[ترجمة: م.ف. كلفت]
الإسكات من الداخل: الإهمال والتحلل
في أعقاب حرب 1982، تفاوضت إسرائيل ومنظمة التحرير على صفقة تبادل أسرى تحت رعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وأصر صبري جريس، مدير المركز منذ 1978 وحتى 1993، على أن يعامل المفاوضون المكتبة باعتبارها أسير حرب وطالب بتضمينها في عملية التبادل. وهو ما كان، ففي 23 تشرين الثاني (نوڤمبر) 1983، أعيد 4500 أسير فلسطيني وما قالت إسرائيل إنه مكتبة مركز الأبحاث، مقابل ستة أسرى إسرائيليين.
كان الجيش الإسرائيلي، برعاية الصليب الأحمر، قد شحن بحرًا ما يربو على مائة صندوق إلى الجزائر العاصمة حيث استقبلها السفير الفلسطيني في الجزائر، منذر الدجاني، ولكن في غياب أي ممثل عن المركز لاستلامها، بالرغم من طلب بهذا المعنى قدمه الدجاني. كما لم يكن ثمة محضر جرد يتسنى لموظفي مركز الأبحاث أن يضاهوا به الوثائق المستلمة، لأن الجيش الإسرائيلي سبق أن سرقه مع غيره من محتويات المكتبة في 1982. هذان الملمحان لعملية إحالة الوثائق يجعلان من المستحيل معرفة ما إذا كانت محتويات أرشيف المركز قد أعيدت كاملة حقًا. كما أنه للأسف من الصعب بمكان معرفة إن كان جانب أو أكثر من الأرشيف قد أُتلف أو استُحوذ عليه من قبل الجيش الإسرائيلي أو مؤسسات أرشيفية إسرائيلية بينما كان الأرشيف محتجزًا لدى إسرائيل.
منذ البداية، كان الخلاف حول مصير المكتبة سيد الموقف. كانت السفارة الفلسطينية الآن هي الأمين الجديد على عهدة المكتبة، لكن القرار النهائي بقي بين يدي عرفات. أمر الجيش الجزائري، بالتنسيق مع الملحق العسكري بالسفارة، بإيصال المكتبة حال تسليمها إلى معسكر الخروبة، ومن ثم إلى معسكر تبسّة، حيث تقيم وحدات من جيش التحرير الفلسطيني. في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 1985، أغارت القوات الجوية الإسرائيلية على مقر منظمة التحرير بحمام الشط، في تونس العاصمة. وكإجراء احترازي، نقل الجيش الجزائري المكتبة من الحدود التونسية-الجزائرية إلى قاعدة البيَّض في الصحراء الجزائرية. مهجورة في الرمال، راحت الوثائق تتحلل.
بقيت المكتبة بلا صاحب يطالب بها حتى آذار (مارس) 1986، عندما سافر شبيب وجريس إلى الجزائر. وبعد أن توجه به الملازم أول الجزائري إلى الموقع الصحراوي، فتح شبيب حوالي عشرين صندوقًا وتفقد محتوياتها. وقد حاول أن يشحن المكتبة بحرًا إلى قبرص، حيث كان مركز الأبحاث قد أعيد افتتاحه في 1985. إلا أنه فشل بسبب الخلاف الداخلي المستحكم على مآل المكتبة. ويذكر شبيب في روايته مقترحين إضافيين راجا آنذاك. إذ أراد عرفات أن يَحل المركز ومكتبته معًا في القاهرة. بينما كان صلاح خلف (أبو إياد)، الرجل الثاني في منظمة التحرير آنذاك والمسؤول الثاني في فتح، حريصًا على نقل المكتبة إلى العاصمة الجزائرية. لم يدخل أي من السيناريوهين حيز التنفيذ، وبقيت المكتبة في معسكر جيش التحرير في الجزائر.
