[ترجمة: م.ف. كلفت]
في آذار (مارس) 1986، توجه ملازم أول في الجيش الجزائري اسمه عيسى، مرافقًا رئيس قسم الأرشيف والوثائق في مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، سميح شبيب، إلى معسكر لجيش التحرير الفلسطيني في الصحراء الجزائرية. أشار الملازم أول عيسى إلى صفوف متراصة من الصناديق البيضاء تغطيها الخيام وقال: "هذا هو الأرشيف الفلسطيني." من أين كان له هو وشبيب أن يعلما أن مجموعة الوثائق تلك ستبقى هناك، مجهولة المحتويات وبعيدة عن المتناول، بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود؟
تأسس مركز الأبحاث في بيروت، في 28 شباط (فبراير) 1965، بقرار من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بُعيد تأسيس المنظمة نفسها في أيار (مايو) 1964. وكان المركز، الذي تأسس في عهد أحمد الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير، يؤدي دور المنتج المعرفي وحافظ السجلات في المنظمة. وبالإضافة إلى ذلك كان مكلفًا بـ"جمع الوثائق القديمة والمعاصرة المتصلة بالصراع العربي–الصهيوني، ومتابعة جمع ما يستجدّ منها، وتنظيم سبل الاستفادة من هذه الوثائق." هذا المقال هو تحقيق بحثي في المصير الغريب لأرشيف مركز أبحاث منظمة التحرير. وهو يعيد بناء قصة ضياع هذا الأرشيف، ويروي أسباب عدم استرداده قط. وهو يسلط الضوء على استيلاء إسرائيل على الموجودات الفلسطينية من المستندات والوثائق، وتخلي القيادة الفلسطينية بنفسها عن سجلاتها. كما يتناول تداعيات هذه الخسارة الأرشيفية على كتابة التاريخ الفلسطيني. وينقلنا نقاش وتحليل هذه التداعيات إلى الأرشيف الجديد المتأسس في ظل السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاقية أوسلو، الأرشيف الوطني الفلسطيني.
في 13 أيلول (سپتمبر) 1993 وقع ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير ويتسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي على اتفاقية أوسلو. وكرست العملية المترتبة عليها سيطرة محدودة للسلطة الفلسطينية على الضفة الغربية وغزة، تحت رعاية قيادة المنظمة التي كانت قد عادت من تونس العاصمة. تلت ذلك عملية بناء مؤسسات، وفي 1994 أنشأت السلطة الأرشيف الوطني الفلسطيني باعتباره مخزن الإيداع الرسمي لسجلاتها. يتقصى هذا المقال أوجه الاختلاف بين الأرشيف السابق على 1993، أي أرشيف مركز الأبحاث، وبين أرشيف شبه الدولة. ويستكشف أوجه التمايز بين فلسطينَيْن مشَكَّلتين أرشيفيًا والتحول المسخي للحركة الوطنية من مشروع تحرير إلى مشروع إقامة دولة. يكشف المقال كيف أن إسكات أرشيف والانتصار لآخر له ثمنه الذي ينعكس في تشكيل حدود إنتاج التاريخ الفلسطيني الحديث.
يناقش القسم الأول من هذا المقال التراث الفكري حول الأرشيف الحديث، معاينًا عن كثب تكوين أراشيف حركات التحرر. ويروي القسم الثاني قصة مركز أبحاث منظمة التحرير من نشأته إلى تبدده. أما القسم الثالث والأخير فيضع تبدد أرشيف مركز الأبحاث وتكوين الأرشيف الوطني الفلسطيني في سياق الانتقال المؤسسي من منظمة التحرير إلى السلطة. ولا يتسع المجال أمام هذا المقال لتحليل تأريخات منظمة التحرير والسلطة بكلّيتهما أو شبكة الفاعلين بتداخلاتها الملتبسة وعناقيد القوى والتحالفات التي حددت هوية كلتا المؤسستين على مدار نصف قرن. وبدلًا من ذلك فسوف يركز على الحَرَكيات الداخلية والتحولات ذات الصلة بقصة أرشيف مركز الأبحاث.
(1)
الأرشيف والتاريخ والسلطة
الأرشيف هو الأرشيف بألف لام التعريف … وهو قد لا يعني الموقع المادي ولا مجموعة ما من الوثائق. وإنما قد يعمل كمجاز استعاري قوي عن أي متن قوامه حالات انتقائية من النسيان والتذكر.
