[ترجمه إلى العربية أيمن الحسيني]
هيمنت اللوحات الإعلانية على أفق القاهرة في العقود القليلة الماضية، مع ارتفاعٍ كبير وملحوظ في عددها بعد 2011. تزامن ذلك مع تطورات شهدها مجال التسويق وتقدم تكنولوجي سمح باستخدام شتى أنواع وسائل الإعلام لعرض الإعلانات في أماكن مختلفة وبأشكالٍ متباينة. تُسوّق اللوحات الإعلانية لعددٍ لا نهائيّ من المنتجات، لكن من السهل ملاحظة أن إعلانات العقارات تحظى بنصيب الأسد، لا سيّما إذا تعلق الأمر بالترويج لمجتمعات مسوّرة (كومباوندات) جديدة.
بإلقاء نظرة فاحصة على اللوحات الإعلانية للمشروعات العقارية تلك، لا يسع المرء إلا أن يلحظ أن جميعها تُقدّم نوعًا من الوعود. وعند تحليل خصائصها المرئية والجوهرية العامة، يمكننا العثور على بعض التماثلات. هناك كثير من الرسائل المحملة بوعودٍ يتم إيصالها من خلال هذه الإعلانات بوضوح، وهي تركز بصفة أساسية على الوعد بتحقيق الذات والإشباع، استنادًا إلى محاولة جلية لتعزيز الحصريّة، حتى وإن كانت في جوهرها شكلاً للفصل العمراني والاجتماعي.[i]
في مسعى لتحليل تلك الوعود، تُشير فرحة غنّام إلى ثلاث نقاط محورية تحاول [الوعود] الإيفاء بها؛ الجسد، والأطفال والتعليم، والتنقل (غنّام، 2014). إلا أن الإعلانات تحمل أكثر من ذلك فيما يتعلق بالرسالة الموجهة، بالإضافة إلى – وهي حالتنا – تواجد هياكل اللوحات الإعلانية في البيئة العمرانية بتلك الكيفية. فجميع اللوحات الإعلانية تقريبًا تعرض بداخلها عناصر للطبيعة.[ii] وتروّج لنمط معيشة ينعَم بمساحاتٍ خضراء ورحابة، في تناقضٍ واضح – وأحيانًا ما يُصرّح به – مع المدينة الرمادية المكتظة.
أما العناصر المستخدمة عادةً في تلك الرسائل فتنطوي على أشجار ومسطحات خضراء وملاعب جولف وسماوات خلابة وشلالات مائية – بدلاً من إظهار صور للبيئة المبنية والملامح التفصيلية للوحدات المعروضة بالفعل. إضافة لذلك، لا يتم الوعد مباشرة بالفضاء في صورته المجردة، لكنه يتسرب بشكلٍ خفي ضمن الوعد بالرحابة والبيئة ’الطبيعية‘ المعروضة. ويكون حضور عناصر الطبيعة بارزًا جدًا حتى أنها، في بعض الحالات، تصبح العنصر الوحيد المُعلَن عنه.
تمثُل أمامنا هُنا أهمية من شقين – كما نُجادل؛ أحدهما مادي والآخر ذهني. ففي حين تعرض اللوحات الإعلانية صورًا للعمارة و’الطبيعة‘ بوصفها وعدًا، فإن حضورها المادي يحجب، للمفارقة، العمارة وعناصر الطبيعة القائمة بالفعل، وبالتالي تُساهم بشكل أكبر في نُدرتها وفي إزحام المدينة. أي أنها، بعبارة أخرى، تغطي العناصر ’الحقيقية‘ مع ’الوعد‘ بتوفير أخرى مُشابهة.
