تبدو “اختبار الندم” للروائي السوري خليل صويلح والحائزة على جائزة الشيخ زايد للرواية خرقاً للسرد التقليدي، من خلال ابتداع سرد يقوم على بناء المعنى وتحطيمه في مشهدية تتكئ على مفهوم الصورة عند بودريار فكل صورة تؤسس لأخرى وتنزاح لتترك لها فضاء جديداً.
وقراءة أعمال صويلح ليست نزهة في غابة السرد، بل تحتاج لمهارة اقتفاء أثر الأسئلة المصاغة بنكهة عدمية “فالشعر هنا يبدو مجرد قناع لجعل العدم يتلألأ.” والثيمة الأساسية التي تتكشف في أعماله من “وراق الحب” و”دع عنك لومي” إلى “زهور وسارة وناريمان” و”جنة البرابرة”، “حتى اختبار الندم” هي تتبع خيط الرغبة وسط ضباب الحرب والانتهاك اليومي، والضياع بين عشوائيات المدن وينطبق على نصوصه ما يسميه بودريار”تآكل المعنى بسبب تخمته.” فبالرغم من أن رواياته لا تتجاوز المئة وخمسين صفحة إلا أنها تحفل بالمعاني لدرجة أن القارئ يصعب عليه الإمساك بالمعنى الحقيقي. فنصوص صويلح متخمة بالمعاني، كالرغبة والحب والجسد والتاريخ والغثيان بالمعنى الوجودي، التي يدمرها الراوي عمداً لخلق غيرها، إضافة للإحالات إلى كتب أدبية ومقاطع شعرية وعناوين أفلام.
وهذا أساس العدمية التي تتسلى “بالتدمير والبناء ثم الهدم” والرابط بينها رائحة الرغبة المراوغة التي تبدو حيلة لجذب القارئ وإيقاعه في عسل النص غير متنبّه للخيبة والكآبة التي تنتظره والتي تشيع فيه، والدافع الوحيد الواضح خلف ضباب الرغبة هو الضجر. فالضجر هو الصمغ الأسود الذي حط على روح الراوي.
لكنّ الهاجس الأساسي منذ “وراق الحب” هو الكشف عن الجسد عبر لغته والجسد يكتشف ذاته عبر أمرين هما “الرغبة و الألم”، وترى ميشيلا مارزانو: “أن الجسد هو قدرنا ليس لأن الكائن البشري ليس حراً في اختيار الحياة التي تناسبه أكثر، وأنه مصمم وراثياً لإنجاز بعض المهام أكثر من غيرها بسبب طبيعته الجسمية، بل لأن الجسم وبمعزل عن كل خيار وكل قرار هو حاضر دائماً، وغير قابل للتجاوز.”
ويحضر الجسد بكثافة من خلال عملين يبدوان امتداداً لبعضهما: “زهور وسارة وناريمان” 2016، و”اختبار الندم” 2017.
ولعل الرابط بين أعماله بالمجمل هو البحث الذي لا يهدأ عن نجمته؛ ففي “ورّاق الحب” هو كاتب يبحث عن فكرة رواية، وفي “زهور وسارة وناريمان” هو مصور يبحث عن مشروعه، وفي “اختبار الندم” هو مدرب لورشة سيناريو.
في “اختبار الندم” يعمل الراوي على إظهار نضوج شخصيات العمل؛ فزوج زهور العسكري المعطوب الذي كان يفرد خرائطه ويضع خططاً حربية سيعود بهيئة كمال علون في “اختبار الندم” وهو يتأبط مشروعه الكتابي بل إنه قادم هو الآخر من الثكنة فالأول عسكري قديم والثاني كان يعمل مراسلاً حربياً.