—آن لورا ستولر
هذا المقال لا يتناول مركز أبحاث منظمة التحرير بوصفه مجموعة من الوثائق الحاوية لحقيقة تاريخية عن منظمة التحرير. بل يفسر الأرشيف بوصفه مؤسسة لإضفاء الصدق على المعرفة، أي ما تشير إليه آن لورا ستولر Ann Laura Stoler كمنظومة من التذكر والنسيان توفر أساسًا وثائقيًا لبعض دعاوى الحقيقة المتمثلة في سرديات بعينها. يحلل المقال رحلة الأرشيف على خلفية الانعطافة الأرشيفية، ما يعني تحليل الأرشيف لا كمصدر وإنما بوصفه ذاتًا فاعلة. وكما تشرح ستولر فإن الأرشيف بوصفه مصدرًا هو مفاد الرؤية التقليدية للأرشيف كمؤسسة منها يمكن استخلاص وثائق ومن ثم أدلة وحقيقة تخص الماضي. أما الأرشيف بوصفه ذاتًا فيقضي بقراءة الأرشيف كموقع لدراسة إثنوغرافيا الدولة، وتحليل تكونه والمعرفة الناتجة المترتبة عليه كتجليات لسلطة الدولة. تدافع ستولر عن نوع من قراءة الأرشيف يعاين صنع الوثائق باعتباره سيرورة إنتاج حقائق، ويعاين استخدام المادة الأرشيفية باعتباره سيرورة استهلاك حقائق. فالأرشيف لا يكتفي بتسجيل وقائع حال معينة تشكل أساسًا لـ"تواريخ مشمولة بالعناية والتشذيب" وإنما ينتجها كذلك.
أراشيف حركات التحرر وعملية إنتاج التاريخ
إن بناء أراشيف وطنية وصيانتها عمل يقوم في ذاته على طريقة فهم معينة للعلاقة بين الإنتاج الأرشيفي وكتابة التاريخ، وهي طريقة تبتغي شرعنة أنظمة السلطة. وقد فهمت الدول الدور المحوري للأرشيف في ترسيم الحدود التي تشكَّل داخلها التواريخ، ومن ثم سعت إلى السيطرة على الأرشيف. أما أراشيف حركات التحرر، وبالرغم من اختلافها الجذري من ناحية ظروف إنتاجها، فهي تلعب دورًا كلي الحضور في تشكيل السرديات التاريخية. وبناء أرشيف مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير مادة تثري تحليل أراشيف حركات التحرر من ثلاثة أوجه.
فأولًا، وعلى الرغم من أنه ليس نمطيًا أن تحتفظ حركات التحرر بأراشيف، فعلت منظمة التحرير ذلك. في مقالهما [«توثيق حركة تحرر جنوب أفريقيا»] "Documenting South Africa’s Liberation Movement"، يتأمل برايان وليمز Brian Williams ووليم ك. والاك William K. Wallach الجوانب السياسية لتسجيل وحفظ أراشيف الحركات المنخرطة في نضال التحرر الجنوب أفريقي. وهما يدفعان بأن حركات التحرير تميل إلى عدم الاحتفاظ بأراشيف نظرًا لتوليفة من قمع الدولة والانشغال بالتعبئة والتجنيد—ما يجعل من أي جهد لتوثيق التاريخ أمرًا ثانويًا. والسجلات التي نجت ووصلت إلى أراشيف التحرر انتهى بها المطاف هناك من باب "الحظ والصدف السعيدة أو كفكرة لاحقة." واحتفاظ منظمة التحرير بأرشيف هو حقيقة يمكن تفسيرها بطائفة من الممكِّنات التي أحاطت بالمنظمة في نشأتها. فالتأسيس الرسمي لمنظمة التحرير في 1964 كمؤسسة تابعة لجامعة الدول العربية، لا كخلايا ثورية سرية، سمحت بمأسسة أنشطتها وإنشاء مركز أبحاث وأرشيف. كما أن تصور منظمة التحرير لأرشيفها وإيجادها إياه في وقت سابق على التثوير الجذري لمنظمة التحرير بقيادة عرفات بدءًا من 1969 هو واقع سمح بما ترتب على ذلك من تجاور غريب بين الثورة المسلحة ومؤسسة الأرشيف.