على الجانب الآخر، بينما تُبنى تقريبًا كافة المشروعات الجديدة، التي يُروّج لها، في الصحراء، فإن الصور المعروضة بعيدة كل البُعد عن قحل الصحراء. أضف إلى ذلك أن عناصر الطبيعة المعروضة غريبة جدًا عن الجغرافيا المصرية في كثيرٍ من الحالات. فتاريخيًا في مصر، عملت دورة نهر النيل على تنظيم كلاً من الطبيعة وحركة العُمران في واديه (Azzam, O., 1960). كانت هناك دوماً ثنائية ضدية بين الوادي والصحراء؛ وهي ثنائية الحياة والموت، الداخل والخارج، حضور الدولة وغيابها (Hemdan, G., 2001). إلا أن المشروعات العمرانية في الصحراء والطريقة التي تُروّج لها تنم عن رؤية مستحدَثة وغير مألوفة لفضاء الوادي[iii] وفضاء الصحراء. أما فضاء الوادي فهو الأراضي الخصبة التي كوّنها نهر النيل، الذي يجري في مصر ويقسمها إلى نصفين غير متماثلين. يُشار إليهما اليوم بالصحراء الغربية والصحراء الشرقية وفي وسطهما وادي النيل، حيثُ تُبنى وتُطوَر غالبية المدن الجديدة.[iv]
بأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، سنقوم بفحص أثر اللوحات الإعلانية للمشروعات العقارية على فضاء المدينة وعلى الصورة الذهنية عن الصحراء، بالتركيز على الطبيعة كميدان للتقصي. ينبني مجالنا البحثي على مدينة القاهرة، بما في ذلك امتداداتها في الصحراء.
تُعد الإعلانات ولوحاتها نتائج متوقَعَة لسوق عقاري حر، لكننا لدينا من الأسباب، مع ذلك، ما يدفعنا للاعتقاد بأنها ذات صلة أيضًا بنمط الإنتاج الخاص بالدولة (State Mode of Production) من خلال فضاءات التمثيل الخاصة بها، استنادًا إلى نظرية لوفيفر عن إنتاج الفضاء والتمثيل (Lefebvre, H., 1978; 1980). ونحن نذهب إلى أن الصورة المستقرة عن فضاء الوادي تتوسّع، أو أن الثنائية انقلبت بحيثُ أضحى فضاء الصحراء يمثل النظام وقابلية العيش وحضور الدولة، في مقابل الطابع العشوائي الذي يغيب عنه الدولة والمُميِز للوادي المكتظ. كما أننا، علاوة على ذلك، نُسائل محاولات الدولة من أجل إنتاج فضاء الهيمنة الجديد ذلك بوصفه توسعًا لفضاء الدولة. نسعى في هذه الورقة إلى فهم مسائل هيمنة الدولة، ونمطها لإنتاج الفضاء، وكذلك هيمنتها على فضاءات التمثيل من خلال استغلال التخطيط العمراني والصور التي يروّج لها.
زيادة كثافة اللوحات الإعلانية المستخدمة مؤخرًا، محمد أبو طيرة، 2016.
القسم الأول
اللوحات الإعلانية وأوجه النُدرة في البيئة العمرانية
من الشائع، كاستراتيجية تسويق، استخدام ميزات يُفترَض نُدرتها من أجل جذب عملاء مُحتملين، ويجري ذلك من خلال ربط هذه الميزات بالسلعة المُعلن عنها برباط الوعود. وهذا هو الحال بالنسبة للرسائل التسويقية التي يتم إيصالها على اللوحات الإعلانية، تمامًا كما في وسائل الإعلان الأخرى. لذا فسوف نتناول موضوع هذه الورقة من عدسات النُدرة.
أوردت بيترا كوبنجر، في دراسة سابقة، بعض من الميزات التي تعِد بها الكومباوندات، وهي: مساحات خضراء وفيرة، وبيئات معيشة صحية، وأنماط حياة عالية الجودة، وراحة، وتسهيلات، وخدمات اجتماعية، وهدوء وسلام نفسي (Kuppinger, P., 2004). أو كما يُعددهم خالد أدهم: تسهيلات ومشاهد خلابة وتجربة معيشة مكتملة، ثم يُرفق بها: بيئات خضراء ذات نسب فراغية تراعي الإنسان ومرتبة ونظيفة، في دراسته حول فضاءات رأس المال الجديدة في القاهرة. يرى أدهم كذلك أن تلك الميزات لم تعُد تنعم بها القاهرة (Adham, K., 2005). وكما نلاحظ فالمساحات الخضراء وردت لدى كلا الباحثين ضمن الميزات العمرانية الموعود بها. يمكننا إذًا الادّعاء بأن المساحات الخضراء نادرة الوجود في البيئة العمرانية للقاهرة – على الأقل يشيع تصورها كذلك –، وهو ما ركزنا عليه في مشاهداتنا وعملنا الميداني.
مثال على الوعود التي تحملها اللوحات الإعلانية ومضامينها الطبقية والوعد بتحقيق الذات، محمد أبو طيرة، 2016.
