالة الوحيدة التي تم إعادة تأهيلها هي صالة (سينما سيتي- دمشق سابقاً) من قبل مستثمرها المنتج الراحل نادر الأتاسي، حيث وصل سعر بطاقة الدخول للشخص الواحد عام 2016 إلى ٢٥٠٠ ليرة- ما يعادل ٦ دولارات أمريكية وهذا مبلغ ليس بإمكان المواطن العادي دفعه، إذا ما قرر أن يحضر مع عائلته إلى السينما.
ليست صالات دمشق من تعاني وحدها من هذا الواقع المزري، بل إن صالات حمص من مثل سينما حمص وصالة سينما الأمير قد توقفت بفعل الحرب وتم تدميرها بشكل كبير، وسرقة تجهيزاتها التقنية، ومثلها صالة سينما الأوبرا التي هُدمت وبُني مكانها مجمعات تجارية في المنطقة، وكذلك سينمات الشرق والفردوس والحرية، بينما تحولت كندي اللاذقية إلى ما يشبه مستودعاً حربياً، ومثلها كندي دير الزور التي أتت داعش عليها تخريباً وتدميراً، بينما فقدت حلب معظم صالاتها وعلى رأسها كل من صالة أوغاريت ليتم إعادة إحياء صالة الزهراء مؤخراً لتزاول تقديم عروضها.
بالمقابل ما تزال كندي طرطوس تعمل محتضنة ناديها السينمائي الذي تشرف عليه جمعية عاديات طرطوس بينما تستمر كل من صالتي كندي دمشق ودُمّر في عرض أفلام المؤسسة وأحدث تظاهرات سوق الأفلام العالمية، مع حضور خجول لعشاق السينما، حيث بقيت العروض التجارية لأفلام المؤسسة متوسطة الإقبال، في حين تحظى العروض الخاصة لهذه الأفلام بحضور إعلامي وفني كثيفين.
نوادي وأفلام
دخل مشروع (دعم سينما الشباب) عامه السادس، ليكون بمثابة مختبر للمخيلة الجماعية الشابة في سنوات الحرب، حيث تزامن ذلك مع صعود نوادٍ سينمائية مستقلة في بعض المدن السورية؛ تقوم بعرض الأفلام السورية والأجنبية الممنوعة منها و المرخص بعرضها، إضافةً لمناقشتها مع الجمهور عبر إدارة مخرجيها ونقادها الشباب، كان أبرزها النادي الذي انشق عن نادي تيار بناء الدولة والذي كان يديره أنس جودة، فيما تقدم نادي LTC A- بإدارة الناشط السينمائي فراس محمد إلى واجهة الأنشطة السينمائية الأسبوعية، محتفياً بأفلام كل من نبيل المالح ومحمد ملص ورياض شيا وعبد اللطيف عبد الحميد وغيرهم، ليؤسس مؤخراً بدعم من مؤسسة السينما ما أسماه بـ (بيت السينما) إضافة لتفعيل (النادي السينمائي الجامعي) بالتعاون مع اتحاد الطلبة، وليكون لقاء شهرياً دورياً للجمهور مع أمهات الأفلام العالمية والعربية، التي يعقب عرضها نقاش حول الفيلم وتحليله فنياً وفكرياً وجمالياً بين صناع الفيلم وجمهور الطلبة.
في اللاذقية كان لمهرجان خطوات حضوره منذ عام 2014 والذي توقف جزئياً، إضافةً لدورات سيناريو أقامها الكاتب حسن م. يوسف هناك، في حين انفرد نادي حلب السينمائي بإدارة الناقد فاضل الكواكبي بأنشطته التي توقفت عام 2014 بعد ازدياد حدة المعارك في المدينة، فمنذ الثمانينات توقفت أنشطة النوادي السينمائية المستقلة التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والنقابات الشعبية، وكان أبرزها نادي دمشق السينمائي في حي الطلياني بدمشق، والذي كان له دور كبير بنشر الثقافة السينمائية في البلاد.
وكانت السينما المستقلة قد شهدت نشاطاً مع بداية الألفية الثالثة عبر تظاهرة سينما الواقع- دوكس بوكس التي كان يديرها المخرج عروة نيربية بالتعاون مع مؤسسة السينما، لتتأسس مع سنوات الحرب نوادٍ جديدة كان أبرزها نادي أحفاد عشتار بإدارة السيدتين لينا الأسعد وديمة العقاد، إضافةً لورش عمل أدارها المخرج محمد عبد العزيز مع طلاب الدبلوم السينمائي، إذ أن هناك عودة إلى مفهوم النوادي السينمائية المدعومة من المجتمع الأهلي، والتي ترافقت مع إتاحة الفرصة أمام سينما الهواة، أو ما يدعى بالسينما المستقلة التي ازدهرت بعد الانتقال من التصوير على شريط الـ 35 ملم إلى تقنية التصوير بكاميرا الديجيتال، مما فتح الباب واسعاً أمام عشرات الشباب لدخول غِمار إخراج أفلام سينمائية تفاوتت مستوياتها بين الجيد والرديء والمتواضع.