وثانيًا، فإن بنية منظمة التحرير التنظيمية القائمة في الشتات سهلت قدرتها على الاحتفاظ بسجلات. وفي حالة حركة التحرر الجنوب أفريقية، فإن عملها السري أعاق من قدرة التنظيمات على إنتاج وثائق وتسجيل خبراتها. وللمفارقة، تكفل حظر المؤتمر الوطني الأفريقي، وما ترتب على ذلك من تغيير موقع البنية التنظيمية لتصبح في الشتات، بتخفيف القيود المفروضة في السابق على نشر الوثائق وإنتاج السجلات. أما منظمة التحرير، فكانت ذات طابع شتاتي منذ البداية، ولم تكن قيادتها خاضعة مباشرة لحكم الجهاز القمعي الخاص بدولة إسرائيل. سمح هذا الوضع بهامش حرية للعمل والتوثيق يعتد به، فقام مركز الأبحاث بأرشفة الأثر الورقي المتجمِّع. ولا يعني هذا القول بأن منظمة التحرير تخلصت في عملها من قمع الدولة. فطبيعتها الشتاتية وتبعيتها للأنظمة العربية أمران طرحا أمامها تنويعات من التحديات الخاصة بهما، دفعت بالمنظمة إلى "توازن حساس وبالغ الخطورة."
ثم تأتي إسرائيل، التي لم يسلم أرشيف مركز الأبحاث من يدها الطولى. فهجمات إسرائيل المتكررة، ثالثًا، والتي لا يمكن وصفها بالصدف، ناهيك بالسعيدة، على أرشيف مركز الأبحاث وصولًا إلى استيلائها عليه في 1982، تؤكد صعوبة الاحتفاظ بسجل وثائقي كامل أثناء النضال في سبيل التحرر الوطني. وسرقة الأرشيف تدل ضمنًا على أن مجرد الاحتفاظ بمثل هذه السجلات يعد تهديدًا إضافيًا تطرحه الحركة؛ ومصدر هذا التهديد ليس له وجود في ميدان معركة على الأرض وإنما في ميدان معركة السرديات. وكما تكشف حالة الجزائر تحت الاستعمار، كثيرًا ما تخضع أراشيف حركات التحرر للاستحواذ الكولونيالي. ففي مايو 1962، قُبيل استقلال الجزائر، نُقلت كمية ضخمة من الوثائق من الجزائر إلى فرنسا، وهي تحوي سجلات 132 عامًا من الوجود الاستعماري الفرنسي في الجزائر، بالإضافة إلى سجلات المقاومة الجزائرية. وبعد ما ينيف على خمسين عامًا، يَحل الأرشيف الجزائري في فرع أقاليم ما وراء البحار من الأرشيف الوطني الفرنسي Archives Nationales d’Outre Mer في آكس-آن-پروڤانس، ويظل إلى يومنا هذا محل نزاع. تطالب الجزائر باسترداد ما تعتبره حقها الوطني المتمثل في الأرشيف، لكن فرنسا تعتبر الأراشيف ملكية للإدارة الفرنسية، ومن ثم خاضعة لسيادتها. تقول الحجة الجزائرية إن الوثائق التي منشؤها الأرض الجزائرية هي ملك للجزائريين، وأن الإنكار الفرنسي المتواصل لهذا الحق هو شكل من أشكال الإمپريالية الجديدة الثقافية.
إن استيلاء إسرائيل على أرشيف مركز الأبحاث هو حلقة في سلسلة الاستحواذات الإسرائيلية على الذاكرة الفلسطينية. ويقدر ما تحتويه أراشيف دولة إسرائيل Israel State Archives من الوثائق الفلسطينية العائدة إلى ما قبل 1948 والمستولى عليها من المحفوظات العثمانية والبريطانية بحوالي أربعة آلاف متر طولي، بالإضافة إلى الأوراق التي جُمِعت من مصادر مصرية وأردنية وفلسطينية و’أملاك الغائبين‘.
(2)
أرشيف مركز أبحاث منظمة التحرير: من بيروت إلى الصحراء الجزائرية
إن أرشيف المركز لا هو الأرشيف الأوحد للحركة الوطنية الفلسطينية ولا هو الأشد اكتمالًا. يوجد العديد من الأراشيف: أرشيف مكتب رئيس منظمة التحرير، وأراشيف جيش التحرير الفلسطيني، وأراشيف الفصائل بصفتها الفردية وما يتبع كلًّا منها من اتحادات ومنظمات اجتماعية. وقد التفت مؤرخو الحركة الوطنية الفلسطينية المواكبة لفترة وجود المنظمة إلى تلك المجموعات، بالإضافة إلى فيض من الدوريات والمذكرات والبيانات المنشورة الصادرة عن الفصائل والقادة، ومنشورات الفصائل (سواء للاستهلاك الداخلي أم للإتاحة العامة)، والصحافة العربية، ومقابلات التاريخ الشفاهي مع الشخصيات البارزة التي نشطت خلال الثورة. وهذه المصادر الأولية، على تشظيها وتعذر الوصول إليها بسهولة، فإنها تستقر في العديد من مكتبات المطالعة والأراشيف والمجموعات الشخصية داخل الشرق الأوسط وخارجه. ومن هنا، فإن أرشيف مركز الأبحاث ما هو إلا مكون واحد ضمن سيرورة خلق الأثر الورقي للحركة الوطنية وتحلله ونجاته. كما أنه جانب واحد من قصة أعرض تدور حول النسيج الاجتماعي الذي ولدت منه الحركة، والطرق التي أثرت بها الحركة على حيوات مختلف المجتمعات الفلسطينية.
