كَم مِن الوقت تحتاج حكومة ما لكي تَثبت قدرتها على إدارة بَلَد ما، أو حتى مدينة ما؟ عام، إثنان، عشرة أعوام؟ العراق، اليوم، وكل مُدنه من الشمال إلى الجنوب ساحة مُباحة للإستثمارات الإستهلاكية والمشاريع الوهمية والسرقة والنهب لثروات البلد، وكذلك لسلطة المليشيات المسلحة وأصحاب القرار في الدول المجاورة، والقرار الحاسم في واشنطن.
لم يكن إحتلال العراق من قِبل القوات الامريكية عفوياً، كما يحلو للبعض أن يُبرر. وآثار تدمير هيكلية الدولة العراقية وإرساء الطائفية مؤسساتياً على النطاقين الحكومي والإقتصادي بعد٢٠ آذار/مارس ٢٠٠٣ واضحة. انتقل العراق من نظام بعثي دكتاتوري شمولي إلى فوضى فوق أنقاض ثلاث حروب شرسة وحصار إقتصادي دمَّر النسيج الإجتماعي للبلد. وأُوليت إدارة الفوضى للإسلام السياسي الشيعي أساساً، شراكةً مع نظيره السنّي والقوميين الأكراد، وانعكست هذه الفوضى في الدستور وفي تركيبة "نظام" الحكم. النزاعات في اللعبة (و ليس العملية) السياسية تصب في حقلين. أولاً، وفوق كل شئ، مصلحة الولايات المتحدة في السيطرة على منابع الطاقة آنياً وعلى المدى البعيد. أهمية النفط الأساسية لا تَكْمن بكونه وسيلة لتوليد الطاقة، بل أهميته الكبرى في الصناعات الپتركيمياوية، ومستخلصات النفط تُستَخدم في كل شئ حولنا - من المواد الغذائية إلى الأدوية إلى مواد الرسم و الأصباغ إلى الملابس وإلى وسائل النقل والأجهزة الصناعية والتكنلوجية. أكثر من ٦٠٪ (ستين بالمئة) من إيرادات شركات الپترول العالمية مُستقاة من ٤٪ (أربعة بالمئة) من النفط المُستَخرج من الآبار (crude oil). و هنا تكمن الأهمية الإستراتيجية لآبار النفط في الشرق الأوسط: العالم الصناعي والتكنولوجي في القرن الواحد و العشرين سيبقى بأمس الحاجة للمواد الپتروكيمياوية، ولن تَقل الحاجة لها مهما تمكنا من إيجاد طُرق جديدة لتوليد الطاقة (الكهربائية، مثلاً، من الريح أو أشعة الشمس). والحقل الثاني لمَصب هذه النزاعات هو إقتصادي في الأساس بالرغم من التزويقات الأديولوجية والمذهبية، وهو الصراع الجيوسياسي بين إيران والمملكة السعودية. قُبيل ١٩٧٩ كان شاهنشاه إيران، رضا بهلوي، المسؤول الأول عن فرض السيطرة على منابع النفط في منطقة الخليج وكان المُمثل الوحيد لسياسة الولايات المتحدة الخارجية ولمصالحها في المنطقة. وكان حكام الخليج من مَكتوم دُبيّ الى آلِ سعود يَخرّون ساجدين ولاءً وطاعةً للشاه. و حتى البعث العراقي سلَّمَ نصف شط العرب، منفذ العراق البحري الوحيد وجزء من بلاد الرافدين منذ بداية التاريخ، ووقعَّ صدام حسين بنفسهِ إتفاقية الجزائر بين العراق و إيران في ٦ آذار ١٩٧٥. ولم تكن هناك مشكلة إطلاقاً أن يزور الشاه وحاشيته المراقد الشيعية في العراق أو يُسمَح للزوّار الإيرانيين بزيارة هذه المراقد طالما كان العراق و إيران حليفين عنيدين في قمع اليسار والحركات الثورية في المنطقة. تغيّر وكلاء المموّل الأمريكي، وتغيّرت الولاءات والنزاعات أيضاً.
