لقطة عامة على مقاهي دمشق، تخبرنا ماذا فعلت الحرب بأبرز مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية في العاصمة السورية، فما إن انقضت السنة السابعة من الحرب؛ حتى تدفقت أموال أمرائها لتمارس سياسة القضم والهضم لقطاعات واسعة من مرافق المدينة، والتي يبدو أنها ذاهبة في تغييرات أساسية على طابعها العمراني العام.
ليست المقاهي هي المظهر الوحيد في قياس نبض المدينة التي تصعد اليوم الدرجة الثامنة من سلّم الحرب، بل هي المرافق العامة التي تنقرض شيئاً فشيئاً لتتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى مطاعم يرتادها أثرياء الحرب وصبيتها. جولة قصيرة بين الأحياء الرئيسية لدمشق، سوف تُظهر حجم السطو على أرصفة بكاملها لحساب مطاعم الخمس نجوم التي باتت تعبيراً عن تبييض الأموال وهدرها على ملذات أبناء وبنات النفوذ وسواهم ممن موّلتهم الحرب بنفسها، معممةً ثقافة المطعم، ثقافة الآكل والمأكول كصياغة مباشرة لشكل الحياة العامة.
شيئاً فشيئاً تكتظ طاولات وكراسي وسيارات فارهة إلى جانبها على أرصفة حي (أبي رمانة) و(أتوستراد المزة) و(المالكي) حيث تنتشر هنا أكثر مقاهي ومطاعم لا نحتاج القول إلى أنها حكر على أصحاب الثروات الذين تصل فاتورة أقل حساب فيها إلى ما يقارب (50 ألف ليرة سورية- ما يعادل 100 دولار أمريكي).
لقد كشرت الحرب عن مطاعمها ومقاهيها مبدلةً من شكل المقهى القديم، ومطعم العائلة المنحدرة من الطبقة الوسطى، لتمسي هذه الأماكن ذات الواجهات البلورية الفاخرة عنواناً لفروق طبقية حادة داخل المجتمع السوري الذي يتراوح متوسط دخل الفرد فيه بين (70 إلى 85 دولاراً أمريكياً) راتب موظف من الفئة الأولى والذي لا يكفي لتناول وجبة غذاء لمرة واحدة في مقاهي ومطاعم الحرب.
معادلة زادت الأغنياء غنى والفقراء فقراً، ليتم نفي العديد من أصحاب الدخل المحدود إلى مقاهي ومطاعم الفقراء التي ما يزال البعض منها يقاوم للبقاء على خارطة الخدمات التي يقدمها لزواره، فمن مقهى الروضة في شارع العابد نحو مقهى الكمال الصيفي والهافانا، وصولاً إلى مقهى الحجاز في شارع النصر، يجلس ما تبقى من جمهور المثقفين الذين بالكاد يدفعون ثمن فنجان قهوة وعبوة ماء صغيرة لقاء ارتيادهم لهذه الأماكن التي على الأقل ما زال بعضها يحتفظ بشكل المقهى القديم، بعيداً عن شاشات البلازما الضخمة المنصوبة في جهات المقهى الأربع، إما لنقل مباريات الدوري الأوروبي أو كأس العالم، أو لمشاهدة مسلسلات البيئة الشامية ذات الطرح الرجعي والمتخلف، حيث تعلو أصوات سحب الخناجر هنا أو يرتفع صوت المعلق الرياضي التونسي عصام الشوالي هناك، ليعلن هزيمة الأرجنتين والبرازيل واللطم على حظوظ الفرق العربية في كأس العالم بروسيا 2018.
لا رأفة بزوار المقهى الذين وجدوا أنفسهم خارج أجواء المقهى الجديد، والذي طرد من جنته جميع من لا ينتمون إلى التشكيلة الكروية الجديدة، فالمقهى في دمشق لم يعد مكاناً للقاء أو تبادل الأحاديث، أو لعب الشطرنج، بل تحول إلى حلبة جديدة من حلبات التصفيق والزعيق الممزوج بأغانٍ هابطة مفتوحة شاشاتها المنصوبة في كل الأرجاء على قنوات الفيديو كليب العربي، ومسلسلات الهيبة والخيانة الزوجية.