يروي هذا المقال قصة الأرشيف مستمَدة من ثلاثة مصادر مختلفة من حيث النوع. المصدر الأول والأهم هو مجموع المواد المنشورة التي تناقش مصير مكتبة المركز. وهي عبارة عن كتابات لأنيس صايغ، مدير المركز من 1966 إلى 1976، وسميح شبيب، مدير الأرشيف من 1981 إلى 1993، ورئيس التحرير الحالي لمجلة «شؤون فلسطينية». والمصدر الثاني هو سلسلة مقابلات مع أشخاص مرتبطين بمركز الأبحاث بشتى الصفات—موظفين، رواد مكتبة، وأعضاء في منظمة التحرير يتابعون قصة المركز. والمصدر الثالث هو محضر جرد لمحتويات المركز يعود إلى عام 2003. السردية الناتجة عن ذلك هي تجميعة لنُتَف من الخبرات المباشرة، ضُمّت هنا معًا في محاولة لتتبع حياة الأرشيف. وعلى أهمية هذه النُتَف في إلقاء الضوء على مصير الأرشيف موضوع البحث، تظل هناك ثغرات وتناقضات يعتد بها في الروايات الخاصة بمكان وظروف الأرشيف، والمسار المتعرج الذي اتخذه، ودوافع الأطراف الفاعلة. إن محاولة الوقوف على توافر القصدية أو تحميل المسؤولية هما أبعد ما يكون عن الهدف من إعادة بناء القصة، فالهدف هو سرد الروايات السائدة، وإظهار شدة الخسارة، من خلال هذه الروايات.
يقترح ميشيل-رولف ترويو Michel-Rolph Trouillot أن السرديات التاريخية هي نتيجة لتشكيلة من أفعال الإسكات التي تقع في أربع لحظات: الإسكات في لحظة تشكُّل المصادر؛ الإسكات في لحظة تكوين الأراشيف؛ الإسكات في لحظة إنتاج السرديات؛ والإسكات أخيرًا في لحظة كتابة التاريخ. ستروى القصة هنا باعتبارها قصة إسكات للأرشيف، باستعارة مفهوم الإسكات عند ترويو على مستوى الأرشيف. وسوف تبدأ بالإسكات من الخارج على يد إسرائيل، ثم تنتقل إلى الإسكات من الداخل والذي أبّدته قيادة منظمة التحرير.
الإسكات من الخارج: استيلاء إسرائيل على الأرشيف
أنشأت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير مركز الأبحاث في لبنان عام 1965. وكان مقره ببيروت، المدينة التي أصبحت المقر الرسمي للثورة الفلسطينية بدءًا من 1970. واصل المركز العمل في المدينة كجزء من وجود منظمة التحرير، بالرغم من أهوال الحرب الأهلية اللبنانية. في حزيران (يونيو) 1982، استهدفت القوات العسكرية الإسرائيلية الغازية مركز الأبحاث، بالإضافة إلى مؤسسات أخرى تابعة لمنظمة التحرير. لكن المركز واصل أعماله بعد خروج منظمة التحرير من لبنان في آب (أغسطس) من العام نفسه. وكان واحدًا من مؤسسات المنظمة الرسمية القليلة التي أُبقي عليها في لبنان وكان قد تمتع بحصانة دپلوماسية منذ تدشينه. اجتاح الجيش الإسرائيلي بيروت في 15 أيلول (سپتمبر) 1982، وداهمت إحدى وحداته مقر المركز في منطقة كراكاس بالحمرا. نهب الجنود الإسرائيليون محتويات المكتبة نهبًا منهجيًا ولاحقوا العاملين بالمركز في أنحاء المدينة. لم يكن هذا الحدث حالة منعزلة وإنما جزءًا من عملية تنفيذ أوسع لأوامر إسرائيلية بالاستيلاء على الوثائق من مكاتب منظمة التحرير بدأت خلال المداهمات في جنوب لبنان.
في 5 شباط (فبراير) 1983 زلزل تفجير بسيارة مفخخة مبنى المركز. أسفر التفجير عن مقتل ما لا يقل عن أربعة عشر شخصًا، ثمانية منهم موظفون في المركز، وجرح حوالي 107 آخرين. وسرعان ما أغلق المركز أبوابه للمرة الأولى منذ تأسيسيه، ولجأ موظفوه إلى شتى بلدان العالم العربي. أعيد افتتاح المركز في قبرص عام 1985.