مسرحية الإنتخابات البرلمانية
بعد قرابة خمسة أشهر من التقاذف اللفظي والخطابات الرتيبة والإعلانات السمجة، قرّر حوالي ٤٥٪ من الناخبين العراقيين (البالغ عددهم حوالي ٢٤ مليون من بين ٣٨ مليون نسمة تسكن العراق) المشاركة في الإنتخابات البرلمانية الرابعة في ١٢ أيار/مايو ٢٠١٨ لانتخاب ٣٢٩ عضواً في مجلس النواب من بين ٧٣٦٧ مُرشحاً و مرشحة. و ينتمي هؤلاء المرشحون إلى ٣٢٠ حزباً سياسياً و إئتلافاً و قائمة إنتخابية. من الصعب أن يكون المرء جاداً في تصوير هذه الإنتخابات على أساس أنها فعّالة في خَلق ممارسات ديمقراطية في الوسط السياسي العراقي. وبالفعل فإن أغلبية العراقيين، ٥٥٪ على وجه التحديد، قاطعوا مسلسل الإنتخابات.
الفشل يُعيد نفسه بلباس جديد، دون أدنى تغيير في المحتوى. نوري المالكي، رئيس حزب الدعوة الإسلامية (الشيعي) ونائب رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء الأسبق والمسؤول الفعلي عن سقوط الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، بيد داعش، وصاحب أقوى خطاب طائفي في العراق أسسَّ تحالف "دولة القانون". و التحالف الثاني المستخلص من حزب الدعوة، ولكنه مُعارِض، أو بتعبيرٍ أدّق مُغاير، لنهج المالكي هو "تحالف النصر والإصلاح" بقيادة رئيس الوزراء حيدر العبادي. و شملَ تحالف النصر تكتلات سنيّة أبرزها "تحالف بيارق الخير" بزعامة وزير الدفاع السابق خالد العبيدي و"تحالف معاهدون" بزعامة رئيس الوقف السني (بالوكالة) عبد اللطيف الهميم و"تحالف الوفاء" بزعامة وزير الكهرباء قاسم الفهداوي. وأُعيدت غربلة نفس الشخصيات التي حكَمَت العراق خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة. فعمار الحكيم، زعيم المجلس الإسلامي الأعلى (الشيعي)، أسسَّ "تيار الحكمة". و تشكل إئتلاف جديد، هو "إئتلاف الفتح"، الذي يضمّ ١٨ كياناً من أجنحة سياسية لفصائل الحشد الشعبي، أبرزها "منظمة بدر" بقيادة هادي العامري و"عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي - و كلاهما قريبٌ جداً من جهاز بسيج المخابراتي الإيراني. ولم تقتصر التحالفات الممِلة على الإسلام السياسي الشيعي، إذ انضمَّ حوالي ٢٦ كيان سياسي سنيّ بارز، أبرزها "حزب التجمع المدني للإصلاح" بزعامة رئيس مجلس النواب سليم الجبوري و"الجبهة العربية للحوار" بزعامة صالح المطلگ و"حزب الوفاق الوطني العراقي" بزعامة نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي الى إئتلاف "الوطنية".
الجديد كان تحالف الحزب الشيوعي العراقي، صاحب التاريخ النضالي في محاربة الإستعمار والدكتاتورية وقوى الظلام، مع تيار مقتدى الصدر الإسلامي و ثُلة من التكنوقراط في "تحالف سائرون". و للحزب الشيوعي العراقي تاريخٌ مرير من التحالفات المشؤومة، لا سيمّا بعد الضربة العنيفة التي تلقاها إثرَ إنقلاب ٨ شباط/فبراير ١٩٦٣ الدموي الذي قام به البعثيون والقوميون الناصريّون بدعم أمريكي (كما نُشِرَ في مذكرات وزير الداخلية الأمريكي أوائل ستينيات القرن السابق، روبرت مَكنامارا، وكذلك وثائق الداخلية الأمريكية للفترة ١٩٥٩-١٩٦٤ المودعة في مكتبة الكونغرس الأمريكي، والتي أطلّع عليها كاتب هذه السطور بنفسهِ). وكان إنقلاب ١٩٦٣ وحمام الدم الذي تبعه زلزالاً هزّ تركيبة الحزب من أساسها وأجهضَ مشروعه الثوري للتغيير؛ ولم يتعافَ الحزب الشيوعي من تلك المرحلة إطلاقاً وظلَّ خاضعاً لقيادات يمينية منذ ذلك الوقت. في أوائل سبعينيات القرن العشرين تحالفَ الحزب الشيوعي مع حزب البعث بعدَ إستيلاء الأخير على دفة الحكم عقب إنقلاب ١٧ تموز/يوليو ١٩٦٨، وبعد أن تخلّص حزب البعث من القيادة المركزية للحزب الشيوعي التي أعلنت الكفاح