بعد ثلاثين عامًا من تسليم المكتبة إلى الجزائر، لا نعرف الكثير عن وضعها، وما إذا كان إنقاذها ممكنًا. تذهب إحدى الروايات إلى أن ظروف التخزين السيئة وسوء الاستخدام من قبل جنود جيش التحرير عاملان أوديا بها إلى الهلاك. وتزعم أخرى أن المكتبة صامدة لكنها تعاني أضرار المطر والحر والقوارض. أما الدليل المادي الوحيد فهو محضر جرد لمحتويات المكتبة أُعد فيما بين شهري أيار (مايو) وآب (أغسطس) 2003 (انظر الشكل 1). وتنعدم المعلومات بشأن هوية من أعد الكشف، وبتكليف مَن، ولأي غرض. يبلغ الكشف مائة وعشرين صفحة، ويدرج قائمة بمحتويات كل صندوق. وتحمل كل صفحة ترويسة "دولة فلسطين، جيش التحرير الوطني الفلسطيني، قياة مؤخرة قوات القسطل، الجزائر." وليس واضحًا ما إذا كانت الجردة جزءًا من عملية أوسع كانت تهدف إلى استعادة محتويات المكتبة. لا نملك سوى الرجاء.
الشكل 1.أ
الشكل 1.ب
الشكل 1.ج
الشكل 1.د
الشكل 1.ه
الشكل ١أ-ه: عينات لصفحات من محضر الجرد؛ الصناديق 18 و42 و46. محضر غير منشور، مقدم من طرف باحث سابق بمركز أبحاث منظمة التحرير في 24 يونيو 2014.
(3)
الانقطاع والاستئناف
إحدى التبعات الضمنية البديهية لضياع أرشيف منظمة التحرير هي تعذر استخدام مادته في كتابة شذرة من تجربة الشعب الفلسطيني. وتتمثل تبعة أخرى لا تقل عنها فداحة في تعذر قراءة أرشيف المركز في اتجاه التيار ومسايَرة لميله. تشرح ستولر كيف يميل دارسو الاستعمار إلى قراءة الأرشيف في الاتجاه المعاكس لميله، في سعيهم إلى انتزاع لحظات مقاومة لانضباط الحقل المعرفي المتخصص في الاستعمار، إلى إعادة تفسير المفعول بهم في الخطاب الاستعماري بوصفهم ذوات فاعلة من التابعين وفاعلين ممارسين. وهي تشجعنا على قراءة الأراشيف، بدلًا من ذلك، في اتجاه التيار: قراءة ما به من (إعادة) توزيع و(عدم) انتظام و(عدم) اتساق ومعلومات (مغلوطة)، ومحذوفات. قراءة كهذه تتعامل مع مواضع الاختلاق أو الحذف الأرشيفي باعتبارها نقاطًا مدخلية لفهم أجندات السلطة وكشفها. تؤكد ستولر على أن القراءة في اتجاه التيار تعني القراءة تماشيًا مع تقسيم الأرشيف وتبويبه، من أجل فهم دارات إنتاج المعرفة التي تسري فيها السلطة.
إن غياب أرشيف مركز الأبحاث يسلبنا القدرة على قراءته في اتجاه التيار. لم يُفقَد الأرشيف لأنه أُحرق أو لحق به نوع آخر من التلف غير القابل للاستدراك، وإنما لأن صناع القرار في الوقت المعني أهملوا استرجاعه. وسواء من باب التقصير فحسب أم تعمد الطمس، فإن استمرار هذا الإهمال لا يترك لنا ما نقرأه سوى شيء واحد: غياب الأرشيف. يضع القسم التالي من المقال غياب أرشيف المركز في سياق لحظة انقطاع وتمزق أحدثت الحركة الوطنية فيها قطيعة مع ماضيها الثوري، لتفصل ماضي منظمة التحرير عن مستقبل السلطة.