ما يتعدى السرقة: كيف تعمل الوثائق المستولى عليها
يحتوي [«منظمة التحرير في لبنان»] PLO in Lebanon، وهو كتاب من إعداد وتحرير المؤرخ رافائيل يسرائيلي Raphael Israeli، نشر في 1983، على مختارات من وثائق منظمة التحرير التي استولى عليها الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، بالإضافة إلى إفادات شهود عيان. يستخدم يسرائيلي هذه الوثائق لتركيب سردية تصور منظمة التحرير كتنظيم إرهابي والجيش الإسرائيلي بوصفه محرر جنوبي لبنان. كتب يسرائيلي في القدس يوم 30 آب (أغسطس) 1982، بعد شهرين من عمر الاجتياح الإسرائيلي وقبل أسبوعين من مداهمة المركز في بيروت، قائلًا إن «عملية سلامة الجليل» جاءت بروايات مفاجئة عن مدى تغلغل منظمة التحرير في جنوب لبنان. وأضاف:
أما المفاجأة الأكبر فهي عدد لا يحصى من الوثائق المضبوطة في المقار المحلية والمناطقية لشتى فصائل منظمة التحرير. ففي مدينة النبطية وحدها، أُخذ ودُمر حوالي 22 مركزًا مختلفًا. وفي هذه المراكز كلها تقريبًا، ضُبطت ملفات تلقي الضوء على الأهداف الأيديولوجية والعملياتية لمنظمة التحرير فيما يتعلق بإسرائيل.
وفي مكاتب أخرى لمنظمة التحرير في بيروت وقعت عملية مشابهة لنهب المستندات من مكاتب منظمة التحرير في قرى وبلدات الجنوب. شرح جابر سليمان، المشارك في تأسيس مركز التوثيق الفلسطيني ومديره آنذاك، محاولات المركز لإنقاذ الوثائق والمستندات بعد الانسحاب الإسرائيلي من بيروت. فأثناء الاجتياح، داهم الجيش الإسرائيلي العديد من مكاتب منظمة التحرير في بيروت ونبشها واستولى على الملفات. ولا يسع المرء إلا أن يتخيل نطاق سرقة المستندات التي جرت في 1982. روى سليمان كيف قام العاملون بمركز التوثيق بجولة لتفقد شتى مكاتب منظمة التحرير في بيروت، ملتقطين وجامعين أي مِزَق نجت من الهجوم. وقد أودعوا المستندات المنتشلة في مكتب «مركز التخطيط»، ثم أعادوها لاحقًا إلى مركز الأبحاث. هذا الورق تكفل بإتلافه تفجير البناية الكائن بها المركز في فبراير 1983.
يبرز [«منظمة التحرير في بيروت»] أربعًا وسبعين وثيقة أصلية وترجمتها، منبعها مكاتب شتى فصائل منظمة التحرير في جنوب لبنان. بعد استيلاء الجيش على السجلات، إذن، يظهر يسرائيلي، المؤرخ بالجامعة العبرية في القدس، والذي تمتع بإمكانية الوصول الفوري إلى هذا الرزق الوثائقي طرح الريح. لقد انتقى الوثائق بعناية ونسقها لإخراج سردية مألوفة إلى حد كبير في سياق الحرب الباردة. تصور هذه السردية منظمة التحرير كتنظيم إرهابي في بؤرة لشبكة من الفاعلين المارقين، أي الخارجين على النظام الدولي، مؤكدة على صلاتها بالكتلة الشرقية، والبلاد العربية والإسلامية، وغيرها من البلدان التي "تسمح للجماعات المخرّبة بالعمل، مثل بلدان كثيرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية." وتدعي سردية يسرائيلي مصداقية خاصة دونًا عن غيرها لأنها مبنية على وثائق منظمة التحرير نفسها، وتستخلص الحقيقة من سجلاتها، وتكشف عن صورة منظمة التحرير "كما ترى هي نفسها فعليًا". يدعي يسرائيلي الأمانة الكاملة في قراءة ما بين سطور الوثائق؛ يدعي أن جل ما يفعله لا يعدو أن يصوغ بكلماتٍ تلك الحقيقة التي تطلّبها الأرشيف.