والتحرر الجسدي في زهور وسارة وناريمان والمتمثل بثورة زهور على زوجها المعطوب، بعد أن اكتشفت جنة كانت محرومة منها في أحضان الراوي، يصبح فعل تحرر لغوي في اختبار الندم، فمدرب ورشة السيناريو قد بلغ حكمة “أن التحرر الجسدي لا معنى له دون تحرر لغوي.” فأسمهان في عزلتها في الجنوب السوري تبدو استمراراً لزهور المنفية مع رجل عنين، زهور تحررت بجسدها لكنها الآن أسمهان وقد أصبحت شاعرة صوفية سوف تطلّق زوجها وتقيم علاقة مع الراوي الذي ينصحها بتحرير اللغة من صمغ العبارات الجاهزة “إثر عودتها إلى قريتها في الجنوب أمطرتني نصوصاً جديدة انتبهت إلى أنها خلعت عباءة الصوفية التي كانت تتدثر بها، في نصوصها القديمة” فنحن نحتاج إلى نفض الغبار عن اللغة”، فهي وهذا ما يصف به الراوي أسمهان مشعل “لم تعد تختبئ خلف مجازات نصوصها، بل تقف على أرض مكشوفة أولاً.”
أما نارنج التي تبدو وكأنها مهجة الصباح البريئة في رواية “وراق الحب” فقد تحولت من امرأة ساذجة إلى مهزومة، فقد اغتصبت واعتقلت وهي مصابة في عمق روحها حتى أنها تمارس العادة السرية متخيلة مغتصبها.
ويحافظ الراوي على مسافة الأمان معهن بممارسة أقصى حالات اللامبالاة “الأن باللامبالاة وحدها بنظره تكون حرة” فهو أشبه ببطل كامو في رواية “الغريب” تستوي عنده كل الأمور وثمة مسافة تفصله عمن حوله “أحسست بمسافة تفصلني عن الجميع، بمن فيهم سارة قطان ذاتها، ها أنا أكتشف نمطاً آخر للحياة لا مكان فيه لكآبتي التاريخية.”
في رواية “زهور وسارة ناريمان” ثمة امرأة غائبة هي “امرأة المنام” والتي يبدو حضورها طاغياً… وتمتد مستحوذة على تفكيره ولا يجد بينهن من توازي سطوتها، أما في اختبار الندم فهي تتحول إلى كائن افتراضي تارة وكائن من لحم ودم تارة بإسمين مختلفين أسمهان مشعل “المتشاعرة” كما يطلق عليها الناقد محمد برادة، وآمال ناجي في العالم الافتراضي.
في “زهور وسارة وناريمان” يحركه الأمل بالعثور على امرأة المنام، أما في “اختبار الندم” فيلغلق الكاتب نافذة الضوء حيث تضيق المسافة بين الحلم والواقع بخلق واقع ثالث افتراضي لا محل للأمل فيه… فقط رغبات وشهوات مبتورة…
وفي كلا العملين فإن “بحيرة الجليد” تقف حائلاً بينه وبين نسائه، وهي تتسع لتمنع المؤلف لا الراوي فقط من سبر الأعماق الداخلية لبطلاته. فجاءت شخصياته تفتقر للعمق في بعض جوانبها. فهو يكتفي بتمرير مسباره الكشفي على وجه شخصياته. وتمنعه بحيرة الجليد أو اللامبالاة من تفهمها مما اضطره للبوح بالنيابة عنها. حتى المونولوج في النص، على ندرته، تفوح منه رائحة المؤلف لا رائحة الشخصية التي تتحدث.
والمرأة هنا هي ليست المشتهاة ولا المعشوقة، إنها مهزومة بجسد ضائع بين الحرمان والعفة والاغتصاب، أو هي أسيرة ثقافة البورنوغرافيا وهي مشغولة في المقهى أين يمكن لها أن تضع الأقراط المصنوعة من الذهب أو الفضة او النيكل على أنفها أو على المناطق الحساسة؟
وإذا كان بيكيت يتحدث عن الجسد المخفي وباختين عن الجسد المشفر، وهناك الجسد المشرح الذي أعيد تشكيله في (وحش فرانكنشتاين)، والجسد المروض والمطيع عند (فوكو)، الجسد العاري، الجسد المشلول، الجسد المصلوب… فإن الجسد يبدو في أعماله كالسجن أو الأسر وهذا المعنى ملازم للحداثة حيث تنتهي أغلب الشخصيات بالانتحار أو السفر كانتحار الفتاة التي تركها حبيبها، انتحار حارس القباني وفتاة حي الشعلان، وانتحار فتاة مشروع دمر.