يلاحظ المؤرخ رشيد الخالدي أن أغلب دراسات التاريخ السياسي الفلسطيني تنظر إلى مسار منظمة التحرير بصورة تطورية غائية، بموجبها يُقدّم انتقال المنظمة من طلب التحرير إلى طلب الدولة بوصفه التتويج الطبيعي للنضال المستمر. غير أن هذه الغائية تخفي انقطاعًا لحق بالأهداف الوطنية للحركة: قطيعة إستراتيجية مع الهدف المتمثل في التحرير ونقلة إلى طلب الحكم الذاتي داخل حدود 1967. وهناك روايات عدة تخص تحقيب هذه النقلة. فيدفع البعض بأنها تعود إلى السنوات التأسيسية للحركة. في مذكراته، قال صلاح خلف:
وخلافًا للمظاهر وللقناعة العامة، فإننا لم نقرر إقامة دولتنا على جزء وحسب من فلسطين، غداة حرب تشرين (أكتوبر). فمنذ شهر تموز (يوليو) عام 1967، أي بعد شهرين من الهزيمة العربية أو يكاد، تقدم فاروق القدومي من اللجنة المركزية في فتح بتقرير سياسي يعرض فيه الإستراتيجية والتكتيك اللذين يجب أن تتبناهما حركتنا. وفي هذه الوثيقة الآنفة نجده يقترح علينا أن نعلن تأييدنا لقيام دويلة في الضفة الغربية وغزة في حال إعادة إسرائيل لهذه الأراضي التي كانت احتلتها لتوها. وأكد أن هذا الهدف ليس مطابقًا على المدى القصير والمتوسط لحق الشعب الفلسطيني في امتلاك أية قطعة من وطنه وحسب، وإنما يستجيب كذلك لتحليل موضوعي للظروف.
ويمثل عام 1974 نقطة فارقة أخرى في هذه النقلة، وفيه أعلن المجلس الوطني الفلسطيني، في دورته الثانية عشر، عن الحل المرحلي، أو برنامج النقاط العشر. وقد نص بنده الثاني، للمرة الأولى، على هدف إنشاء سلطة وطنية "على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها". أجاز المجلس الوطني البرنامج، الذي أعاد صياغة أهداف الحركة الوطنية على مرحلتين، مرة كتكتيك ومرة كإستراتيجية: إقامة سلطة وطنية في سبيل تحقيق إستراتيجية التحرير. قدم البرنامج أول لحظة قطيعة مع الهدف المعلن المتمثل في إقامة دولة ديموقراطية للعرب واليهود في كامل تراب فلسطين، ومع بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي دعت إلى التحرير الكامل لفلسطين، عن طريق المقاومة المسلحة بوصفها الوسيلة الوحيدة للنضال. وسواء ولدت بذرته وصيغ تصوره في 1967 أم في 1974، فإن المجاهرة بالهدف الدولتي جاءت مع إقامة السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاقية أوسلو لعام 1993.
مثّل العام 1993 نقطة فارقة تخلت منظمة التحرير عندها عن مطالباتها بأراضي فلسطين التاريخية، لتقطع بالضرورة مع الأهداف التي قامت المنظمة لخدمتها. وبما أن أرشيف مركز الأبحاث كان يمثل الأهداف السابقة للمنظمة خير تمثيل، وإذ أصبحت السلطة الفلسطينية منهمكة على نحو متزايد في خطاب حل الدولتين والتعايش السلمي، برز أرشيف مركز الأبحاث كجسم غريب. احتوى الأرشيف كل ما كانت عبارة ’منظمة التحرير الفلسطينية‘ ترمز له، مجسدًا الأهداف التي سعت السلطة إلى النأي بنفسها عنها. أحدث خطاب حل الدولتين الذي طرحته السلطة تحولًا طرأ على ’فلسطين‘ من كونها كامل فلسطين التاريخية وشعبها إلى كيان مبتور مقطع الأوصال داخل حدود الضفة الغربية وغزة. لقد أحدث تحولًا في ’التحرير‘ من كونه هدفًا ثوريًا ينجَز من خلال الكفاح المسلح إلى أجندة للحكم الذاتي قيد المتابعة عبر الحلول الوسطى والتفاوضات. وأخيرًا فقد أحل محل ’المنظمة‘، معرَّفة بوصفها حركة ثورية سرية، ’دولة قيد الإنشاء‘ تتطلع إلى أن تكون الكيان الحاكم للأراضي الفلسطينية. لقد طُبع أغلب وثائق منظمة التحرير على ورق يحمل ترويسة تبرز خريطة فلسطين التاريخية وبأسفلها شعار "تحرير". واستُهل أغلبها بـ"تحية الثورة" واختتم بجملة "وإنها لثورة حتى النصر" (انظر الشكل 2).
