د. أباهر السقا، غزّة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني
مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ٢٠١٨
- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
بدأ التفكير في إجراء هذا البحث اثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه، إذ لاحظت أن ثمة نقصًا في الدراسات التي تٌعنى بالتاريخ الاجتماعي لمدينة غزة فيما يخص دور مدينة غزة في بث العصرنة والتحديث في المجتمع الفلسطيني قبل النكبة. وقد تراءى لي أن هناك تهميشًا لمدينة غزة عند دراسة موانئ فلسطين وشبكات الطرق والمنشآت الاقتصادية، وكذلك عندما يجرى الحديث عن إسهامات المدن الفلسطينية في التحديث المديني الذي بدء في نهاية الفترة العثمانية والذي تم بتره مع النكبة. وهذا التهميش يظهر عندما يجرى تأريخ عمليات التحديث ككل في المجتمع الفلسطيني وكذلك غياب الدراسات التي تتناول التشكيلات الاجتماعية والتركيبة السوسيواقتصادية للمجتمع الغزّي في تلك المرحلة.
- ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
يتضمن هذا الكتاب عرضاً تفصيلياً للتاريخ الاجتماعي لمدينة غزة خلال فترة الاستعمار البريطاني وحتى نكبة 1948. حرص الكتاب على تقديم قراءة جديدة من منظور سوسيولوجى لم يتم التطرق إليه في دراسة تاريخ مدينة غزة الاجتماعي. عبر تحليله للتركيبة السوسيواقتصادية والسياسية للمدينة وسكانها وعائلاتها، وكذلك عند شرحه لآليات صناعة الوجاهة الاجتماعية. ويتناول الكتاب أيضا عمليات تحديث المدينة والبنى الخدمية والتعليمية والثقافية، كما أنه يقرأ التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها والتغيرات الحضرية الاجتماعية المرتبطة بخدمات المياه والإنارة وإقامة منشآت المدينة ومرافقها ووسائل النقل وميناء المدينة ومطارها ومحطة القطارات. ويسعى لتمحيص أشكال التحديث المدينية، وكذلك يعرض البني الاقتصادية للمدينة وحرفها وصناعاتها وأسواقها ومواردها وتجارتها. كما يهتم بشرح تفصيلات الحياة اليومية والتعبيرات والعادات الإجتماعية والثقافية الأهلية وطبيعة العلاقات الإجتماعية بين المكونات وآليات اشتغالها على نحو غير مألوف.
- ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
واجهت البحث مجموعة من الصعوبات تتمثل: أولاً بأن الفترة المدروسة قديمة نسبيًا، وخصوصًا تلك المتعلقة بشهادات الأحياء ممن عايشوا بداية مرحلة الاستعمار البريطاني. ثانيًا: شح الوثائق الخاصة بمدينة غزة في نهاية الفترة العثمانية وبداية الاستعمار البريطاني ذلك بأن معظم الوثائق يهتم بمدينة غزة بعيد التحولات العميقة التي جرت على المدينة بعد النكبة في سنة 1948. علاوة على ما ذكر؛ ثمة صعوبات أخرى مرتبطة بصعوبة الذهاب إلى قطاع غزة حيث كما هو معروف فإن سلطات الاستعمار الإسرائيلي تفرض حصاراً على قطاع غزة منذ اثني عشر عاما؛ وكذلك فان مصر تغلق المعبر لفترات طويلة. أخيرا، كثير من الكتابات التي أّرخت للمدينة قدمت وفقًا لمنظورات الباحثين الاأيديولوجية والشخصية، فبعض الكتابات ركز على تواريخ معينة لتراجم البعض، وهمش تراجم آخرين، وعَرض بعض آخر تاريخ عائلات معينة وهمش تاريخ عائلات أُخرى.
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
يعنون هذا الكتاب المرحلة البريطانية التي خضع لها المجتمع الفلسطيني بـ «المرحلة الإستعمارية»، شارحا مبررات هذه التسمية عبر تقديمه محاججة نقدية لاستخدام تعبير «الانتداب» ويقترح استبداله بـ «الاستعمار»، حيث يقدم الكتاب نماذج عينية يعمل على تحليلها تظهر خضوع المجتمع الفلسطيني للإستعمار، ويدافع عن ضرورة إسقاط تعبير الانتداب كتعبير قانونى. ولذا فان الكتاب يتموضع في حقل إعادة الاعتبار لصوت الأهالي ووجوب الإفلات من القمع «الإصطلاحي»؛ واستدعاء إعادة الاعتبار لحق المٌستَعمَرين أنفسهم بتوصيف حالة مجتمعاتهم ودراستها. الأمر الذي ينسجم مع التوجهات الجديدة لمجموعة من الباحثين الفلسطينيين والعرب الساعين للخروج من عباءة الهيمنة المعرفية الغربية وفرض قراءتها لتاريخ المنطقة والسعي لتقديم محاولات بديلة عنها. كما أن الكتاب يرتكز على مقاربة سوسيوتاريخية تعتمد على المقاربة الميكروسوسيولوجية -المصغرة-، بمعنى يبتعد الكتاب عن عرض التاريخ العام لفلسطين بل يركز على التاريخ الخاص لمدينة غزة، فيغوص في تفاصيل اليومي، ويمحص الخارطة السوسيواقتصادية بطريقة نقدية. هذه المقاربات التي يعرضها الكتاب تنسجم مع توجهاتي كباحث يشتغل على دراسة تاريخ الفضاءات الاجتماعية وأشكالها المتنوعة وأشكال التعبير عنها، وتمحيص دورها في تشكيل الفاعلين للمشهد الاجتماعي؛ ورغبتي في فتح السجالات عما درس سابقا وعن الأدوات والمنطلقات.