المسلح من أهوار جنوب العراق عام ١٩٦٧، وأرّقتْ حكومة البعث الفتية ودول الجوار والحزب الشيوعي نفسه (جناح اللجنة المركزية) الذي تَبنَّى نهجاً يمينياً منذ كونفرنس الحزب عام ١٩٦٧ (وما عُرف عنه بخط آب). وهكذا أمنّ البعث الحاكم سيطرته المطلقة حين أعلنَ في ١٦ تموز ١٩٧٣ عن تأسيس "الجبهة الوطنية التقدمية" والتي تشكلت ظاهرياً في عام ١٩٧٤ في إطار برنامج عمل مشترك لإقامة تحالف بين حزب البعث والحزب الشيوعي والحزب الثوري الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. ومع ذلك فقد استمرت المضايقات والإعتقالات ضد الشيوعيين و اليساريين ووصلت قمتها عام ١٩٧٨، ولم يُسمَح إطلاقاً بتدريس اللغة الكُردية في المدارس العراقية على كافة المستويات أو التداول بها في دوائر الدولة.
"سائرون" الى أين؟
فازَ "سائرون" بزعامة رجل الدين مقتدى الصدر بـ ٥٤ مقعداً من أصل ٣٢٩، وتبَعه "الفتح" بزعامة هادي العامري بـ ٤٧ مقعداً ثم حلَّ "النصر" برئاسة حيدر العبادي بـ ٤٢ مقعداً. وحصلَ إئتلاف "دولة القانون" لنوري المالكي على ٢٦ مقعداً، والحزب الديمقراطي الكُردستاني بزعامة الرئيس السابق لإقليم كُردستان، مسعود البرزاني، على ٢٥ مقعداً، وإئتلاف "الوطنية" بزعامة أياد علاوي على ٢١ مقعداً. ولم يحصل "تيار الحكمة" لعمار الحكيم سوى ١٩ مقعداً، والإتحاد الوطني الكُردستاني، الذي يتناصف السيطرة على كُردستان العراق مع الحزب الديمقراطي للبرازاني، على ١٨ مقعداً، وتحالف "القرار العراقي" بزعامة محافظ نينوى السابق الذي احتلَت كل محافظته من قبل داعش وهو في القيادة، أُسامة النجيفي، على ١١ مقعداً. وحصلَت الأقليات على ٩ مقاعد ضمن نظام المحاصصة - خمسة مقاعد للـ "المكوِّن" المسيحي، ومقعد واحد لكل من الشبك والأزيدين والصابئة والفيلية. وشهدت مدينة الموصل، المُحررة من إرهابي داعش، أعلى نسبة للمشاركة في الإنتخابات البرلمانية آملين بتغير إيجابي لمدينتهم والبلد كله. وكانت البصرة التي تعاني من إهمال على كل المستويات، وهي أغنى مدينة في العراق، شبه مُقاطعة للإنتخابات البرلمانية إذ لم يُشارك سوى ٢٢٪ من ناخبي البصرة. وقد تكون من الغرائب لمن لا يعرف العراق جيداً، أن تفوز نائبة شيوعية، سهاد الخطيب (عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي) عن محافظة النجف (التي تضم أهم مراقد الشيعة المقدسة)، وفازت المناضلة الشيوعية هيفاء الأمين عن محافظة ذي قار (الناصرية). وعلى حد قول مظفر النواب، يحوي العراق على كل التضادات في كل المراحل بسبب الغِنى الفكري والمعرفي لساكني هذه الأرض. وفي الناصرية و النجف مجموعة من أقدم الأديرة في العالم، إسم مدينة الناصرية نفسها مُشتق من كونها الحاضرة التي كان يسكنها و يؤمها أتباع الديانة المسيحية حتى منتصف القرن التاسع عشر وقبل مجئ الإستعمار البريطاني الذي سعى إلى تغيير، ومن ثمَّ محو، هوية المدينة التاريخية والسكانية. والناصرية أيضاً هي واحدة من أهم معاقل الفكر السياسي والثقافي والغنائي في العراق، فمنها ظهرَ صاحب الصوت الشجي داخل حسن والملحن طالب القره غولي، ومنها أسسَّ يوسف سلمان يوسف (فهد) منظمة مكافحة الصهيونية التي أصبحت نواة تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام ١٩٣٤. ومن الناصرية أيضاً تأسس حزب البعث العربي الإشتراكي وحركات قومية أخرى. و كان لحزب البعث ما يقل عن ألف عضو عام ١٩٥٨ (حسب الباحث الراحل الپروفيسور حنّا بطاطو)، جلَّهم من "شيعة" العراق. كانت الأحزاب في العراق فكرية سياسية بحتة، وكانت الطائفية حكراً على الأحزاب الإسلامية، السنيّة والشيعية، ولم تصبح الطائفية المؤساستية جزءاً من النظام السياسي حتى ٢٠٠٣.