الشكل 2.أ
الشكل 2.ب
الشكل ٢أ-ب: عينات لوثائق من اتصالات فتح الداخلية. وتَظهر الوثيقتان في كتاب رافائيل يسرائيلي Raphael Israeli, P.L.O. In Lebanon: Selected Documents (London: Weidenfeld and Nicolson, 1983), 27 and 30.
وسيكون من شأن شعار فتح ببندقيتي الكلاشنيكوڤ المتقاطعتين فوق خريطة فلسطين، إلى جانب كل مستند عابر من نتاج الثورة، أن يظل تذكارًا بمشروع وطني مهجور (انظر الشكل 3).
الشكل 3: شعار فتح. تم الوصول في 25 يوليو 2014،
لا يفسح خطاب السلطة حول حل الدولتين مكانًا لأرشيف مركز الأبحاث، لأن رؤى منظمة التحرير كتنظيم ثوري ورؤى السلطة كدولة قيد الإنشاء، مروضة بالسلام، منزوعة السلاح، هي رؤى غير قابلة للمصالحة. كانت منظمة التحرير تمثل كامل الشعب الفلسطيني؛ تطالب بأراضي فلسطين التاريخية؛ تؤكد على حق عودة اللاجئين؛ وتتبنى الكفاح المسلح باعتباره وسيلة تحقيق أهدافها. وعلى الناحية الأخرى، كان التفويض الممنوح للسلطة الفلسطينية هو تمثيل فلسطينيي الضفة الغربية وغزة؛ وقد تخلت عن مطلبي التحرير الكامل وحق العودة، ونبذت العنف. لم تنشأ السلطة عضويًا من صلب منظمة التحرير. والأحرى أن منظمة التحرير انمسخت في هيئة السلطة. وفي الطريق إلى ذلك محت القيادة سجل الثورة المسلحة.
أرشيف السلطة الفلسطينية وعملية بناء المؤسسات
تكشف السنوات الباكرة من بناء مؤسسات السلطة الفلسطينية عن سيرورة معقدة من المناورة البيروقراطية التي حكمت النقلة المؤسسية من حركة تحرير قائمة في الشتات إلى شبه دولة. يركز هذا القسم على سنوات ما بعد أوسلو مباشرة عندما صيغ وأُسِّس جهاز السلطة البيروقراطي. ويحلل سردية أرشيف السلطة كما عُبِّر عنها في سنوات ما بعد أوسلو مباشرة.
في كتابه [«سياسيات السلطة الفلسطينية»] The Politics of the Palestinian Authority، يصف نايجل پارسونز Nigel Parsons عملية التكييف المؤسسي التي حددت معالم انمساخ منظمة التحرير إلى السلطة الفلسطينية. وهو يفحص كيف استقدمت قيادة السلطة مؤسساتها وأطقم عامليها من الجهاز البيروقراطي للمنظمة القائمة في تونس العاصمة لتشكل العمود الفقري لجهاز السلطة الإداري والأمني القسري. وكانت شيئًا مركزيًا في هذه العملية تلك السلطة التي راكمها عرفات بتعيين العاملين في فتح، والذين شكلوا أيضًا صفوف النخبة في المنظمة، في المراتب العليا من بيروقراطية السلطة الفلسطينية. عززت سلطةَ عرفات وفتح إعادةُ تشكيل منظمة التحرير على هذا النحو في هيئة العمود الفقري المؤسسي للسلطة، وهمشت تدريجيًا منظمة التحرير نفسها كمؤسسة قائمة بذاتها.