في هذا الجحيم المطبق يبدو من الصعب العثور على مكان محايد، وبعيد عن لوثة الكرة ونجوم المسلسلات وراقصات الفيديو كليب، بعيد عن فسحة لفنجان قهوة هادئ وحديث نميمة بين أصدقاء الكتب والثقافة والمسرح، خلا عن وجود مساحات لا بأس بها في هذه المقاهي لعرض القنوات الدينية الراديكالية، أو بث نشرات الأخبار الدموية على مدار الساعة، لتصبح الموسيقى –إن وجدت- نوعاً من الضجيج العام، ولتصبح كراسي المقهى منصات للتعذيب وتصديع الرؤوس بكل ما هو سطحي وتافه ومبتذل.
الشكل المعمم اليوم للمقهى الحداثي هو وجود ( Wi- Fi) أو (WIRELESS) خدمة الشبكة التي يطلبها (الزبون) ما إن يدخل المقهى كي يشبك مع شبكة الإنترنت، وهكذا يقضى الأمر، وما عليكَ سوى الدخول إلى أي مقهى من هذا النوع في دمشق، وهي النوعية الطاغية في المدينة، حتى تتأكد من أن الجميع رؤوسهم منحنية فوق هواتفهم النقالة، ينشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، دون حتى أن ينظروا ولو لمرة بمن يقابلونه على طاولة المقهى التي يجلسون إليها.
النرجيلة والهواتف المحمولة قطعتها (كلمة المرور)- (PASSWORD) لتحيل زوار هذه المقاهي إلى ما يشبه تماثيل صامتة لا تتكلم مع بعضها البعض إلا شذراً. نوعية جديدة من مرتادي المقاهي حيث (التواصل الاجتماعي) هنا هو اللا تواصل، فلا أحاديث يمكن إثارتها ولا نقاشات ثقافية أو اجتماعية أو سواها.
الجميع هنا مشغول بقطاف شجر (اللايكات) و(الكومنتات)- الإعجابات والتعليقات في سديم الموقع الأزرق- (فايس بوك) ليتحول المقهى إلى مجرد نقطة لقاء عابرة بين أشخاص بالكاد ينظرون إلى وجوه بعضهم البعض. وحتى ولو نظروا فهم منومون مغناطيسياً تحت سطوة هواتفهم التي أحالتهم وفق الدراسات الجديدة في عالم الميديا إلى (قبيلة منحنيي الرؤوس) أكبر قبيلة في العالم اليوم تنحني رؤوسها على شاشات هواتفها المحمولة.
مفارقات بالجملة يمكن رصدها اليوم في مقاهي ومطاعم دمشق التي أمست المكان الأكثر تميزاً لالتقاط الصور، كي يقوم أصحابها بنشرها مباشرةً على الفيس بوك، حيث يستغرق وقت التقاط الصور ونشرها على موقع (زكربرغ) ثلاثة أرباع الوقت في مقهى من مقاهي حي (المالكي) المنتشرة بكثرة بالقرب من حديقة الجاحظ، أو ما يصطلح عليه بــ (دوار المطاعم). هكذا يمكن النظر إلى فريقين من مرتادي المطاعم والمقاهي في عاصمة البلاد: الفريق الأول ما يزال يعتصم بأماكن نادرة من طقوس التواصل الاجتماعي، وهم يتوزعون عادةً على مقاهي من مثل:(البرازيل)- تحول ثلثا المقهى إلى بنك بيمو السعودي الفرنسي- و(الروضة) و(الكمال) و(الهافانا) و(قهوة مزبوطة) و(الشرق الأوسط) و (قهوة المتحف الوطني) و(العجمي) بينما يتوزع الفريق الثاني على مقاهي (آب تاون) و(الجميني) و(الكوخ) و(البوليفار) إضافةً لمقاهي ومطاعم (أتوستراد المزة) على سبيل المثال لا الحصر.