كتبَ البعض، لا سيّما الباحث فالح عبد الجبار قُبيل وفاته في شباط الفائت، بتفاؤل عن تحالف الشيوعيين والصدريين. على أساس أن كلاهما ينتمي الى نفس الجموع الكادحة والفقيرة، فالأبناء أصبحوا صدريين بينما كان آباؤهم شيوعيو الهوى. وفي هذه التفسيرات تبسيطات كثيرة، فالتيار الصدري ليس حزباً كلاسيكياً، بل خليط من المتزمتين دينياً ومذهبياً والكثير من ذوي الإمكانيات المادية البسيطة (أو الفقراء) يجمعهم ولائهم بكينونة إسمها العراق. وقد حاولَ مقتدى الصدر جاداً التقرب من الأحزاب الإسلامية السنيّة والسعي لخلق وحدة عراقية حسب تفسيره واعتقاده. يحاول مقتدى الصدرأن يُكمل خطى والده، محمد صادق الصدر، الذي برزَ نجمه أواخر تسعينيات القرن العشرين. و كانا محمد صادق الصدر يترنح ما بين محابات النظام واستشفاف سخط فقراء الشيعة في مناطق وسط وجنوب العراق التي أنهكها الحصار والحروب وقمع النظام. فاستفاد النظام من قابليته على 'ترويض' هذه الجموع البشرية وكان الصدر يخطب بجموع الفقراء على مرأى ومسمع قوى الأمن والمخابرات العراقية. و تمَّ التخلص منه بعدها خشية من استمرار نفوذه بالنمو خارج سيطرة الدولة. وهذا كان الدور الفعلي لمعظم رجال الدين الشيعة في أرياف وسط وجنوب العراق منذ أوائل القرن العشرين: احتواء غضب الجموع البشرية الفقيرة، والتقرب من، أو محابات، سلطة حكومة بغداد؛ وكذلك الإستفادة المادية أحياناً. لكن مقتدى الصدر يعيش في ظرف جيوسياسي مختلف، فترى تقربه حيناً الى إيران في فترةٍ ما، ومؤخراً الى المملكة السعودية والمنحى الأمريكي بشكل عام بعد أن كان مناصرو الصدر، جيش المهدي، يقومون بعمليات عسكرية ضد المحتل الأمريكي بُعيد ٢٠٠٤. وهنا يجب أن ندرك أن التيار الصدري ليس تيار الفقراء بقدر ما هو تيار يستخدم النفوذ المذهبي والنزعة الوطنية العراقية معاً لتسيير الجموع الغفيرة من الفقراء الشيعة الذين يزيد تعدادهم على عشرة ملايين نَسَمة عام ٢٠١٨. وبالتالي فهو يَسدّ فراغاً سياسياً و فكرياً نتيجة سني القمع البعثي ودكتاتورية صدام حسين و ١٣ عاماً من الحصار المدمِّر والحروب و الإحتلال.