لقد وضعت تظاهرة سينما الشباب معايير فنية لعمل المخرجين الجدد، لكن أصحاب هذه التجارب ما تزال تعاني أفلامهم من التكرار والتأثر بالتلفزيون والفيديو كليب، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود تجارب جريئة وعميقة فنياً وإنسانياً، وبعيدة عن الخطاب الأيديولوجي المباشر، بل نحا بعضها إلى هواجس الإنسان السوري في ظل الحرب، إنما تبقى شروط المُنح التي تقدمها المؤسسة بحاجة إلى تحسين شروطها الفنية والإنتاجية، مع ضرورة تقبل أفكار الشباب مهما بدت للوهلة الأولى تشاؤمية أو غير تعبوية، فهذه النوعية من الأفلام ستزول مع الزمن.
هكذا بلور الفن السينمائي في الحرب رغبة الشباب السوري به كشكل من أشكال التعبير المباشر والمغري للتعبير عن هواجسهم، والأكثر التصاقاً مع طبيعتهم وثقافتهم البصرية؛ وما يحدث اليوم في سورية من سباق نحو السينما أشبه ما يكون بما حدث في السبعينات والثمانينات بتوجه الشباب نحو كتابة قصيدة النثر وإصدار أعداد كبيرة من المجموعات الشعرية ذات التوجه الحداثي، لكن ليس هذا المهم، بل المهم هو إيجاد مسارب عمل للمخرجين الهواة الذين يخضعون لدورات تدريبية، فلم يتم حتى الآن دعمهم لتشغيلهم في السينما أو التلفزيون، ناهيك عن عدم وجود صالات عرض وقنوات فضائية كافية وقادرة على استيعاب إنتاجاتهم.
لقد طرح مفهوم (سينما الشباب) طرحاً مغايراً لما اصطلح على تسميته بـ السينما البديلة. المفهوم الذي ذُكر لأول مرة في دورة مهرجان دمشق لسينما الشباب عام 1971، وجاء كرد على السينما التجارية العربية ولاسيما المصرية، حيث بزغ هذا المفهوم لأول مرة مع التأثر بموجة السينما البديلة التي سادت سبعينات القرن الفائت في أوروبا في كل من فرنسا وتشيكوسلوفاكيا السابقة، وحققت نجاحات لا كتيار بل كأفلام، لكن الفارق اليوم بين السينما البديلة بالأمس والسينما البديلة اليوم، هو أن الأولى قامت على أيدي سينمائيين محترفين، وليس على أيدي هواة، وأبرز أسمائها في مصر كان كل من سعيد مرزوق وعلي عبد الخالق ومدكور ثابت، أما في سورية فكان نجومها كل من نبيل المالح وعمر أميرالاي، وفي لبنان برهان علوية وسمير نصري وكريستيان غازي وجان شمعون.
وبدأت فكرة تظاهرة سينما الشباب عام 2007. فأخذ وقتها هواة السينما ينشطون ويقدمون أفلامهم التي ينتجونها بجهودهم الذاتية، أو برعاية من بعض الجهات الخاصة. نشاط دفع المؤسسة العامة للسينما باعتبارها الجهة الحكومية الوحيدة المعنية بالشأن السينمائي في البلاد؛ إلى تقديم الدعم والرعاية لهذه السينما التليدة؛ وكان المقصود بهذه السينما هنا تحديداً هو كل مواهب الإخراج السينمائي الشابة؛ التي لم تتلق تعليما سينمائياً أكاديمياً، وليست مصنّفة في نقابة الفنانين السورية، فليس في سورية معهد متخصص بتخريج الكوادر السينمائية، ولم يعد هناك من إنتاج سينمائي خاص؛ فبات من الضروري وجود جهة ما، قادرة على تقديم كل عون ممكن لهواة السينما، وذلك كي يفصحوا عن أنفسهم وموهبتهم.
انطلاقا من هذا كله ولد (مشروع دعم سينما الشباب) ولكن بسبب مشاكل في التمويل تأخر تنفيذ المشروع حتى عام 2012 عندما انطلقت الدورة الأولى منه بعشرة أفلام، تبعها في العام التالي خمسة وعشرون فيلماً، ثم استقر العدد حالياً على ثلاثين فيلماً سنوياً؛ لتصل ميزانية كل فيلم منها إلى ما يقارب مليون ليرة سورية إذ تقدم المؤسسة للمخرجين الشباب كل مستلزمات تنفيذ أفلامهم، من مدير تصوير وإنتاج وفنيي إضاءة ومساعدي إخراج وغير ذلك، إضافة إلى سيولة مالية، كما تقدم للمخرجين الشباب خدمات ما بعد التصوير من مونتاج ومكساج وغيرهما، وصولاً لإنجاز الفيلم بالكامل. وذلك بعد حيازة النص على موافقة لجنة مختصة تدرس السيناريوهات المقدّمة فتختار الأصلح من بينها.