فالجسد هو أرض الجراح، وهو حمل ثقيل ينبغي التخلص منه وهذا يظهر بوضوح في “اختبار الندم” وإذا كانت الحرية تتجاوز التحرر بمعناه الجسدي واللغوي إلى القدرة على أن يعرف المرء ويختار، فإن الراوي يلغي أي إمكانية لشخصياته أن تفلت من قيد الجسد وقيد الحرب إلا بالهرب أو الموت. واللافت غياب الوجه وتبدو أغلب الوجوه غائبة ماعدا إشارة عابرة لعيني نارنج الشبيهتين “بغابتي نخيل” ماعدا ذلك تبدو الملامح مختفية بشكل متعمد، جسد زهور دبابة من اللحم، سارة قطان فراشة.
مقابل جسد مشوه ومتعب لناريمان، بخلاف ذلك جسد نارنج غائب ولا نعرف منها سوى أذنها المشوهة، وهذا أمر له دلالة رمزية، وبالنهاية ما الفرد وأين توجد هويته؟ أليس الوجه علامة حريتنا وعما يكشف غيابه؟
والسؤال: من دون السقوط في التعداد الساذج لنماذج الجسد؟ كيف نبني فلسفة للجسد قادرة على إبراز المعنى والقيمة الجسمية؟ وهل بمقدور المرء حقيقة، أن يضع جسده على مسافة منه؟ يبدو أن خليل صويلح رفع الغطاء فقط وترك لأفاعي الخيبة السامة أن تتكفل بلدغ قارئه.
أما الرغبة فهي الكاشف عن محدودية هذا الجسم وعذاباته ولا معنى وجوده والرغبة هي التي تكشف لنا عن أجسادنا، فبحسب مارزانو أن “كل واحد منّا متواطئ مع رغبته وعبر هذه يرد كونه جسماً.”
وهي تبدو في اختبار الندم حالة “كشف ومعرفة “، أكثرمن كونها رغبة ايروتيكية وبعد أن كانت فعل تحرر في “زهور وسارة وناريمان” أصبحت خاوية ومبتورة وتخضع لجمالية اللامبالاة وهذا ما يشكل عنصر جذب للقارئ؛ فهي “تلقي بنا خارج ذواتنا” بحسب ميشيلا مازارانوفا.
إنها الرغبة المحررة “التي تعيش حياة بداوة وترحال في ظل الحداثة حسب ويلهم رايش.” وأي علاقة شهوانية هي مجرد طوق نجاة من صمغ الضجر ورتابة الأيام وقسوة الحرب في “زهور وسارة وناريمان” يتساءل: لماذا تبددت سارة قطان هل هي بقايا من نذالة ذكورية؟ وفي اختبار الندم يجيب “فما معنى أن أشتهي جمانة سلوم بوجود أسمهان مشعل التي كنت مغرماً بها منذ ساعة واحدة فقط” وهذه الجملة تبدو كتقرير أو استنكار أكثر منها استفهام فهي ما إن تنبثق حتى تفنى وهذا ما يشيع روح الكآبة في النص فـ”الكآبة هي سمة ملازمة لنمط زوال المعنى” بحسب ميشيلا مارزانو و “رغبة لا تتأسس على ذاتها ليست رغبة” بل تتأسس على الضجر وحالة الفقد والعدم.
وهي تتخذ معنى الفقد لا الوصول إلى الآخر وتنتهي عند زهور بالانتحاب والبكاء، وعند سارة بالأفول، وعند الروائي هي حنين للأم، فماذا يبرر تعلقه بزهور التي لها مظهر أم؟ وهو يردد في أكثر من موقع مرة مع زهور ومرة مع نارنج أنها نظرت له كأم خسر ابنها موقعه لكنه لم يخسر المعركة ربما هو “شوق للأم في المرأة و الأم هي الجنة المفقودة.
