أصبحت الاحتجاجات الصيفية طقسًا سنويًا في العراق، لكن الأسابيع القليلة الماضية شهدت تصعيدًا شديدًا. ففي البصرة، خرج الشباب بالآلاف للاحتجاج على مستويات المعيشة المتدنية والمتدهورة أحيانًا وعلى الفساد وانعدام الخدمات العامة وعلى حرمان خريجي الجامعات من فرص العمل وتلوث البيئة في هذه المحافظة على وجه الخصوص وارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان والامراض المستعصية الاخرى. وأضرمت النار في مبان حكومية ومقرات أحزاب سياسية وفي القنصلية الإيرانية. وأسفر ذلك عن مقتل 15 متظاهرًا وعدد من رجال الأمن وجرح كثيرين. وثمة حظر تجول مفروض الآن، ويزعم قادة الاحتجاج أنهم تلقوا تهديدات بالقتل، وأن المحامين الذين تبرعوا للدفاع عن المتظاهرين المعتقلين اغتيلوا بإطلاق النار من سيارة عابرة.
ومع اشتداد العنف في الأسبوع الماضي، تحركت مؤسسات الدولة بطريقتها المعهودة على الدوام. فقد نظّم البرلمان جلسة طارئة غير دستورية، وعرض رئيس الوزراء التدخل مباشرة، ودعا كثيرون إلى محاكمات جريئة أمام محاكم مكافحة الفساد. لقد جربت كل هذه الأساليب في الماضي، من جانب الأشخاص أنفسهم الذين يقترحونها الآن، ولهذا السبب سوف تتبدد بالطريقة نفسها كما جرى في الماضي.
لا توجد حلول قصيرة الأجل تلبي مطالب المتظاهرين، على الرغم من أن درجات الحرارة ستنخفض في الأسابيع القليلة المقبلة، الأمر الذي سيمنح بعض الراحة للحكومة. ولكن تجنب كارثة انهيار شبكات الكهرباء والمياه في المرة القادمة يتطلب من الحكومة العراقية أن تفعل أكثر من مجرد إعطاء الأمل بمساعدة من الطقس.
لقد تركت أحداث البصرة بالتأكيد أثرا مهمًا على مفاوضات تشكيل الحكومة المقبلة. فالأحداث خلقت قطيعة مع الماضي، أحيت بعض القوى السياسية والدينية القائدة في البلاد الدعوة إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، أو على الأقل أن يرأس الحكومة المقبلة تكنوقراط. ويقوم هذا المقترح على افتراض أن سبب عدم فعالية الحكومات العراقية المتعاقبة هو أنها شكلت من وزراء فاسدين تعوزهم الكفاءة. وبالتالي، فإن حكومة التكنوقراط ستحل هذه المسألة عن طريق استبدال هؤلاء الوزراء بخبراء مستقلين.
ثمة أسباب عديدة تدعو إلى القلق من الحكومات التكنوقراطية. أولًا، ليس هناك مطلقًا أي ضمان بأنها ستحل مشكلة المصالح الذاتية. فالنظام الدستوري العراقي يقيد نطاق عمل الحكومة بقانون الموازنة السنوية، الذي يجب أن يقره البرلمان. وإذا شكلت حكومة مستقلة، فسوف تتعارض على الفور مع المصلحة الذاتية لاعضاء البرلمان، وهي معركة خاسرة بالتأكيد. فطوال السنين السابقة، ضمت الحكومات المتعاقبة بضعة وزراء أكفاء، ولكن معظمهم همّش بلا هوادة عندما أبدوا حماسًا زائدًا في انتقاد الفساد أو تقاعس الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن دوماً أن يكون المستقلون فاسدين مثل أعضاء الأحزاب السياسية. وأي شخص ينضم إلى الحكومة المقبلة سيعمل ضمن إطار مكافحة الفساد نفسه، وهو إطار قاصر بدرجة يرثى لها. ويمكن للمستقلين بسهولة الاستفادة من هذا الوضع في الإثراء الشخصي، أو سيجدون أنه من المستحيل مكافحة الفساد لدى الآخرين.