مع سنوات الحرب أمسى مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة من أكثر النتائج الملموسة التي تمخضت عن مشروع دعم سينما الهواة، فأمسى شبه تقليد بعد عقد دورته الخامسة في نيسان الماضي؛ ففيه تعرض الأفلام التي أنتجها المشروع بعد ست سنوات على انطلاقته، وتوزع جوائز على أصحاب التجارب اللافتة وفق نظام لجنة تحكيم مكونة من أبرز المخرجين والنقاد المخضرمين، تعطي مُنحها للمخرجين الجدد، بعد تقييمها ورصد درجة تفاعل الجمهور معها؛ إذ يبدو أن المشروع رغم انتقادات يوجهها البعض لسوية الأفلام التي يحققها هواة آخذاً بالتبلور حيث أقامت مؤسسة السينما في الأعوام الماضية ما يشبه نواةً لمعهد سينمائي في دمشق، مهّد له بالإعداد لدورات تدريبية بمشاركة أساتذة لإعطاء شهادة دبلوم علوم السينما كان أبرز المشاركين فيه كل من: سمير ذكرى وريمون بطرس وحسن سامي يوسف ونجدت أنزور وغسان شميط وفاضل الكواكبي ومأمون الخطيب ومحمد عبد العزيز وجود سعيد وعلي المالح وآخرين.
التباين الحاد في سوية أفلام الشباب السوري عن الحرب، وضع القائمين عليها أمام مكاشفات لابد منها، فكان أبرزها بيان لجنة تحكيم مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة الثالث -21- 26 نيسان-2016- دار الأوبرا السورية والتي أتى بيانها على لسان رئيس تحكيمها المخرج نجدت إسماعيل أنزور كإشارة قوية للمخرجين الشباب بمراجعة أعمالهم مراجعةً نقدية مبتعداً عن المجاملة حيث قال: “تلاحظ اللجنة بقلق أن معظم الأعمال المشاركة لم تراع طبيعة الفيلم القصير وخصوصيته الإبداعية، لا من حيث البنية ولا من حيث الطبيعة والخطاب، كما أن جل هذه الأعمال اتخذت من الدراما التلفزيونية مرجعية جمالية وبصرية لها، فهناك أعمال تصدت لأفكار كبيرة بإمكانيات ضحلة وبسيطة، مما حال من تمكن مخرجيها من تقديم هذه المقولات بالشكل المطلوب، وترى اللجنة أن معظم الأفلام تم تجسيدها في أماكن تصوير واحدة وخلو هذه الأماكن من البشر وكأن الأحداث تجري في مدن مهجورة، ما عدا بعض الاستثناءات؛ وتقترح اللجنة أن يعاد النظر في آلية قبول السيناريوهات المقدّمة من قبل الشباب، وضرورة وجود مستشارين دراميين يشرفون على كتابة هذه الأفلام، وإخضاع مخرجيها إلى دورات مكثّفة قبل إعطائهم فرص الإنتاج.”
الفعالية الشبابية التي تحقق من خلالها ما يزيد عن مائة فيلم على مدى السنوات الست الماضية، لبت جوع النشء الجديد إلى أدوات تعبير مغايرة لأجواء الفرجة السطحية التي عمل التلفزيون على تكوينها لعقود طويلة في البلاد مكرّساً ثقافة مناوئة لحساسية الفن السينمائي، وقدرة هذا الأخير على تربية ذائقة مرموقة بعيداً عن نجوم المواسم الرمضانية، إلا أن أفلام سينما الشباب آثرت في معظمها الشكل المباشر للحرب والإرهاب كعنوان عريض لطروحاتها السينمائية، مقتربةً في معظمها من أجواء الفيديو كليب من حيث تركيزها على التلذذ الجمالي بالصورة، وطغيان الموسيقى التصويرية على كامل البنية الفيلمية، دون الإلمام بإدارة الممثل داخل الكادر، والأهم من هذا وذاك، عدم الأخذ بأهمية السيناريو كأساس جوهري لتحقيق فيلم متوازن فنياً بعيد عن مشاهدات التلفزيون ومسلسلاته، مما عكس فقر فني في وعي بعض المخرجين، في حين أتت قلة قليلة من الأفلام المشاركة على سوية معقولة من الدراية بمتطلبات وشروط الفن السابع.