وفي [«السياسيات الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو»] Palestinian Politics After the Oslo Accords، يعاين ناثان براون Nathan Brown عن كثب علاقة مؤسسات منظمة التحرير بنظيراتها في السلطة الفلسطينية. وهو يسلط الضوء على مهمة السلطة العسيرة إذ تدير تشكيلة متنوعة مؤلفة من "مؤسسات متنوعة ومتداخلة … كانت قد نَمَت في سياقات مختلفة" وعلى كيف كانت صياغة مسودة دستور عاملًا حيويًا في تحول منظمة ثورية إلى دولة. يروي براون مسار أربع محاولات لصياغة دستور للسلطة الفلسطينية، ويصف إطارًا دستوريًا غير معلن هو عبارة عن مجموعة قرارات رئاسية أصدرها عرفات. ويقول براون إنه مع كل مسودة جديدة من «القانون الأساسي» (الإطار الدستوري المؤقت للسلطة) كانت العلاقة بين المنظمة والسلطة "تغدو أوهى فأوهى، وإن بطرق ناعمة." كان من الواضح وفق المسودات الباكرة من «القانون الأساسي» أن السلطة كانت تابعة للمنظمة، وأن الأخيرة خارج النظام الدستوري. حُذفت هذه المواد من المراجعات اللاحقة، ولم تشر المسودة النهائية للدستور في 2001 لا إلى المنظمة ولا إلى السلطة، وإنما إلى دولة فلسطين ذات السيادة، والتي سيكون من شأنها أن "تبتلع منظمة التحرير وتحيلها إلى غرفة في المجلس التشريعي الفلسطيني." وهكذا كان التحول المؤسسي ذا دور فعال في إبدال المنظمة كتنظيم ثوري بدولة قيد الإنشاء. وعلاقة أرشيف المنظمة بالأرشيف الوطني الفلسطيني حديث التأسيس، أو بالأحرى انعدامها، أحد تجليات هذا التحول.
في «كلمته الترحيبية» على موقع الأرشيف الوطني الفلسطيني، يقول رئيس الأرشيف محمد بحيص عرامين:
وما أن أطل العام ١٩٩٤م برأسه حتى بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني وصورته المعاصرة[،] وذلك مع بداية تنفيذ ما عرف باتفاقية أوسلو وبداية وصول طلائع العائدين إلى أرض الوطن [...] هدأت عاصفة العودة.. وبدأت فورًا عملية بناء المؤسسات كمقدمة لبناء الدولة الحرة المستقلة. [...] وقد كان الحافز الأساسي لهذا العمل [بناء الأرشيف الوطني الفلسطيني] هو الإيمان العميق والراسخ بضرورة الحفاظ على ذاكرة شعبنا وذاكرة كيانه الوليد (السلطة الوطنية الفلسطينية). [التوكيد من عندي]
يوضح الاقتباس أعلاه خير توضيح ما يفعله أرشيف السلطة من تحقيب وسرد للتاريخ الفلسطيني. فوفقًا لعرامين، "هدأت عاصفة العودة" - أيْ نضال الشعب الفلسطيني في سبيل التحرر والعودة وتقرير المصير - في 1994 مع عودة عرفات وحاشيته إلى الأراضي المحتلة. كان هذا الحدث علامة على نهاية حقبة وبداية أخرى جديدة: بناء المؤسسات في الطريق إلى استيفاء أركان الدولة. في كلمته، يتصور عرامين تأسيس أرشيف السلطة باعتباره الأرشيف الوطني: المؤسسة التي مهمتها المبدئية حراسة ذاكرة الشعب الفلسطيني. لكن هذه "الذاكرة" تعرَّف بعناية على أنها الذاكرة قيد التشكُّل الخاصة بالدولة الفلسطينية الوليدة. أنشأت السلطة الأرشيف الجديد بموازاة إنشاء جهازها البيروقراطي بحيث يؤدي الأرشيف دور الوعاء المستقبلي لذاكرة الدولة المستقبلية.