الإرهاب حليف السلطة
قبل أسابيع معدودة من مغادرة حيدر العبادي منصبه أعلن وبصراحة في واحدٍ من مؤتمراتهِ الإسبوعية أن القتل والترهيب يُستخدمان كسلاحين فعالين من قبل بعض الكتل السياسية لإسكات أخرى. و أُنهما استخدما أيضاً لإسكات أصوات حرة تمشي عكس التيار، وإن كانت بعيدة عن السياسة والمناصب الحكومية. في العراق الآن عدد مُذهل من السلاح البسيط والمليشيات المرتزقة التي بدأت مع إحتلال القوات الأمريكية للعراق. ووتيرة الإغتيالات والقتل والترهيب تزداد بفعالية و نسبة كبيرة مع كل دورة إنتخابية أو ظرف محدد. ومن بين ضحايا الإغتيالات كانت الدكتورة رفيف الياسري، أخصائية تجميل وسفيرة النوايا الحسنة للمنظمة الفرنسية لحقوق الإنسان والسلام، و السيدة رشا الحسن، خبيرة التجميل، وكان لهما دور مهم في مساعدة منكوبي الإنفجارات الإرهابية وعمليات الإعتداء على النساء والمثليين. تلتهما في مسلس الإغتيالات السيدة سعاد العلي، المحامية والناشطة الحقوقية، في البصرة. وأغتيلت بالرصاص أيضاً في وضح النهار وفي مكان مزدحم في بغداد الفاشينستا الشابة تارة فارس. وآخرهم كان مقتل الشاب، إبن الخمسة عشر ربيعاً، حمودي المطيري، في إحدى مناطق بغداد الشعبية بسبب إهتمامه بملبسهِ وشكله خارج قيود المسموح دينياً. بالطبع لم ولن تقوم الدولة بإجراء أي تحريات لكشف هوية القتلة والجهة المسؤولة عنهم.
لكل من الـ ٣٢٠ حزب و إئتلاف سياسي في العراق ميليشيات مسلحة، ربما بإستثناء الحزب الشيوعي. وهذه الميليشيات ليست متغلغلة في أروقة الدولة فحسب، بل لها كيانات مستقلة خارج الدولة و(مظاهر ممارسة) القانون. وهي تُمارِس العنف متى يحلو لها ومتى ما شعرت أن مصالحها تتعرض لأقل مساس. ما يربط جميع هذه الأحزاب هو المصالح المالية المشتركة، إذ استفاد كل حزب أو جهة سياسية و كل مَن إستوزرَ أو شغلَ منصباً مهماً في أروقة الدولة. و استفادت أيضاً، و بجشع قلَّ نضيره، عوائل ومُقربّي المسؤولين. وفي خضم المفاوضات واللقاءات في فنادق بغداد وعمّان بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية، بلَغَت عملية شراء الذمم أوجّها لعقد الصفقات بخصوص "الكتلة الأكبر" لتشكيل الحكومة. وأعلن أحد "الشخصيات السنيّة" على إحدى القنوات الفضائية العراقية أنه أُعطيَ ستين مليون دولارا أمريكياً لكي يدخل في تحالف "دولة القانون" للمالكي! و كان هذا الشخص مستاءً لإنه توقعَ ضعف المبلغ... أولاد قُراد الخيل! لا يوجد أي وازع أخلاقي أمام أي "سياسي" عراقي، الكل ينظر للعراق كأنه مِلكٌ له ولأقربائه. وقد يتباكون على الحسين أو يذمّوه، و لكن كلهم، ليبراليين وإسلاميين، سرّاق ومنافقون بدون إستثناء.
البحث عن وطن وسط الخراب
في ٧ آب ٢٠١٨ انطلَقت مظاهرة في منطقة باهلة في قضاء المدينة في البصرة مطالبة بماء صالح للشرب ووظائف للشباب خريجي الجامعات والمعاهد. كانت مظاهرة سلمية ككل المظاهرات الإحتجاجية على مدى ثمانية سنوات أو أكثر، كل صيف في جنوب العراق البائس. وكان ردّ القوات الحكومية، أيضاً كما حصل في السنين السابقة، إطلاق الرصاص الحيّ ضد المتظاهرين السلميين. وهكذا قُتِلَ الشاب يوسف يعقوب المنصوري في ٨ آب، و كان مقتله وحالات التسمم بالمياه الملوثة التي فاقت الألفي شخص النقطتين الأساسيتين اللتين أججَّتا الشباب البصري لتنظيم مزيد من الإحتجاجات.