وسوف يجد أنصار حكومة التكنوقراط صعوبة كبيرة في العثور على إداريين أكفاء، ويرجع ذلك أساسًا إلى قلة عدد العراقيين الذين لديهم تجربة ناجحة في إدارة مؤسسات مترهلة كالوزارات الحكومية. ويدل التوجه إلى ترشيح أكاديميين (ليس لديهم خبرة مناسبة) لشغل مناصب وزارية على عمق التحدي.
ولعل الأهم من ذلك أن حكومة التكنوقراط ستكون غير منسجمة داخليًا مثل جميع حكومات العراق بعد عام 2003. فوزراء جميع حكومات ما بعد 2003 لم يوافقوا على خطة استراتيجية متماسكة، ولا يقبلون تحمل المسؤولية المشتركة عن الفشل، وهم دائمًا على استعداد لإضعاف بعضهم بعضًا. ويوم السبت الماضي، نظم البرلمان جلسة طارئة عرضت فيها كل هذه الاتجاهات السلبية عرضًا كاملًا. وتبادل وزراء في الحكومة ومسؤولون كبار من التحالفات السياسية نفسها الاتهامات بالإهمال على الهواء مباشرة.
فأي حكومة تكنوقراط ستكون محكومة بهذه الآليات نفسها، وذلك تحديدًا لعدم وجود مجموعة خبراء جاهزين أعدوا برنامجًا حكوميًا مقنعًا يحظى بدعم البرلمان أو الشارع. وهكذا فإن الفرضية القائلة بأن حكومة الخبراء ستوافق فورًا على خطة عمل وتعمل بانسجام وفعالية ليست سوى محاولة متواضعة أخرى لحل مشاكل العراق بالتمني.
الحقيقة المحزنة هي عدم وجود حل قصير الأجل لحالة البصرة. فلقد وقع ضرر كبير جراء الصراع والفساد والتهاون. وأي حل جديد يحتاج سنوات لتطويره، ويتطلب نهجًا متعدد الركائز.
يتعين بذل الجهود لضمان ارتباط كبار المسؤولين بمصالح العراق الوطنية العليا الذي يتحكمون بمصيره. فكثير من هؤلاء (والبعض يقول 80 بالمئة) يبقون عائلاتهم ومصالحهم الشخصية خارج العراق، لدرجة أنهم لا يتأثرون بتدهور الخدمات. ولذلك يستوجب سن سلسلة من الإصلاحات لمواجهة هذه الظاهرة: ينبغي منع المواطنين مزدوجي الجنسية من تقلد المناصب العليا، وينبغي منع الوزراء والمدراء العامين من الاحتفاظ بأية حسابات أو ممتلكات في الخارج، وينبغي إجبار جميع الوزراء على استخدام الخدمات العامة العراقية، وليس إرسال أبنائهم إلى المدارس والمستشفيات الأجنبية للاستفادة من خدمات لا يرغبون في توفيرها للعراقيين العاديين.
وأخيرًا، على النخبة الحاكمة في البلاد وضع خطة مقنعة لتحسين مستويات المعيشة. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا عبر حوار مدروس بين القوى السياسية التي لديها وجهات نظر متشابهة. ويتطلب ذلك تفكيرًا جديًا ومساهمة من مراكز الأبحاث والرأي والإدارات الحكومية ومدققي الحسابات وغيرهم، وقبل كل شيء، يتطلب بعض الوقت. لكن الاستثمار سيكون مجديًا، لأن هذه الجهود بالضبط هي التي تقود إلى ظهور أفراد يمتلكون المهارات اللازمة للإشراف على تنفيذ جهود الإصلاح الوطني.
ولكن في نهاية المطاف، الشرط الأساسي لأي حل لهذه الأزمة هو حسن النية، والاخلاص، وهما أمران نادران دائمًا في العراق. لكن عجلات التمرد تدور بقوة متزايدة، لذلك فإن أي إجراء يتخذ يجب أن يحقق تحسينات حقيقية وسريعة للناس العاديين.