- ماهو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
يمكنني اعتبار هذا الكتاب كواحد من أهم الاعمال التي انجزتها قربا لقلبي وعقلي، حيث أني أنحدر من مدينة غزة، وتأريخ تاريخ المدينة في هذا الكتاب كان بالنسبة لي بمثابة رد دين لمدينتي علي ورغبة منى لإنصافها بحثيا ومعرفيا، لتسترد مكانتها لدى الباحثين عند دراستهم للتاريخ الاجتماعي الفلسطيني المعاصر.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
هذا الكتاب موجه للجمهور العام وإن تخللته بعض المقاربات السوسيولوجية التحليلية، ولكنه يهدف بالأساس إلى إطلاع القراء على تاريخ مدينة غزة الاجتماعي خلال فترة الاستعمار البريطاني، وذلك لان ثمة تشوه يرافق المخيال العام حول مدينة غزة وتاريخها، وهذا الكتاب يحاول إعادة قراءة تاريخ المدينة باعتبارها إحدى أهم المدن الفلسطينية والعربية في تلك الفترة التاريخية وعبر عرضه للتبدلات التي طرأت على المدينة تاريخيا؛ فانه يطمح إلى تزويد القراء بقراءة سوسيوتاريخية تسمح بفهم أكثر عمقا لمدينة غزة وربط الماضي بالحاضر.
- ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
سأسعى لاستكمال هذا المشروع حيث سأقوم بدراسة الحقبة التاريخية التالية لمدينة غزة، أي للفترة الواقعة بين 1948-1967 حيث ان المدينة شهدت تغيرات جذرية قلما عاشتها مدينة فلسطينية أخرى حيث وصل إليها من اللاجئين أكثرمن ثلاثة أضعاف السكان خلال أيام معدودة؛ وستشهد المدينة خلال هذه الفترة تغيرات هائلة على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسيعمد هذا الجزء التركيز عن ما لم يدرس أي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، والتبديلات التي طرأت على التركيبة السوسيو اقتصادية، و سيعرض الصراعات الناعمة بين المكونات الاجتماعية المختلفة، و شرح كيف تراجعت شرائح اجتماعية وحلت محلها اخرى، وتحول مدينة غزة لمدينة ضخمة، وتقلص لوائها، وفحص كل هذه التغيرات على الصعد الحضرية والاقتصادية والاجتماعية.
مقطع من الكتاب
كيف نقرأ تاريخ مدينة غزة وتحديدًا تاريخها الاجتماعي؟ كيف نؤّرخ للمدينة، هل نقرأ تاريخ جنوب فلسطين؟ أو نقرأ لواء غزة، أو نقرأ تاريخ قطاع غزة؟ فتسمية قطاع غزة هذه تسمية ارتبطت بالإدارة المصرية أثناء إدارتها هذه المنطقة. إذ سماها رئيس جمهورية مصر العربية آنذاك محمد نجيب، وعين عليها حاكمًا إداريًا سنة 1954، ليكون حاكمًا على قطاع غزة الذي تقلصت مساحته، فأضحى 48 كم طول ، وما بين 6و9كم عرضًا، من رفح حتى بيت حانون. أي هل علينا أن نقرأ التواريخ الاجتماعية لكل مدن القطاع؟ مدن غزة وخان يونس ورفح ودير البلح، أم نقتصر في قراءتنا على تاريخ مدينة غزة فقط. إحدى الصعوبات الحالية هي تعّرض تاريخ مدينة غزة لعدة تشّوهات: التشوه الا ول هو التعامل مع قطاع غزة كما لو كان مدينة واحدة لمصلحة صورة مبهمة مجهُولة لمجتمع «متجانس»، ليصبح بذلك القطاع كله مدينة واحدة كبيرة تلغي المدن الاخرى وتواريخها، في ظاهرة نادرة في المشهد الفلسطيني، فُتلغى المسافات اللازمة للتحليل السوسيولوجي لعرض تاريخ المدينة وتنوعها الطائفي والاجتماعي والثقافي. إذ نجد بعض الباحثين يقول «الضفة الغربية» في مقابل «غزة»، كما لوكان كل قطاع غزة مدينة واحدة. ويصّح هذا الامر على الصحافيين والمهتمين، وطبعًا أيضًا على المواطنين العاديين. أحد المسوغات التي دعتني الى البحث في التاريخ الاجتماعي للمدينة، إذا، هو تلك الرغبة الجامحة لإعادة قراءة تاريخ المدينة. بعدما تعرضت لعمليات تشويه، إما عبر اختزالها بمدينة «بائسة» ومكتظة بالسكان، وإما «كعنوان للفقر والبؤس» في المخيال الجماعي الفلسطيني العام. التشويه الثاني نجم عن طريق كتابات قدمت تاريخ المدينة بطريقة مضخمة جعلتها مدينة سكانها «عمالقة» و«جبارون». هذه القراءة اللاتاريخية تضاف اليها قراءات أخرى تحصر اهتمامها بالمدينة من خلال اهتمامها بتاريخها السياسي، ودور مدينة غزة في تشكيل الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وتأليف حكومة عموم فلسطين، وانطلاق الكفاح المسلح من قطاع غزة مع بداية خمسينيات القرن الماضي، وهو الكفاح الذي حاز كل الاهتمام وهّمش تاريخ غّزة الاجتماعي.