بعد الموافقة على قانون الدولة القومية "الجديد"، يبدو أننا نتجه إلى مصير لا مفر منه، ألا وهو مواجهة الفوقية اليهودية العنصرية (Jewish Supremacy) في أبشع صورها.
أنا فلسطيني أحمل جنسية جنوب أفريقية حيث كنت قد أمضيت 5-6 سنوات في جمهورية جنوب أفريقيا، بدءاً من عام 1997، وكان ذلك بعد ثلاث سنوات من أول انتخابات جنوب أفريقية شارك بها مواطنون من كافة الأعراق وأدت في نهاية المطاف إلى اختيار نيلسون مانديلا كأول رئيس أسود للبلاد.
لقد كانت تلك السنوات عنيفة، خاصة مع وجود شبح الفصل العنصري الذي ظل يلوح في الأفق بعد طغيانه في جنوب افريقيا لمدة 46 سنة، تاركاً وراءه بعض المشاكل التي لا يزال على سكان البلاد، وبأعراقهم المختلفة والمتعددة، التعامل معها.
ما يثير الإنتباه في هذا السياق هو عدم رغبة أي دولة في العالم في أواخر الثمانينيات في إقامة أي علاقة بنظام الفصل العنصري ولا حتى الاعتراف بالمعازل العرقية، التي كانت تسمى "أوطان مستقلة" مُنحت كرشوةً لبعض الأفارقة، سكان الأرض الأصليين، من قبل نظام الفصل العنصري. من الجدير بالذكر أيضاً أن المجتمع الدولي يعتبر جريمة الفصل العنصري ثاني أخطر جريمة ضد الإنسانية بعد الإبادة الجماعية.
ولهذا السبب بالذات لا زلت على قناعة تامة بأن حقي الشرعي، كوني ابنًا لأبوين لاجئَين من قرية زرنوقة المطهّرة عرقياً عام 1948، بالعودة إلى قريتي طبقًا لقرار الأمم المتحدة194 الذي يجب أن يتم العمل على تطبيقه من المجتمع الدولي.
كما أنني، ولنفس السبب، أعارض الترويج لحل الدولتين العنصري واعتباره "الحل الذي يحقق التطلعات الوطنية للإسرائيليين والفلسطينيين" كما تدعي السيادة الرسمية المهيمنة.
والحقيقة أنه دائما ما يجتاحني شعور بصدمة قوية بسبب وجود سياسيين يعتقدون أنّ هناك جانبين متساويين لما يطلق عليه "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي “. هل كان هؤلاء السياسيون أنفسهم يعتقدون في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم أن هناك طرفيين متساويين في جنوب أفريقيا، طرف أبيض وطرف أسود، ويملكان نفس الحق في الأرض؟
إن إسرائيل الآن تُعرِف نفسها على أنها "دولة يهودية" وتحرم سكانها الفلسطينين الذين يشكلون 22% من السكان من حقهم في المواطنة. (بالإضافة الى ما يزيد عن أربعة ملايين فلسطيني يقبعون تحت السيطرة العسكرية المباشرة للاحتلال في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة).
ولذلك لا تُعتبر إسرائيل دولة لكل مواطنيها، بل دولة "للمواطنين اليهود" حيث أن أي مواطن يهودي من أي دولة في العالم لديه كامل الحق في العيش كمواطن إسرائيلي والتمتع بكافة الحقوق في إسرائيل، تلك الدولة التي تحرمنا نحن السكان الأصليين من نفس الحقوق في وطننا، فنحن مصنفون تصنيفات دونية تتراوح بين (عرب إسرائيل) و (سكان القدس) و(عرب الضفة الغربية وقطاع غزة). إن القوانين العنصرية التي كانت تحظر تملّك السود في مناطق البيض تحت نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، سارية في نظام الفصل العنصري في إسرائيل. كما تقوم إسرائيل بحظر السكان الأصليين ليس فقط من العيش على أراضٍ تملكها "مؤسسات يهودية"، بل إنها لا تسمح لهم بالإقامة في أية مناطق مخصصة "لليهود".
وحتى على الصعيد الشخصي، لدي إثبات ملكية لأرض والديّ في إسرائيل ولكن ليس لديّ حق "قانوني" في ذلك لأن ممتلكات والديّ، مثلها مثل الممتلكات الخاصة بالملايين من الفلسطينيين الآخرين، قد سُلبت منا وأعطيت لليهود.
ومن المعلوم أنه لا يوجد قومية اسرائيلية، فتلك القومية مرتبطة بالهوية الدينية اليهودية، تماما مثلما كان هناك تعريف عرقي إبان نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. فاذا وُلِد أحد لأبوين فلسطينيين يعيشان في اسرائيل سيكون محروماً من الحقوق التي يتمتع بها من يحمل "القومية اليهودية" وسيتم إجباره على الخضوع لاضطهاد ممأسس. ولا يوجد بديل لذلك إلا طريق المقاومة، فذلك هو رد الفعل الطبيعي لأي انسان نبيل, مثلما فعل نيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ.