الفضاء ونُدرة ’الطبيعة الخضراء‘ في مصر
قبل استكمال تناولنا اللوحات الإعلانية، يجدر بنا الإشارة إلى شكل ومدى نُدرة ’الطبيعة الخضراء‘ في مصر. يُشير هنري لوفيفر إلى العناصر التقليدية للطبيعة في نظريته على أنها: الهواء والماء والضوء الطبيعي (Lefebvre, H., 1970). في مصر، لا تُعد نُدرة هذه العناصر بالأمر غير المألوف، خاصة المياه. فلطالما كانت المياه محدودة ولطالما اعتمدت مصر بشكل كامل تقريبًا على نهر النيل كمصدر رئيسي للمياه، وبالتالي أصبحت – المياه – وثيقة الصلة بالأراضي المروية والمأهولة بالسكان (Hemdan, G., 2001). لذلك أصبحت الطبيعة الخضراء المرتبطة بموارد المياه عامل النُدرة الرئيسي.
دائمًا ما تبع التخطيط العمراني، بالمثل، أنماط المياه والطبيعة الخضراء باعتبارهما وسيلتا التمييز (والتميز) الرئيسيتان واللتان عكستا أيضًا البنية الاجتماعية والسياسية السائدة على مرّ عصور مختلفة (ibid). ورغم أن المساحة المروية تضاعفت من 2 مليون فدان[v] في أوائل القرن التاسع عشر إلى 8 مليون فدان اليوم جرّاء استصلاح الأراضي والمشروعات الزراعية المتواصلة (Sims, D., 2015)، إلا أن الطبيعة الخضراء تظل نادرة لأن تعداد السكان ارتفع من 2 مليون إلى أكثر من 90 مليون في الفترة الزمنية نفسها.
نُدرة الأراضي الصالحة للزراعة والعيش في مصر، خرائط جوجل 2016.
ليست النُدرة مجرد مسألة رياضية أو كمية، بل سياسية ومفاهيمية أيضًا. في مقالته ’تأملات في الفضاء السياسي‘، يؤكد هنري لوفيفر أن الطبيعة مسألة سياسية لأنها متضمَنة داخل الاستراتيجيات المباشرة وغير المباشرة. كما يذهب أيضًا إلى أنه بقدر ما نُهيمِن ونَتَسيّد على الطبيعة، تُباد وتُسحَق، حتى يشهد العالم حالة نُدرة جديدة؛ نُدرة الطبيعة (Lefebvre, H., 1970). إذا ما طبقنا تلك النظرية على مصر، نرى أنه رغم عدم حداثة مسألة نُدرة المياه، إلا أن الضغط على الموارد المائية يتناسب طرديًا مع القدرة على إدارة هذا المورد والتحكم في نهر النيل، وهو الذي جرى ترويضه على نحوٍ واسع مع بناء السد العالي بأسوان عام 1970 (Hemdan, G., 2001).
وأخيرًا، يتنبأ لوفيفر بأن وقتًا سيأتي علينا "... نضطر فيه إلى خلق الطبيعة والفضاء من جديد" باعتبارهما شرطين أساسيين للإنتاج (Lefebvre, H., 1970). لا يمكننا القول أن الكومباوندات السكنية الجديدة المُعلَن عنها تُعتبر إعادة إنتاج للطبيعة – فهي في حقيقة الأمر ليست طبيعية بالمرة كما سنوضح لاحقًا – لكن مع ذلك، هناك إصرار واضح على خلق محميّات من مساحات وفيرة الخضرة في قلب الصحراء القاحلة. يبدو أن خلق الطبيعة من جديد في هذه الحالة مرتبط بنزعة استهلاكية أكثر منها إنتاجية.
الخضرة على اللوحات الإعلانية
عندما تصبح المساحات الخضراء سمة عمرانية مرغوب فيها ونادرة، يُتوقّع حينها أن تُمثّل على اللوحات الإعلانية حرفيًا؛ بصريًا أو رمزيًا. ولنتقصى الأمر، قمنا بمسح مسافة 8.5 كيلومتر من طريق رئيسي بالقاهرة، لدراسة مواضع اللوحات الإعلانية بالنسبة للفضاء العمراني وفحوى رسائلها.[vi] ووجدنا حضورًا بارزًا لعناصر الطبيعة الخضراء في معظم الحملات التسويقية. فمن بين 29 لوحة إعلان عقاري، كان هناك 6 منها فقط لم تحمل عناصر من الطبيعة تروّج لها، بينما حملت ال23 الأخرى عنصرًا أو أكثر معروضًا كميزة فريدة من نوعها.