هنا يكمن لب المسألة: فالأراشيف لا تخدم إلى الأبد سردية منشئها. بل تؤول إلى خدمة سردية آسرها. عند إنشائها، أريد بالوثائق الكائنة في مكاتب منظمة التحرير أن تخدم الأغراض اليومية. وما إن سرقها الجيش الإسرائيلي، حتى كان قد استخلصها من نطاق إدارة منظمة التحرير ووضعها داخل نطاق سردية إسرائيل. ليس بوسع وثائق منظمة التحرير أن ترعى نفسها وتحتمي بذاتها؛ ليس بوسعها أن تنسق نفسها من أجل خدمة سردية فلسطينية. في كتابها [«حكم غزة»] Governing Gaza، تحلل إيلانا فلدمان Ilana Feldman العلاقة بين الملفات وأنظمة إدارة الحكم والأراشيف. بعبارات بسيطة، تُبنى أراشيف الدول على استخلاص الملفات من نطاق إدارة الحكم وإدماجها في نطاق التاريخ. وتدفع فلدمان بأن سيرورة نقل الملفات من أنظمة الملفات البيروقراطية إلى التخزين في أراشيف يحولها من سجل مدون خاص بإدارة الحكم إلى مصدر أولي؛ وهكذا تتغير الملفات وظيفيًا من أنظمة مكتوبة للاحتكام والمساءلة إلى أنظمة لإنتاج المعنى. وبمجرد أن نهب الجيش الإسرائيلي مكاتب منظمة التحرير، لم تعد الوثائق تؤدي وظيفتها كتقانة للحكم عن طريق النصوص وصارت مصادر أولية في الأرشيف الإسرائيلي. صارت جزءًا من نظام لإنتاج المعنى التاريخي—بواسطة آسرها.
لم تكن دولة إسرائيل آسر الأرشيف الأول. فذاك كان منشئ الأرشيف نفسه—مركز أبحاث منظمة التحرير. تكون الأراشيف الوطنية، عند مولدها، أسيرة الكيان الذي أنشأها في سبيل خدمة سردية ذلك الكيان. ولا كانت إسرائيل آخر آسري الأرشيف حتى تاريخنا هذا. فقد جاء الأسر الثالث مع سردية بناء الدولة، التي دشنتها السلطة الفلسطينية، إذ سعت القيادة الفلسطينية المستعمَرة سعيًا حثيثًا إلى تغيير سرديتها، جاعلة وثائق السردية القديمة تتقادم. وفي هذه الحالة الأخيرة، حالة السلطة، كانت ثنائية المنشئ/الآسر قد بدأت مع السيرورة التدريجية التي غيرت بها منظمة التحرير أهدافها وإستراتيجيتها وتكتيكاتها الوطنية.
____________________________________________________________________________________________________________________
1. سميح شبيب، «الذاكرة الضائعة: قصة المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني» (رام الله، فلسطين: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسات الديمقراطية، 2005). وانظر هنا لمطالعة الشهادة الأصلية بملاحقها والتي نشرها شبيب على الإنترنت.
2. لقد طُرحت قضية أرشيف مركز الأبحاث مرارًا بعد نشر الأصل الإنجليزي في 2016، إلا أن أهم ما نشر عنها مؤخرًا مقابلة مع فيصل حوراني أجراها أوس يعقوب على موقع «رمّان».
3. تعريف بمركز الأبحاث، «شؤون فلسطينية»، تم الوصول في 2 أغسطس 2013. وقد أعيد افتتاح مركز الأبحاث في رام الله وفق مرسوم رئاسي بتاريخ 21 مارس 2016. انظر «الرؤية والرسالة» على موقع المركز الذي أطلق مؤخرًا. ويقال إن المفاوضات جارية لإعادة أرشيف المركز من الجزائر إلى رام الله إلّا أن تلك المعلومات غير مؤكدة.
4. Rashid Khalidi, The Iron Cage: The Story of the Palestinian Struggle for Statehood (Boston: Beacon Press, 2007), 150. رشيد الخالدي، ترجمة: هشام عبد الله، «القفص الحديدي: قصة الصراع الفلسطيني لإقامة دولة» (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2008)، ص 192.
5. لمطالعة نقاش عن تغيير موقع مؤسسات المنظمة لتصبح في الضفة الغربية وغزة، انظر Jamil Hilal, "PLO Institutions: The Challenge Ahead," Journal of Palestine Studies 23, no. 1 (1993), 46-60. جميل هلال، «إشكالات التغيير في النظام الفلسطيني السياسي»، «مجلة الدراسات الفلسطينية»، المجلد ٤ ،العدد ١٥ (صيف 1993)، ص 17-41. ولمزيد من المعلومات حول الأرشيف الوطني الفلسطيني، انظر «كلمة ترحيبية»، الأرشيف الوطني الفلسطيني، تم الوصول في 2 أپريل 2014.