واستمرت الإحتجاجات في البصرة دون إنقطاع، وخرج المساندون لها في الناصرية والعمارة والديوانية والكوت والنجف وكربلاء. وخرجت تظاهرات مساندة، خجولة نوعا ما، في بغداد، بينما ظلَّت بقية محافظات العراق تتفرج. وتناقلت وسائل التواصل الإجتماعي اللقطات والتسجيلات عن غضب الشباب ومطالبهم بأبسط الأمور الحياتية: الماء الصالح للشرب والكهرباء وتوفير فرص العمل. وتناقلت كالنار في الهشيم صرخة رجل خمسيني في الناصرية: "عمي، نريد وطن"! أين الوطن؟ لقد نهبَ سياسيو ٢٠٠٣ كل شئ من هذا الوطن، وسرقوا حتى القطع الأثرية من الموصل المحتلَّة من أوباش داعش وهربوها الى الأردن و قطر والإمارات، كما فعلوا قبلها بآثار بابل وأوروك و حتى القليل الموجود في المتحف العراقي. وما كان من الأشقاء العرب إلا أن يعرضوا تاريخ العراق المسروق على تجار القطع الأثرية في أورپا، أو يُتحفوا متاحف مدنهم بتراث العراق المنهوب. ومتحف اللوڤر-أبو ظبي يضمّ بعض المسروقات العراقية، لمَن يصبو التقصي، وكذلك متاحف و معارض الدوحة.
لم يكترث سياسيو المحاصصة الطائفية في بغداد يوماً لمذهبٍ أو مبدأ، وأحداث البصرة بالتحديد بيَّنَت ذلك بوضوح لا غُبار فيه. محافظ البصرة السابق، ماجد النصراوي، هربَ الى إيران وفي جعبته ميزانية المدينة بأكملها. والمحافظ الحالي، أسعد العيداني، الذي كان مديراً لمكتب أحمد الچلبي أيام "المؤتمر الوطني العراقي"، تركَ المحافظة وذهبَ الى بغداد. فالمسؤولية مفردة غريبة عن قاموس السياسيين العراقيين. الإهمال التي تعرضت له البصرة، وبقية مدن العراق، على مدى خمسة عشر عاماً، شئ لا يتخيله العقل. تبدو البصرة مدينة منكوبة وهي واحدة من أغنى مدن العالم. هذا الإهمال يضاف إلى أنقاض دمار القصف الجوي الإيراني منذ ١٩٨٢ الذي دمرَّ كثيراً من المنشآت الحكومية الصناعية والتقنية، وإجحاف حكومة صدام حسين على إثر إنتفاضة آذار ١٩٩١ التي أشعلها الجندي العراقي المهزوم من الموت والإذلال عقب هزيمة حرب ١٩٩١ التي شاركت فيها معظم الدول العربية من مصر وسوريا والسعودية والإمارات و بقية إمارات الخليج والمغرب لضرب العراق وشعبه ومنشآته وبنيته التحتية. البصرة المسؤولة عن ضخ ما يزيد عن ثلاثة ملايين برميل يومياً، بحسب إحصائيات منظمة أوپك (OPEC) لعام ٢٠١٧، وكانت إيرادات العراق للعام نفسه ٥٩,٧ بليون دولار أمريكي (أو ٥٩٧٣٠٠٠٠٠٠٠ دولاراً بالتحديد). أين مشاريع الإعمار و البناء؟ أين المستشفيات والمدارس والجامعات؟ أين وسائل النقل الحديثة؟ أين مكائن تحلية المياه؟ و إتضح لنا أن ما يزيد على ٧٠ مليون دولاراً صُرِفت لشراء أجهزة لتحلية المياه للبصرة، وبالفعل حضر رئيس الوزراء نوري المالكي حينها لإفتتاح مكائن التحلية وسط ضجة إعلامية حكومية، ولم يحصل أي شئ إطلاقاً بعدها لأن الجهابذة أكتشفوا أن المكائن لم تكن مناسبة لتحلية المياه! و هكذا ذهبت سبعين مليون دولاراً في مهب الريح، وسكان البصرة بدون ماء صالح للشرب.