لا يأتي أرشيف السلطة على ذكر أرشيف المنظمة. وباستبعاده سجلات حركة التحرير، لن يضم الأرشيف الوطني الفلسطيني في نهاية المطاف إلا سجلات إدارة الحكم الخاصة بالدولة الوليدة، دونما ذكر للكيان السالف لها إلا على استحياء ربما. وسيكون بمثابة أرشيف دولة، مشابه لتلك الأراشيف التي تصفها فلدمان، حيث الملفات، بعد مرور الوقت، تستخلَص من نطاق إدارة الحكم وتدمج في نطاق التاريخ. سيطالع مؤرخو المستقبل أرشيف السلطة، مع التيار أم في الاتجاه المعاكس، فلا يجدون أثرًا في السجلات لحركة التحرير إلا القليل إن وجدوا. أما ما سيجدوه فحشد وافر من سجلات بناء مؤسسات السلطة وإقامة دولة فلسطينية حديثة.
يُبرز شعار الأرشيف الجديد نسر صلاح الدين، مكتوبًا تحته "السلطة الفلسطينية". أما شعاره المكتوب فهو "ذاكرة الأمة وذاكرة الدولة". تتماهى الأمة والدولة والسلطة الفلسطينية حد التطابق، ولسوف تقوم مؤسسة الأرشيف على حراسة ذاكراتها الموحدة المفردة.
الشكل 4: شعار السلطة الفلسطينية كما استخدمته بعثة المراقبة الدائمة لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة، تم الوصول في 25 يوليو 2014،
الشكل 5: ترويسة موقع الأرشيف الوطني الفلسطيني، تم الوصول في 16 أغسطس 2014،
خاتمة
بينما كانت إسرائيل هي من سبق وأسر أرشيف المركز، فإن المشروع الفلسطيني لبناء دولة هو آسره الحالي. ومرة أخرى، فإن منشئ الأرشيف وآسره هما طرفا نقيض. أما في هذه الحالة فقد انمسخ المنشئ متحولًا إلى الآسر، وانمسخت الثورة متحولة إلى الدولة، وضاع أرشيف مركز الأبحاث. وإحدى تبعات الخسارة هي تعذر حكي قصص باستخدام المصادر الواردة به. من هذه القصص ما قد يحكي عن منظمة التحرير كفاعل مارق، أو حركة مقاومة، أو إرهاص بالدولة. ومنها كذلك ما عساه يتعدى ساحة التاريخ السياسي، ويُقْدِم على تنقيب التاريخ الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني بلبنان، أو على طَرق دروب من قبيل خبرات النساء النضالية، والبنية التحتية المالية لمنظمة التحرير، وروابط الحركة وصلاتها بالنضال والتضامن العالميين المناهضين للاستعمار، إذا اكتفينا بتسمية بضعة احتمالات.
لقد تورط فاعلون مختلفون في إسكات الأرشيف بصفاتهم المختلفة، ولأسباب مختلفة، وبدرجات متفاوتة. الفاعل الأول هو منظمة التحرير، بوصفها عنقودًا من علاقات القوى، والتي أنتجت الأرشيف وساهمت في تدهوره في آن معًا. خلقت المنظمة مركز الأبحاث ليكون منتِجها المعرفي وحافظ سجلاتها، ثم أهملت الأرشيف، وسمحت بأن يطويه النسيان. والفاعل الثاني هو إسرائيل، وتعد سرقتها الأرشيف واحدة من حالات استيلاء كثيرة على الأراشيف الفلسطينية. والنمط المنهجي الذي اتبعته إسرائيل في الاستيلاء على الوثائق يرتقي إلى محاولة للاستيلاء على جزء من الذاكرة الفلسطينية وطمسها.