6. Ann Laura Stoler, “Colonial Archives and the Arts of Governance,” Archival Science 2, no. 1-2 (2002), 94.
7. Ibid., 103.
8. Ibid.
9. لعب مركز الأبحاث دورًا مزدوجًا. جاء في المقام الأول دور المؤسسة البحثية الرسمية لمنظمة التحرير، وفي الثاني دور مركز التوثيق، مجسدًا في مكتبته وأرشيفه. يقدم أنيس صايغ وصفًا تفصيليًا لأقسام المكتبة الخمسة. وأهم ما فيها قسما التوثيق ووثائق المقاومة الفلسطينية. يحتوي قسم الوثائق سجلات غير منشورة وأوراقًا شخصية، أهمها: أوراق إملي فرانسس نيوتن Emily Francis Newton؛ مجموعة من أوراق "دائرة المخابرات في الشرطة الفلسطينية" (دائرة التحقيق الجنائي) Criminal Investigation Department في حكومة الانتداب البريطاني؛ وثائق حكومة عموم فلسطين؛ وثائق جيش الإنقاذ العربي؛ مجموعة من أوراق الحاج أمين الحسيني؛ ومذكرات وأوراق لحسين فخري الخالدي، وحنا عصفور، وعوني عبد الهادي، وفوزي القاوقجي، وكمال ناصر، وكثيرين غيرهم. أما قسم وثائق المقاومة الفلسطينية فتأسس في مطلع عقد 1970، وشمل آلاف البيانات الصادرة عن مؤسسات منظمة التحرير، والفصائل السياسية، والمنظمات المقاتلة. هذه المقتنيات والممتلكات، إذا ضممناها إلى منشورات المركز، تكفينا للزعم بأن أرشيف المركز أدى بالفعل في الحقيقة دور أرشيف رسمي للحركة الوطنية الفلسطينية بالنسبة إلى السنوات من 1964 إلى 1982. وبالرغم من أنه ليس من إنتاج بيروقراطية دولة، جمع الأرشيف الوثائق التي أنتجتها فصائل حركة التحرير المعاصرة له، ووثائق الإدارات السابقة، والشخصيات المرتبطة بالتاريخ الفلسطيني الحديث. وهكذا فإنه يشكل جزءًا لا يتجزأ من أرشيف الحركة الوطنية. لمطالعة تفاصيل مقتنيات وموجودات الأرشيف، انظر أنيس صايغ، «أنيس صايغ عن أنيس صايغ» (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2006)، ص 217-219.
10. الأرشيف، الكائن في جامعة فورت هِار University of Fort Hare، يحتوي سجلات المؤتمر الوطني الأفريقي African National Congress، والمؤتمر الوحدوي الأفريقي Pan Africanist Congress، ومنظمة الشعب الآزاني Azanian People’s Organization، وحركة الوعي الأسود الآزانية Black Consciousness Movement of Azania، وحركة الوحدة الجديدة New Unity Movement.
11. Brian Williams and William K. Wallach, "Documenting South Africa’s Liberation Movements," in Archives, Documentation, and Institutions of Social Memory: Essays from the Sawyer Seminar, ed. Francis X. Blouin and William G. Rosenberg (Ann Arbor: University of Michigan Press, 2006), 331, fn 20. حانت إحدى لحظات الصدفة السعيدة هذه مع محاكمة الخيانة عام 1956، والتي سبقها تحريز حوالي اثنتي عشرة ألف وثيقة من 460 مكتبًا وبيتًا. وحانت لحظة أخرى مع محاكمة ريڤونيا عامي 1963-1964 عقب مداهمة المقر السري للمؤتمر الوطني والتي صودرت خلالها مئات الوثائق. هذه الاستيلاءات، والتي لا ينطبق عليها وصف "فكرة لاحقة"، ساعدت، للمفارقة، على حفظ وثائق لولاها لضاعت من جراء سرية التنظيمات.
12. Rashid Hamid, “What Is the PLO?” Journal of Palestine Studies 4, no. 4 (1975), 94-95.
13. Ibid., 100.
14. Khalidi, The Iron Cage, 145. الخالدي، «القفص الحديدي»، ص 187.
15. Pierre Lucain, “La question des archives Algériennes,” La Revue administrative 34, no. 204 (1981), 641.
16. لمتابعة التغطية الصحفية لمستجدات القضية، انظر هنا.
17. Christian Lowe, “Algeria, France Tussle over Archives 50 Years after Split,” Reuters, 4 July 2012. وللنسخة العربية انظر هنا.