أضحى الفساد في العراق سلعة للتفاخر. مَن يسرق الأكثر، ومَن يُهين الشعب أكثر. وبينما ينهمك السياسيون بالسرقة والنهب، تمارس مليشيات الأحزاب الإسلامية الضغوط على السكان العُزَّل وتحمي السرّاق أنفسهم. ولم تشهد البصرة أي تحديث لبنيتها التحتية (مستشفيات، مدارس، جامعات، مراكز ترفيهية، طرق ومواصلات، مراكز توليد الكهرباء وتحلية المياه، الخ)، بل تفاقمت فيها القذارة والإهمال واللاتخطيط و إضمحلت الآمال. هذه البصرة كانت تنتفض كل عام على مدى عقد أو نيف، وهذا العام وصلت ذروتها بعد أن وصلت البطالة نسبة تزيد على الأربعين بالمئة (كل أربعة شباب من بين عشرة عاطلون عن العمل). وأعربت الجموع عن غضبها بإحراق مكاتب الأحزاب الإسلامية الشيعية والقنصلية الإيرانية، وحطمت يافطة كبيرة تعلوها صورة الخميني في أهم شوارع المدينة. وذهبت جموع الشباب في غضب لحقول النفط التي تضخ الملايين لمنفعة الشركات العالمية. وحينئذ أرسلت الحكومة العراقية الجيش لحماية آبار النفط والمنشآت النفطية، واستخدٍمَ الرصاص الحي مرة أخرى ضد المتظاهرين. هل تُعتبَر أفعال الشباب المُحبَط تخريبية؟ بالتأكيد الجواب سيعتمد على وجهة نظر المتحدث/المتلقي. مَن المُخرِب، الشركات النفطية الأجنبية المستمرة بنهب خيرات البلد مقابل صفقات لسياسيين فاسدين، أم الشعب الجائع الذي لا يجد حتى ماءً صالحاً للشرب؟ وهذه الشركات نفسها تستورد الأيدي العاملة، دون أن تَفرض عليها حكومة بغداد تعيين أهل البلد.
آخر الكلام...
لخصَّ رجل عراقي بطريقة ساخرة، أُجريت معه مقابلة بالصدفة من قبل إحدى القنوات الفضائية العراقية في سوق السنك التجاري ببغداد، الوضع العراقي و رأي كثير من الشعب. "منذ خمسة عشر عاماً لم تُوفر الحكومة شيئاً غير اللطم وضرب الزنجيل والرز و مَرَق القيمة أيام المواكب الحسينية. لا خدمات ولا فرص عمل، وخريجو الجامعات عاطلون يجوبون الشوارع. مَن يُخالف هؤلاء الفاسدين سيُقتَل. لَن يتغير شيء في العراق طالما هذه النخبة الفاسدة في الحكم. وهم مأجورون من قبل السيّد الأمريكي، يًُجدِّد عَقْد هذا ويُنهي عقد ذاك، والأمريكي هو الحاكم الناهي."
و تأكد كلام هذا المواطن، إن كان هناك مجالاً للشك، إذ "وافقَ" البرلمان العراقي على إنتخاب محمد الحلبوسي (حزب الحل السنيّ المنضوي في تحالف "الوطنية" لأياد علاوي) رئيساً، وبرهم صالح (الإتحاد الوطني الكردستاني، وهو رئيس وزراء إقليم كردستان السابق ووزير التخطيط في حكومة إبراهيم الجعفري للفترة ٢٠٠٥-٢٠٠٦) رئيساً لجمهورية العراق، وعادل عبد المهدي ("مستقل" حالياً، وسابقاً قيادي في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وشغل منصب وزير المالية في حكومة أياد علاوي عام ٢٠٠٤ ثم نائب رئيس الجمهورية عام ٢٠٠٥ ثم وزير النفط للفترة ٢٠١٤-٢٠١٦). وعادل عبد المهدي، نجل واحدٍ من أكبر إقطاعيي الناصرية في العهد الملكي، كان بعثياً وشارك في إنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ الدموي، ثم إنتقلَ إلى الماويّة (نسبةً الى الزعيم الصيني ماو) في سبعينيات القرن الماضي، ثم الى الليبرالية وأخيراً، ربما، إلى الإسلام السياسي الشيعي إذ تبوأ منصباً قيادياً مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية. كل ذلك في حياةٍ واحدة! والشخصيات الثلاث المذكورة (الحلبوسي وصالح وعبد المهدي) معروفة بقربها من الجناح اليميني الأمريكي.