جاءت تلك الإشارات إلى المساحات الخضراء في أشكالٍ عدة: في الصور الملتقطة وفي نصوص الرسائل وفي حالاتٍ كثيرة جاءت ضمن اسم المشروع (كلمات مثل متنزه، أشجار، بحيرة، أخضر، اسم زهرة، جولف، وغيرها). كان حضور تلك الإشارات في بعض الحالاتٍ طفيفًا وماكرًا، حيث ظهرت العناصر الخضراء في خلفية المشاهد المعمارية، بينما في حالاتٍ أخرى كانت الإشارة للطبيعة الخضراء الرسالة الوحيدة على لوحة الإعلان.
موقع الطريق الذي أجرينا عليه المسح (طريق العروبة)، في شرق القاهرة.
مثالان على الطبيعة الخضراء المُروّج لها في الكومباوندات الجديدة، محمد أبو طيرة 2016.
الإسهام في النُدرة
برغم محاولات مشروعات الكومباوندات الجديدة توفير متنفس أكبر من المساحات الخضراء، إلا أنها نادرًا ما تحسّن الوضع بشكل عام. بل يمكننا الذهاب إلى أن محاولاتها تعزز النُدرة ذاتها التي تزعم التصدي لها على المستوى الوطني، وبالتالي تزيد الأمور سوءًا بالنسبة لقاطني الأحياء الأقدم للقاهرة. لا ينطبق ذلك على الأماكن الفعلية لتلك المشروعات بذاتها فحسب، بل ينسحب الأمر كذلك على مواقع اللوحات الإعلانية التي تروّج لها كما سنوضح.
يبدو واضحًا أن قاطني الكومباوندات المُعلَن عنها يتمتعون بمساحات خضراء بقدر أكبر من هؤلاء الذين يعيشون في أحياء القاهرة المختلفة. ومع ذلك، كنظرية عامة، تنطوي حركة الأهالي من المدينة إلى الكومباوندات في ضواحيها على أثر سلبي على الخدمات والمساحات العامة القائمة بالفعل، بما في ذلك المساحات الخضراء (Kuppinger, P., 2004). أما عن القاهرة على وجه الخصوص، فيختلف نصيب الفرد من المساحات الخضراء على نحوٍ كبير من حي لآخر، لكنها على أي حال تبقى ضئيلة إجمالًا مقارنة بالمعايير العالمية. فالحصة في الأحياء القديمة للمدينة لا تصل إلى 0.1 م٢/للفرد في حالاتٍ كثيرة، بينما الحصة في حي هليوبوليس كمثال على الأحياء في أوائل القرن العشرين تقفز إلى 7 م٢/للفرد (تضامن، 2014).
الجدير بالذكر هنا أن قاطني الأحياء التي تتمتع بحصة أعلى نسبيًا من المساحات الخضراء مثل هليوبوليس لديهم بالفعل وضعية اقتصادية أعلى، وبالتالي فهُم أنفسهم الجمهور المستهدف من الكومباوندات المُعلَن عنها. يعني ذلك أن هؤلاء الذين بوسعهم التمتع بالخضرة في الكومباوندات المُنشأة حديثًا يحظون بالفعل بتلك الميزة النسبية حيثُ يعيشون، بينما الأغلبية التي تُعاني من ندرة أكبر ستبقى محرومة.