انقراض القراءة
طبعاً لا نستطيع القول أن مقاهي الفريق الأول صافية من لوثة التصفح الإلكتروني لمواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المقاهي أيضاً حاولت الجمع بين ميزات المقهى القديم بطاولات النرد وخلوات بعض المثقفين والفنانين، فيما اختفت الجرائد الورقية من أيدي زوار الفريقين، إلا ما ندر. يقول فاضل الكواكبي الناقد السينمائي معلقاً على ذلك: ” يكاد الناس يستغربون مظهري الخارجي وأنا أتأبط جرائد (تشرين) و(الثورة) و(الأيام) و(البناء) و(البعث) أو مجلات (الحياة السينمائية) و(الموسيقية) و(المسرحية)، مصطحباً إياها معي إلى طاولات المقاهي التي أرتادها، فلقد آثرتُ أن أبقى على عاداتي القديمة في قراءة الجريدة وقهوتي السادة على طاولة المقهى، عادات ورثتها عن مقاهي حلب الرائعة، والتي اليوم لا أجدها عند مرتادي المقاهي بدمشق، إلا ما ندر.”
كلام (الكواكبي) يحيل إلى انقراض عادات القراءة التقليدية، كما يشير إلى قطيعة شبه كاملة مع أشكال التلقي القديمة. ظاهرة عززها منع الحكومة السورية لدخول جرائد (السفير) -قبل أن تحتجب- و(الأخبار) و(الحياة) إلى البلاد. المنع الذي ترك الجرائد الرسمية الملاذ الأخير لقراء الصحافة الورقية؛ ساهم هو الآخر في عزوف العديد من هذا الجمهور عن اقتناء الجريدة، ليذكرنا ذلك بما كتبه يوماً المفكر السوري الراحل (بوعلي ياسين-1942- 2000) في كتابه (شمسات شباطية) عندما قال: “أجمل شيء في الجرائد السورية أن قراءتها لا تستغرق أكثر من خمس دقائق!”
عبارة صاحب (عين الزهور- سيرة ضاحكة) تكشف بعضاً من التغييرات الدراماتيكية على شكل المقهى في دمشق، والذي على بؤسه الحالي، وتغير زواره، إلا أنه يشي بالكثير من العلامات التي تجدر قراءتها وفق الواقع المتفاقم في طرد الزوار القدماء، أو القلة القليلة منهم الذين آثروا البقاء داخل البلاد، متمسكين بآخر كراسي الخيزران وطاولات الرخام في مقاهيهم المعتادة، فعلى مدى سنوات طويلة تمكن تجار حي الصالحية من إقفال العديد من حانات ومطاعم المثقفين والفنانين التي تحولت في معظمها إلى مستودعات أحذية ومطاعم شاورما وبنوك.
هكذا على التوالي اختفى مطعم (الريس) واختفت معه طاولة برهان بخاري كنديم مزمن على طاولات عامرة في حانات (فريدي) و (القنديل) و( العمال) عامرةً بأغنيات ومواويل كل من ناظم الغزالي وإياس خضر وحسين نعمة ورياض أحمد.
يسرد الشاعر خليل درويش قصته مع رفاق العمر في مقاهي وحانات دمشق التي اختفت اليوم: “هناك عند ساحة المحافظة وعلى طاولة في مطعم (الريس) كنا نجتمع طوال عشرين عاماً، أنا وبرهان بخاري، ولؤي عيادة، وطارق حريب، ومحمد جومر، وأبو عدنان داغستاني، ومحمد بخاري الموريتاني وعاشق الشام الأول، و طبعاً حبيب قلبي الراحل عادل حديدي. ظرفاء كانت لا تستوي الجلسة بدونهم. هؤلاء اللماحون أنقياء القلوب، ماتوا جميعهم مكتئبين أو حزانى من حربٍ منعتهم من مغادرة منازلهم نحو طاولاتهم في حانات باب توما و(بارات) باب شرقي.”