لقد كانت القيادة الفلسطينية في أوسلو,1993, تجري وراء سراب إقامة بانتوستان يمكن للعالم أن يعترف به على انه دولة فلسطين. في ذلك الوقت، كان ذلك المشروع بمثابة القبول ببرنامج "اليسار" الصهيوني الذي صادقت عليه الولايات المتحدة. أما الآن، فالمطلوب منا هو القبول ببرنامج اليمين الصهيوني المتطرف في حكومة إسرائيل والذي صادقت عليه حكومة اليمين في الولايات المتحدة بعدما أطلقت عليه اسم "صفقة القرن".
والحقيقة أن الرد على قانون القومية يجب ألا يكون انفعالياً (حتى هذا لم يحصل!) ولكن يجب أن يكون بمقدار هذا الحراك العنصري، وأن يرمي الكرة في ملعب المجتمع الدولي الحريص كل الحرص على أمن إسرائيل ومستقبلها على الرغم من كونها مشروع استعمار استيطاني بامتياز، وعلى الرغم من دسترتها للأبارثهيد بشكل فج حيث كانت في السابق تقحم كلمة "الديمقراطية" في سياق اضطهادها للشعب الفلسطيني بمكوناته الأربعة. وبالتالي فإن استمرار تأكيد القيادات الفلسطينية على التزامها بحل الدولتين العنصري ما هو إلا ورقة توت تقوم إسرائيل باستخدامها للتشويش على أي حملة تُشن عليها من قبل المجتمع المدني الدولي. إن رمي الكرة في الملعب الدولي يحتم علينا أن نطرح رؤية ديمقراطية تتناغم مع القانون الدولي، على علاته، وينتهج أسلوباً نضالياً لا تستطيع إسرائيل مقارعته ولا يستطيع المجتمع الدولي إلا تبنيه وإن على مراحل تدريجية تراكمية.
نحن أمام مفترق طرق كبير ونسير نحو مرحلة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. المثير للقلق هو عدم قدرتنا على استثمار التضحيات في اتجاه تحول إيجابي، وذلك نابع إما عن طفولة سياسية مفرطة لا ترى أبعد مما بين القدمين، أو لمصلحة طبقية ضيقة نمت نمواً كبيراً منذ عام1993.
خذ مثلا موقف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من قانون القومية العنصري وإدانته باعتباره" نقطة ارتكاز لصفقة القرن وجزء لا يتجزأ منها، من حيث تدمير المشروع الوطني الفلسطيني وإلغاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة بعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران عام 1967."
و هنا يكمن التناقض الصارخ بين "الإيمان البراغماتي" بحل الدولتين، اي القبول بدولة على 22% من أرض فلسطين، و في نفس الوقت دفاعك عن الميثاق الوطني الذي ينص في المادة 2 على أن "فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني وحدة إقليمية لا تتجزأ." إن المشروع الذي وافق على حل الدولتين العنصري قد مهد الطريق لقانون القومية العنصري.
هذا هو السياق الذي يمكن من خلاله ان نفهم قانون الدولة القومية الجديد-القديم والذي يهدف إلى إعادة تدوير نظام الفصل العنصري. وعليه فإن قانون القومية يجب أن يشكل دافعا لإعادة توجيه البوصلة بعد سنوات الضياع العجاف التي خلقتها اتفاقيات أوسلو التطبيعية وإعادة توحيد الأهداف الكفاحية للشعب الفلسطيني بكل مكوناته.
أنظر لجانب من الصورة فأرى قانون قومية عنصري، حصار إبادي، قتل أسبوعي كل يوم جمعة، اعتراف أمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، تطبيع عربي مريع، إجراءات عقابية، فتبدو الصورة بالغة القتامة! أنظر للوجه الآخر فأرى مدن أوروبية تتبنى المقاطعة، برلمان إيرلندي يقاطع بضائع المستوطنات، جامعات وكنائس أمريكية تسحب استثمارات من شركات متواطئة مع الاحتلال، فنانون/ات يرفضون إقامة حفلات في تل ابيب، فرق رياضية تمتنع عن مباريات لها مع فرق إسرائيلية، شركات دولية تنسحب من مشاريع في إسرائيل، مسيرات عودة متواصلة...إلخ فأتذكر أن أحلك لحظات الليل ظلمة هي تلك التي تسبق بزوغ الفجر.
وما هذه اللحظة في فلسطين إلا التجسيد العملي لمقولة أنطونيو غرامشي أن الثورة--بالمعنى العام--ما هي إلا نضال حتى الموت بين المستقبل، بخياراته المفتوحة والمتعددة، والماضي. وما محاولة إسرائيل إعادة تدوير الأبارثهيد إلا جزء من الماضي الكولونيالي في مواجهة مستقبل من الحرية والعدالة والمساواة في فلسطين التاريخية.