بطولة اللغة… و المكان
الشعرية بحسب فاليري “حيث تكون اللغة في آن واحد الجوهر والوسيلة” واللغة وهي نسق من الرموز تتحول في “اختبار الندم” إلى لغة شعرية وعالية وكثيفة ويتحقق فيها المعنى السابق للشعرية، ولها دور البطولة على حساب الشخصيات، بل يمكن لعبارة أن تترك على حواس القارئ سطوة أكثر من معاناة الشخصيات نفسها بحيث تضيع وحدة وأشواق اسمهان ناجي خلف لغة الراوي، وتبدو عذابات حارس سينما القباني محتجبة خلف اللغة التي تصف هذا العذاب.
وتفقد معاناة نارنج معناها خلف جمل تتسم بإشراق عبارته ونصاعتها، وتبدو اللغة كإطار متسع يظهر ضآلة الشخصيات، وهي تحجب معاناتهم خلف بلاغة متعمدة. وتنتهي فصوله القصيرة كلها بجمل شعرية وسطوة اللغة عنده تفرض نفسها على القارئ، بل يبدو أحياناً أنها تكتفي بذاتها كرمز لمعنى، وفي هذا الاكتفاء يتحقق عدم المعنى، وهكذا تلعب اللغة والصورة والمشهد البطولة كإطار ضخم لا تستطيع الشخصيات ملأه.
ومن جماليات اللغة “كنت تشعلين الوقود بعود ثقاب غير مرئيّ، ثم تطفئين النار بعبارة مضادة لا تخص ّ الحطب الذي جمعناه معاً من غابة الغواية المجاورة” أو”نكتب لنحول ثاني أكسيد الكربون إلى أوكسجين والفحم إلى ثمار بريّة بمذاق حرّيف، ولترويض آلام الجسد وخطاياه.”
وبهذا يخلص الكاتب لفكرته الأساسية حول لغة مشتهاة “اللغة المشتهاة أن نحصل على مسك الغزال، لحظة تفجر كيس سرته فوق صخور الجبال العالية.” وهذه هي الرسالة التي يرسلها الروائي إلى نفسه لتعرية روحه فهو مؤمن بأن السرد “هو شرف الكاتب” بحسب زافون لذا تتفوق اللغة على الشخصيات في اختبار الندم.
أما التاريخ فهو حفنة من الأوهام والأكاذيب والقسوة ويقابله لا بالتهكم ولا الهجاء ولا السخرية، بل بالدعابة اللانهائية فبالدعابة وحدها بحسب هيغل “يمكنك أن تراقب تحتك غباوة الناس الأبدية وتسخر منها.”
فكلما كنت تغوص في وحل اللحظة الراهنة، أكثر، عليك أن تشمخ برأسك عالياً، ففي أسوأ الاحتمالات أنت حفيد صلاح الدين وزنوبيا، ويوسف العظمة.” فالتاريخ وهم، والرغبة هي ليست إلا الشهقة الأخيرة لجثث مبتورة، واللحظة غارقة في لزوجة الضجر اليومي، والحياة أمر عارض، والعرضي يوازي الموت والعدم الذي ينبغي مواجهته بمعول الهدم… لذا ستتبلور فكرة التحطيم في منجزه ضد المكتبة الذي يهدف للهدم بمعناه المجازي والرمزي، ليس بإشعال النار في الكتب بل حتى في الكلمات والحبر الذي كتبت به.
في دمشق يتقبل الناس سقوط قذيفة بنفس الطريقة التي يتقبلون بها زخة مطر، لا بأس أن تطيح بك قذيفة في مدينة المدن وجنة البرابرة، فماذا يعني أن تسقط القذيفة فوق جسد مهشم بالأساس؟
لم تعطه جنة البرابرة سوى هذه الكآبة التاريخية وكأنه يقول مع بودريار الآن حيث صحراء المدن تعادل صحراء الرمال، سألتفت نحو الصحراء لا بل ربما بدت الصحراء بمثابة جنة مفقودة سيستعيدها في الذاكرة.
أليست الذاكرة هي “المكان الحميم الذي يمكن للذات والماضي أن يصفيا الحساب على أرضه؟” وكأنه يعاتب الماضي قائلاً: أنا الذي مشى فوق الرمال الحارقة بقدمين حافيتين، وأنا من شرب الماء الذي ترى به الجراثيم بالعين المجردة.