الفاعل الثالث هو أرشيف السلطة الفلسطينية. فقد أبّد الإصابة بالصمت الأرشيفي التي أوقعها الاستيلاء الإسرائيلي، بأن أقصى السجلات الرسمية للثورة المسلحة من "ذاكرة الأمة وذاكرة الدولة". ولا يعني هذا القول بأن المؤرخين لا يستطيعون كتابة تاريخ الثورة نظرًا لغياب الأرشيف. فجمهرة من المواد موجودة بالفعل، وإن تكن محدودة، في شتى المكتبات والمستودعات. وما يعنيه غياب أرشيف منظمة التحرير هو أن دولة المستقبل لن تُضمِن سجلات ماضي الثورة في المصادر الأولية التي توفرها للباحثين والمؤرخين، مقصية بهذا تاريخ حركة المقاومة المسلحة من الحدود المرسومة لإنتاج التاريخ والمرعية من قبل الدولة.
في سياق مشروعها لبناء الدولة في لحظة ما بعد أوسلو، خلقت السلطة الفلسطينية أرشيفًا مؤسسيًا جديدًا، يبدأ تحقيبه للتاريخ الفلسطيني من إقامة شبه الدولة. وبذلك المعنى، فإن أرشيف السلطة يؤدي وظيفتين: كبيان وكأداة على السواء. فإنشاؤه ذاته بوصفه أرشيفًا وطنيًا يعمل كاستعارة مجازية عن بناء المؤسسات المستمر. إنه بيان معبِّر يفيد التقدم بلا هوادة نحو إنجاز دولة فلسطينية. وتعمل المؤسسة، ثانيًا، كأداة لإنتاج ماضي الدولة الجديدة المشمول بالعناية والتشذيب. وهي تضم الأثر الورقي الذي أفرزته البيروقراطية الحاكمة. إنها مؤسسة تحفظ ذاكرة لفلسطين معاد تخيلها، فلسطين متآكلة، دائمة الانكماش.
[هذه الترجمة بموافقة المؤلفة وبالتعاون معها لكن المترجم إذ يشكرها يعتبر كل خطأ أو ضعف في النص العربي مسؤوليته. لمطالعة الأصل الإنجليزي: Hana Sleiman, "The Paper Trail of a Liberation Movement," Arab Studies Journal 24, no. 1 (Spring 2016); 42–67.]
[اضغط/ي هنا للجزء الأول]
______________________________________________________________________________________________________________
35. سميح شبيب، مقابلة هاتفية أجرتها المؤلفة.
36. David Shipler, “Palestinians and Israelis Welcome Their Prisoners Freed in Exchange,” New York Times, 25 November 1983.
37. شبيب، «المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني»، ص 46.
38. سميح شبيب، مقابلة هاتفية أجرتها المؤلفة.
39. شبيب، «المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني»، ص 47.
40. سميح شبيب، مقابلة هاتفية أجرتها المؤلفة.
41. شبيب، «المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني»، ص 49
42. سميح شبيب، مقابلة هاتفية أجرتها المؤلفة.
43. شبيب، «المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني»، ص 49.
44. سميح شبيب، مقابلة هاتفية أجرتها المؤلفة.
45. مسؤول عسكري رفيع في فتح، مقابلة عبر البريد الإلكتروني أجرتها المؤلفة، 27 يونيو 2014.