تبنّت الدولة المصرية، منذ سبعينيات القرن الماضي، استراتيجية بناء مدن جديدة خارج القاهرة في الصحراء المحيطة بها (Kingsley, P., 2015). وفي محاولة منها لحل مشكلاتها في اشتراطات البناء والتخطيط، وُضعَ حد أدنى لنصيب الفرد من المساحات الخضراء. تقع غالبية الكومباوندات في تلك المدن إلى جوار الأحياء السكنية المخططة حكوميًا. وبرغم حقيقة أن قاطني مشروعات الإسكان الاجتماعي في تلك المدن يتمتعون بحصة من المساحات العامة أكبر من أحياء القاهرة الأقدم – التي نُقِل معظمهم منها – إلا أنهم يظلون أكثر حرمانًا بدرجة كبيرة مقارنة بقاطني الكومباوندات. من أجل إثبات ذلك، أجرينا مسحًا ميدانيًا[vii] في القاهرة الجديدة[viii] كمثال على المدن التابعة. قاس المسح توزيع المساحات الخضراء نسبةً إلى الوضعية الاقتصادية للقاطنين.[ix]
كان التفضيل واضحًا فيما يتعلق بتوفير المساحات الخضراء في القاهرة الجديدة، حيثُ نسبتها إلى المساحة الإجمالية في المناطق السكنية أكبر من 50% بمقدار طفيف، فجاءت النسب 55 و54 و50 في الكومباوندات والمنازل الخاصة والإسكان الاجتماعي على الترتيب. ومع ذلك، فالتباين الكبير بينهم في الكثافة السكانية يجعل حصة الفرد في النماذج الثلاثة مختلة على نحوٍ صارخ. ففي حين يحظى قاطنو الكومباوندات بحصة مقدارها 216 متر مربع من المساحات الخضراء لكل فرد، نجد أن حصة قاطني الإسكان الاجتماعي تبلغ 26 متر مربع فقط، كما أظهرت عينة المناطق لدينا. أي أن المناطق الخضراء المتاحة لمَن يسكنون الكومباوندات المُعلَن عنها أعلى بنسبة 744%، إذا ما قارناها بالمتاح أمام قاطني الإسكان الاجتماعي. بل إن التوزيع المتفاوت يصبح أكثر إجحافًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن جزءًا صغيرًا فقط من القاهرة الجديدة مُخطط من أجل الإسكان الاجتماعي، بينما الغالبية الساحقة مُخصصة للمنازل الخاصة والكومباوندات المُعلَن عنها، والتي تناسب فقط شريحة ضيقة من المجتمع.
من ناحية جغرافية، تقع أغلبية المشروعات الجديدة في الصحراء، بينما الحرص على إعادة خلق طبيعة خضراء يستهلك الكثير من المورد النادر بالفعل؛ ألا وهو الماء. إذ يستهلك الري في الصحراء مقدارًا من المياه أعلى بكثير من نظيره في الوادي، ناهيك عن أن بعض القرى في ريف مصر تعاني بالفعل من الجفاف في مزارعها (Piper, K., 2012). تأتي الجريمة الاجتماعية – إن جاز تسميتها كذلك – المتمثلة في ري ملاعب الجولف على حساب مد مياه عذبة ونظيفة إلى مناطق محرومة قائمة منذ عقود في أرجاء المدينة[x] (تضامن، 2013).
على جانب آخر، فإن اللوحات الإعلانية التي تعرض مشاهد للطبيعة الخضراء في إعلاناتها تشارك هي الأخرى في تعزيز النُدرة؛ وهي الندرة ذاتها التي تعتمد عليها في التسويق. فهي عادة ما تخفي أو تدمر عناصر من الطبيعة المستنزَفة بالفعل في المدينة. فوجود اللوحات الإعلانية يحتل، على الأرض، مساحات مزاحماً الفضاء الضئيل المتوفر، بل وفي بعض الحالات، يأتي وجودها على حساب الأشجار والمساحات الخضراء القليلة. من ذلك أنه من خلال مشاهداتنا الميدانية على الطريق الرئيسي آنف الذكر، حصرنا 4 حالات من بين 47 حالة بُنيت فيها لوحات إعلانية على حساب الأشجار أو الأعشاب في وقت إجرائنا المسح، وقد استخدمت تلك الأربعة، للمفارقة، عناصر للطبيعة ضمن رسائلها الإعلانية في وقت البحث.
مثالان على إسهام اللوحات الإعلانية في نُدرة الطبيعة في الحضر. استخدامها ووجودها يحتل مساحة وغالبًا يا يُبنى على المساحات الخضراء (على اليمين)، وأحيانًا تُقطع الشجرات من أجل بناء لوحات إعلانية جديدة (على اليسار)، محمد أبو طيرة 2016.