كنا قد أرسينا تقليداً لتلك الطاولة- يوضح: ” كان كلما مات واحدٌ من ركاب قارب الأحزان هذا، نأتي في اليوم التالي لنشعل شمعةً ونصبُّ كأساً له قبالة كرسيه الفارغ، ثم نشرب بصحته حتى الصباح! اليوم لم يتبقَ سواي على متن مركب الأحزان هذا.”
حيّ الكفار
إقصاء المثقفين والفنانين والظرفاء عن وسط العاصمة ليس أمراً طارئاً على الحياة الاجتماعية في دمشق، فالحكاية تأخذ مديات واسعة من التهميش القسري، وتحت ضغط من بعض الغلاة الذين يعتبرون (شرب الكحول حرام في الشرع) مما أدى إلى نزوح العديد منهم إلى أماكن مهجورة وفرتها الحرب مرةً، وطاردتهم فيها مرات.
على الأقل هذا ما دفع العديد من هؤلاء للجوء إلى بارات باب شرقي وباب توما، ساخرين من هذه الطائفية في تحديد مواقع سهراتهم: “ثمة من يريد أن يقول لنا إذا أردتم أن تشربوا وتسكروا عليكم بالذهاب إلى (حي الكفار)”- يقول فنان تشكيلي رفض ذكر اسمه ويضيف: “المدينة لا يمكن أن تكون مقتصرة فقط على أسياخ الشاورما ومرقة الفول، لا يمكن أن تعيش بلا مكتبات وحانات ومسارح وصالات سينما، لا أراها اليوم إلا تذبل وتضمحل تحت وقع ما تريده وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، ليتدخل أحد ويوقف هذا الخواء المرعب.”
آخر حكواتي في دمشق
الكرسي العالي الذي يتوسط مقهى النوفرة الدمشقي بات شاغراً اليوم بعد موت (أبو شادي) آخر حكواتي في دمشق؛ فمنذ رحيله قبل أربع سنوات، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي، إلا أن ذلك لم يمنع المخرج المسرحي سامر عمران في عرضه (نبوءة) من اختيار (مقهى الشام القديمة) المواجه مباشرةً لمقهى (النوفرة) ليكون مكاناً بديلاً لعرضه المسرحي، في تحدٍ فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب في بلاده عبر توريةٍ ذكية، كان أسند فيها (عمران) دور الحكواتي الغائب للممثلة ربا الحلبي؛ لتسرد الفنانة الشابة هذه المرة حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل، وجمر أدخنتها، وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ مؤثر من نص (ملحمة السراب) لسعد الله ونوس، ليكون هذا العرض بمثابة تغيير لوظائف وطبيعة المقهى الشعبي، ومحاولة لخلق فضاء ثقافي منه، كما حدث عام 2008 مع فعالية (مقهى الذاكرة) الذي أطلقته احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008.
كان ذلك قبل اندلاع الأحداث الدامية في سورية، حيث استضاف هذا النادي في (مقهى الروضة) العديد من الشخصيات والرواة الشعبيين، في تواصل اجتماعي دأب إلى تغيير شكل المقهى القديم، من مجرد ملتقى يومي لتزجية الوقت، إلى ما يشبه منتدى ثقافي وسياسي.
ظاهرة لم تستمر طويلاً، فما لبثت أن اختفت مع انقضاء عام الاحتفالية، ليعود المكان إلى صيحات شلل (الشدّة) وتطاير أوراق اللعب، لاسيما من شريحة ممثلي التلفزيون الذين ما يزال من بقي منهم يحافظ على بطولات (التريكس) و(الطرنيب) و(الشتائم) قريباً من سجادات الصلاة المفروشة بين طاولات المقهى الذي يجاور مبنى البرلمان السوري!