46. Stoler, “Colonial Archives and the Arts of Governance,” 99.
47. Khalidi, The Iron Cage, 150. الخالدي، «القفص الحديدي»، ص 192.
48. Abu Iyad and Eric Rouleau, trans. Linda Butler Koseoglu. My Home, My Land: A Narrative of the Palestinian Struggle (New York: Times Books, 1978), 138. أبو إياد/صلاح خلف [وإريك رولو] «فلسطيني بلا هوية»، ط1 (الكويت: دار كاظمة، 1978)، ص 219-220.
49. راشد حميد، «مقررات المجلس الوطني الفلسطيني»، 1964-1974 (بيروت: منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، 1975، ص 247.
50. تصدّر الجهودَ الرامية لتبني البرنامج التيارُ الرئيسي في منظمة التحرير، والمكون من فتح، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والصاعقة، وقوبل بمعارضة من معسكر جبهة الرفض، والمكون من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة. لمطالعة نقاش حول برنامج النقاط العشر، انظر محمود درويش، إعداد، «المقاومة الفلسطينية أمام التحديات الجديدة»، «شؤون فلسطينية» 30، ص 5-58، وهو نص تفريغ ندوة استضافها مركز أبحاث منظمة التحرير في كانون الثاني (يناير) 1974، جمعت بين أبو إياد؛ جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية؛ نايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديمقراطية؛ شفيق الحوت، عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة وممثل المنظمة في لبنان؛ وزهير محسن، قائد الصاعقة.
51. يعد أبرز تعبير عن هذا المعنى ما صدر عن الاجتماع الحادي عشر للمجلس الوطني في كانون الثاني (يناير) 1973، حيث رفضت المادة الثانية من الإعلان محاولات التسوية وأيًا من المشاريع النابعة منها، أكانت تخص كيانًا فلسطينيًا أم دولة في أجزاء من فلسطين. ويردد «الميثاق الوطني الفلسطيني» أهدافًا مشابهة. عرّفت المادة 2 من «الميثاق» حدود فلسطين على أنها حدود فلسطين في عهد الانتداب وأكدت على أنها ترسم "وحدة إقليمية لا تتجزأ". ورفضت المادة 19 "تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947" وما تبعه من "قيام إسرائيل" الذي اعتبرت أنه "باطل من أساسه" وأعلنت "مغايرته لإرادة الشعب الفلسطيني" و"مناقضته للمبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة". ونصت المادة 9 على أن "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين"، مضيفة أنه مثّل "إستراتيجية" عامة لا مجرد "تكتيك". وأعادت المادة 21 التأكيد على مركزية "الثورة الفلسطينية المسلحة" ورفض "كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريرًا كاملًا" و"كل المشاريع الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، أو تدويلها." لمطالعة بنود «الميثاق» انظر Zafarul Islam Khan, ed., Palestine Documents (New Delhi: Pharos Media and Publishing, 1998), 297-301. وعلى موقع المنظمة هنا. ولمطالعة مقررات اجتماعي المجلس الحادي عشر والثاني عشر، انظر حميد، «مقررات»، ص 225-252.
52. في هذا السياق، فإن التحليل الوارد لا يشمل شتى الطروحات الخاصة بعملية بناء المؤسسات، وأهمها البرنامج الذي وضعه سلام فياض، رئيس الوزراء من 2007 حتى 2013. تحليل كهذا يتجاوز حدود هذا المقال.
53. Nigel Craig Parsons, The Politics of the Palestinian Authority: From Oslo to Al-Aqsa (New York: Routledge, 2005), 9.
54. Ibid., 43
55. Ibid., 126-32.
56. Nathan J. Brown, Palestinian Politics After the Oslo Accords: Resuming Arab Palestine (Berkeley: University of California Press, 2003), 8.
57. Ibid., 86.
58. Ibid., 74.
59. Ibid., 91.
60. «كلمة ترحيبية»، الأرشيف الوطني الفلسطيني، تم الوصول في 2 أپريل 2014.