يمتد ذاك الأثر أيضًا للسماء والهواء. فمع غياب قوانين صارمة، يمكن أن تصبح اللوحات الإعلانية كثيفة العدد بدرجة هائلة. في المسح ذاته الذي أجريناه، وجدنا أنه في بعض الحالات قد تحجب اللوحات الإعلانية بعضها البعض ومن الصعب للغاية أن تنظر لأي مكان في السماء من دون رؤية إحداها. كما كانت اللوحات الإعلانية، في بعض الحالات، قريبة جدًا من نوافذ أو شُرفات المنازل لدرجة يستطيع معها الساكنون لمسها حرفيًا، ناهيك عن إخفائها مشهدَ السماء واقتحام ضوئها المزعج للغرف المنزلية. إن المرء ليتساءل إلى أي مدى سيصل الأمر قبل أن يبلغ منتهاه. في الوقت الذي عملنا فيه على دراسة الحالة الخاصة بنا، أحصينا 47 لوحة إعلانية ممتدة على طول 8.5 كم بمعدل 5.5 لوحة لكل كيلومتر، كما أحصينا 4 لوحات إعلانية مبنية حديثًا، أي ما يعادل زيادة بمقدار 8.5% خلال شهرين فقط.
[نشر المقال أصلاص بالانكليزية في Urban Transcript]
هوامش
[i] نحن نعرّف الفصل العمراني والاجتماعي بأنه فصل المواطنين المختلفين داخل نفس المدينة إلى مناطق فضائية مختلفة استنادًا إلى اختلافات في العرق أو الطبقة أو النوع الاجتماعي. في حالتنا تلك يستند الفصل إلى أساس طبقي.
[ii] نقصد بعناصر الطبيعة الهواء والماء والتربة والمساحات الخضراء والضوء. ويستخدم لوفيفر هو الآخر نطاق مماثل في تعريفه للطبيعة. المرجع في الأسفل.
[iii] فضاء الوادي في مصر هو الفضاء الذي تكوّن من ناحية جغرافية وتأثر مباشرةً بنهر النيل. وهو أرض منخفضة صالحة للري تمتاز بوضوح عن الصحراء القاحلة المرتفعة والمحيطة به. توصف تضاريس مصر كالتالي: المساحة الإجمالية لجمهورية مصر العربية تصل لحوالي 1.002.000 كم مربع، في حين تصل المساحة المأهولة إلى 78990 كم مربع، أي ما يمثل 7.8% من المساحة الإجمالية. (المصدر: الهيئة العامة للاستعلامات).
[iv] في أطروحته للدكتوراة حول تطور الإسكان الحضري والريفي في مصر، وصف عمر عزام الأمر كالتالي: "يفصل الوادي بين نوعين متميزين للغاية من البلاد. الصحراء الليبية، إلى الغرب، والتي تتكون من هضبة مرتفعة ومسطحة تصب في منخفضات مغلقة. والصحراء العربية إلى الشرق، وهي هضبة تتكون من سلاسل جبال منخفضة محازية للنهر"، (Azzam, Omar A., 1960).
[v] الفدان هو وحدة مستخدمة في مصر ويعادل 1.038 أكر.
[vi] الطريق المشار إليه هو شارع العروبة (والمسمى صلاح سالم في الجزء الجنوبي منه)، والذي يؤدي إلى المطار. من المهم ملاحظة أن عدد كبير من المتنقلين عليه هم زبائن محتملين للمشروعات الصحراوية الجديدة، إذ تعد تلك منطقة أغنياء.
[vii] كلا المسحين تم إجرائهما خلال مارس وأبريل 2016. ونتائج المسح تقتصر بشكل خاص على ذلك التوقيت لأن اللوحات الإعلانية تتغير باستمرار.
[viii] أُنشئت القاهرة الجديدة في عام 2000، من خلال مرسوم رئاسي (191/2000). وهي تبعد 15 كم عن المعادي (جنوب القاهرة)، و10 كم عن مدينة نصر (شرق القاهرة). (المصدر).
[ix] قام المسح بقياس نسب المناطق المخصصة للأنماط السكنية الثلاثة والتي تعكس الإمكانات الاقتصادية للساكنين: كومباوندات ومنازل خاصة وإسكان اجتماعي. فاستُبعدَت الخدمات غير السكنية والطرق الرئيسية. وأُخذت عينة من كل نمط لحساب تقدير لحصة كل ساكن من المساحات الخضراء. وكان الافتراض أن كل منزل يشتمل على 5 أشخاص، وهو المتوسط القومي.
[x] نفس الملاحظة السابقة.