18. Lucain, “La question des archives Algériennes,” 645.
19. للمزيد حول الوثائق الفلسطينية في الأراشيف الإسرائيلية، انظر محمود يزبك، «المف الفلسطيني في الأرشيفات الصهيونية»، «حوليات القدس» 11، العدد 12 (2011)، ص 86-90.
20. انظر Yezid Sayigh, Armed Struggle and the Search for State: The Palestinian National Movement, 1949-1993 (Oxford: Clarendon Press, 1997), xv-xvii. يزيد صايغ، ترجمة: باسم سرحان، «الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993»، (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002)؛ وKhalidi, The Iron Cage, xl-xliv. الخالدي، «القفص الحديدي»، ص 32.
21. لمطالعة نقاش لحظات الإسكات الأربع، انظر Michel-Rolph Trouillot, Silencing the Past: Power and the Production of History (Boston: Beacon Press, 1995), 26.
22. Sayigh, Armed Struggle and the Search for State, 286-87. صايغ، «الكفاح المسلح والبحث عن الدولة».
23. Carole Collins, “Chronology of the Israeli Invasion of Lebanon June-August 1982,” Journal of Palestine Studies 11/12 (1982), 135-92.
24. Ibid., 192.
25. Cheryl Rubenberg, The Palestine Liberation Organization, Its Institutional Infrastructure (Belmont, MA: Institute of Arab Studies, 1983), 62.
26. سميح شبيب، «المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني»، في «أنيس صايغ والمؤسسة الفلسطينية: السياسات، الممارسات، الإنتاج» تحرير سميح شبيب وبيان نويهض الحوت (رام الله، فلسطين: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسات الديمقراطية، 2010)، ص 43.
27. أثناء تواجده في بيروت شهد المركز عدة هجمات. ففي 1969 ألقيت قنبلة في مدخل البناية من سيارة مارة، فهشمت الواجهة الزجاجية. وفي صيف 1972 أرسل طرد مفخخ إلى أنيس صايغ، مدير المركز آنذاك، فخلّفه بعمى وصمم جزئيين، وأضر بالقدرات الحركية في يده اليمنى. وفي 1974 انفجرت خارج المركز أربعة صواريخ أطلقت من منصات منصوبة على سقف سيارة وأسفرت عن تلف عدة مئات من الكتب. وفي تموز (يوليو) 1982، انفجرت سيارة مفخخة خارج المركز، فحطمت أبواب البناية وجرحت حارسًا. وفي آب (أغسطس) 1982 انفجرت مفخخة أخرى خارج المركز وألحقت به أضرارًا طفيفة. وفي أيلول (سپتمبر) 1982 نبش الجيش الإسرائيلي المركز. وأخيرًا ففي شباط (فبراير) 1983، انفجرت مفخخة سببت أضرارًا بالغة. لمطالعة تفاصيل حول الهجمات على المركز، انظر شبيب، «المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني»، ص 44.
28. Raphael Israeli, ed., PLO In Lebanon: Selected Documents (London: Weidenfeld and Nicolson, 1983).
29. جابر سليمان، مقابلة أجرتها المؤلفة، تسجيل رقمي، بيروت، 29 أغسطس 2013. تأسس مركز التوثيق في 1980 كمؤسسة قائمة بذاتها على يد عضوين في طاقم العاملين بمركز التخطيط في منظمة التحرير. بعد انسحاب منظمة التحرير من بيروت أُلحق مركز التوثيق بمركز الأبحاث لكي يشمل الأخير الأول بحصانته الدبلوماسية ويسمح له بمواصلة أعماله.
30. وفق تعديل في شهادة الراوي بعد النشر الأصلي: قصف الجيش الإسرائيلي العديد من المكاتب والمقرات القيادية لمنظمة التحرير ولكنه لم يداهمها (إذ تولى الجيش اللبناني هذه المهمة). أما الأوراق المجمعة من قبل فريق مركز التوثيق فهي تلك التي بقيت في بعض المكاتب التي لم يطَلْها التدمير.
31. شملت هذه الوثائق الخاصة بمنظمة التحرير تعميمات (اتصالات) داخلية ومحاضر اجتماعات وأوامر وتوجيهات عسكرية وإدارية وخططًا عسكرية وقوائم بمواقع مستهدفة وشهادات تخرج وتقارير داخلية ورسائل وخطابات وبطاقات هوية وصورًا.
32.Israeli, PLO In Lebanon, 169.
33. Ibid, 9.
34. Ilana Feldman, Governing Gaza: Bureaucracy, Authority, and the Work of Rule, 1917-1967 (Durham, NC: Duke University Press, 2008), 34-35.
[اضغط/ي هنا للجزء الثاني]