قد يتسائل المرء عن دور المرجعية الشيعية في النجف، والسيستاني تحديداً. كان للمرجعية الشيعية ميزة مهمة هي عدم تدخلها في الأمور السياسية إطلاقاً، وكان هذا موقفها لقرون عدة. و لم يتناقض ذلك مع أن يكون لها دور إيجابي في التغييرات المجتمعية. فعلى سبيل المثال، سانَدتْ المرجعية، و بصورة فعّالة، ثورة العشرين ضد البريطانيين و أصدرتْ فتوى بوجوب مجابهة المُحتل. ومن نفس المنطلق، أصدرَ آية الله المرجع علي السيستاني، تحت تأثير الحكومة العراقية حينها، حسب رأي البعض، أو دون أي تأثير حسب رأي البعض الآخر، فتوى في ٤ أيلول ٢٠٠٢ تنص على وجوب محاربة الغزاة الأمريكان وأن التعاون معهم يُعتبَر من كبائر الذنوب (وقد نقلها حينها مراسل قناة الجزيرة ماجد عبد الهادي). وتعرّي هذه الفتوى، من ناحية، موقف السلفيين من كون الشيعة والمرجعية عملاء لأمريكا، ومن ناحية أخرى، تقف ضد خنوع الإسلام السياسي الشيعي للمُحتل. وفي ممناسبة أخرى، أصدرتْ المرجعية فتواها المعروفة بحمل السلاح ضد داعش التي احتلت ثُلث العراق في ظل حكم الإسلام الشيعي، وحزب الدعوة الإسلامية بالتحديد.
و لكن الأمر تغيَّرَ مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ واختراع آية الله الخميني مبدأ ولاية الفقيه، الذي لم يُقرَّهُ مُجمل مراجع النجف. واستمرت النجف في حيادها عن التدخل في السياسة، وانتُقِدَت من بعض المراجع، تأثراً بنهج الخميني، وعلى هذا الأساس أطلق محمد صادق الصدر مصطلح، وتبعه منشور، "الحوزة الناطقة" في تسعينيات القرن العشرين. ولم تكن "الحوزة الناطقة" تابعة لإيران أو مؤمنة بمنهج ولاية الفقيه، بل كان جلّ تركيزها على ربط الدين بالسياسة خلافاً لنهج المرجعية الأساسي في فصلهما عن بعض. لسنا هنا بصدد نقاش في أحكام الفقه الشيعي ونقاط ضعفه أو قوته، ولكن من النافل إدراك جَدلية العلاقة في موقف المرجعية من الأمور السياسية عموماً. و هذا يختلف جذرياً عن الدور الوضيع لأزلام الإسلام السياسي الشيعي في إقحام الدين، و المرجعية أيضاً، في كل صغيرة وكبيرة تخدم مصلحتهم. و ما يحتاجه المجتمع في العراق، هو إقصاء الفكر الديني من المعترك السياسي، أياً كان، ومن الإقتصاد والقضاء وقوانين الدولة والمجتمع. و نأمل أن تكون الخمسة عشر عاماً الأخيرة درساً مهماً في إعادة تقييم الفقه والممارسة من منطلقات عملية لها تأثيرها الملموس على حياة البشر، وإحياء مقولة، الدين لله والوطن للجميع، التي كانت ترددها الجماهير في مظاهرات عام ١٩٥٩ والثورة الفتيّة تجابه مخططات الخارج والإقطاع و آية الله محسن الحكيم (جدّ عمار الحكيم صاحب إئتلاف الحكمة و زعيم المجلس الإسلامي الأعلى) الذي أصدرَ فتوى تحريم الشيوعية.
لن يزول الخراب من العراق قريباً ولن تَدب العافية في كيانه الذي أنهكته الحروب والحصار الفساد، و لكن شابات و شباب العراق ضربوا عرضَ الحائط مساوامات آبائهم، وبهم نتفاءل. لقد أثبتت البصرة أن هذا الشباب لا يكترث للأعراف التي سببَّت له المجاعة والعوز، و يعي دور الأجنبي القادم لنهب ثروات البلد والسياسي العراقي الفاسد الذي فتحَ البلد للسرقة والقتل. وإن قتلت المليشيات الإسلامية تارة فارس وحمودي المطيري، فلن يتمكنوا من قتل الآلاف الأخرى.