قبل جلوسه على مقاعد الدراسة الابتدائية، يفترش الشيعي في العراق الأرض أياما من كل عام، يميزها السواد الذي يغطي البيوت والأزقة والشوارع في وسط وجنوب البلاد، متسمرا لساعات أمام رجل دين درس في قم أو النجف، يروي مقاتل الأئمة الإثني عشر الذين تعد ولايتهم، وفق المذهب الشيعي، شرطا لدخول الجنة في الحياة الآخرة.
تلك السنوات، التي تزخر باستعراض "القمع والتنكيل" الذي تعرض له الشيعة على مر الحقب التأريخية، تربي في الشاب الشيعي لاحقًا حالة غضب وشعور بالظلم تجعله يتوق الى "الانتقام"، ممهدة لإلقائه في ساحات قتال في العراق، وسوريا، وأخيرا في اليمن.
ولا يحتاج مثل هذا الشاب الراغب بـالدفاع عن العقيدة والمقدسات، أوغيره من الساعين للحصول على مبالغ تترواح بين 4 و9 آلاف دولار، سوى إلى طرق أبواب مكاتب الفصائل المسلحة التي نجحت إيران في اقتطاعها من جيش المهدي الذي أسسه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في أواخر 2003، أو تأسيسها من الصفر، ليتكفل الحرس الثوري الايراني بتدريبهم وتسليحهم ودفع رواتب لهم تزيد وتنقص بإختلاف الجبهة التي سيقاتلون فيها.
وكان الإنتماء لهذه الفصائل قبل 2011 يقتصر، بحسب مقاتلين سابقين فيها، على أشخاص كان لدى أغلبهم أسباب خاصة، منها "البحث عن النفوذ في المجتمع والسطوة على أفراده، أو لإيقاف الملاحقات القانونية بحقهم إذا كانوا مطلوبين للقضاء، أو للانتقام الطائفي".
ولكن بعد اندلاع المعارك في سوريا، والتخوف الذي غذته، بين أوساط المجتمع الشيعي، وسائل الإعلام التابعة لتلك الفصائل، وصفحات على مواقع التواصل الإجتماعي، حول تعرض مقام السيدة زينب في دمشق للخطر وتداول صور ومقاطع فيديو لصواريخ تسقط بالقرب من المقام، تغيرت حياة ومستقبل الآلاف من الشباب، الذين اعتادوا على مشاهد القتال وتعايشوا مع الإفراط في استخدام السلاح ببلدهم، منذ 2003 وحتى الان.
ودون عناءً كبير، وبواسطة تلك الطريقتين "العقيدة والمال" تمكن الحرس الثوري من إنشاء جيش تابع له في العراق، متكون من فصائل متعددة، يقاتل أفراده بأي جبهة يؤمرون بالتوجه إليها، سواءً داخل أو خارج بلادهم.
"ايران بداية الرحلة لسوريا واليمن"
وتبيّن شهادات لمقاتلين عراقيين شاركوا بمعارك سوريا ضمن الفصائل الموالية لإيران، إن رحلتهم بدأت من منفذ الشلامجة الحدودي بمحافظة البصرة الذي يربط العراق بإيران، وتلقوا، بعد عبورهم إلى الجانب الايراني، تدريبات عسكرية في "معسكر سري بمنطقة عبادان تابع للحرس الثوري"، تعلموا خلالها استخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
و"بعد اكتمال التدريبات، يتم إرسال المقاتلين العراقيين بطائرات إيرانية تقلع من مطار في عبادان يديره الحرس الثوري أيضا، بعد أن يزودهم بهويات إيرانية تحمل أسماءهم لكن بعد التلاعب بها"، كما يؤكد علي محمد، الشاب ذو الـ24 عاما، والذي قاتل في سوريا، ضمن منظمة بدر التي يتزعمها هادي العامري، رئيس تحالف الفتح حاليا، ثم "تُسحب تلك الهويات منهم فور وصولهم إلى سوريا".
أما طريق المقاتلين العراقيين إلى اليمن، فيكون بـ"واسطة غواصات إيرانية تمر عبر سلطنة عمان"، كما يقول قائد ميداني في حركة عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، تحفظ على ذكر إسمه لدواع امنية.
وأشار القائد الذي اشترك بمعارك سوريا والعراق، وكان مسؤولا عن أحد قواطع بيجي في صلاح الدين ضمن حركة العصائب، إلى أن "حركتي عصائب أهل الحق والنجباء أرسلتا في 2017 مجموعتين من مقاتليها عبر الغواصات الايرانية إلى اليمن، للقتال بجانب أنصار الله الحوثيين"، مبينا إنه "كان من المقرر أن تبقى تلك المجموعتين 3 أشهر في اليمن، وعند عودتها يتسلم كل عنصر فيها مبلغ 9 آلاف دولار".
وعلى الرغم من إعلانها بصراحة تأييدها لـأنصار الله الحوثيين، واستعدادها للقتال بجانبهم، فأن أغلب الفصائل الشيعية في العراق، تنفي مشاركتها فعليا بالقتال الدائر في اليمن.
"جثث محنطة"
وفي السنوات الأولي للحرب السورية ، انتشرت في المناطق الشيعية في العراق وأزقتها لافتات نعي لمقاتلين قضوا بمعارك سوريا، فيما يؤكد علي محمد، الذي تلقى رشقة من الرصاص في قدميه، بكمين نصبته جبهة النصرة لمجموعة قتالية من منظمة بدر بمنطقة المليحة، إن "إحدى الفصائل العراقية خسرت في هجوم واحد، أكثر من 45 مقاتلا من عناصرها في حلب، بسبب خطأ ارتكبه قائدهم الميداني".
وللحرس الثوري "سلطة مطلقة" على كافة الفصائل الشيعية التي تقاتل في سوريا، فهو "يقسم محاور القتال فيما بينها، ويتكفل بإعادة جثث القتلى لبلدانهم"، حسب مقاتلين عراقيين.
وتؤكد الشهادات، أن الحرس الثوري يقوم بعملية جمع جثث قتلى كافة الفصائل العراقية التي تقاتل في سوريا، ويعيدها ضمن وجبتين في الشهر الواحد، إلى ايران، "بعد حقنها بإبر تحنيط تمنعها من التفسخ لمدة 15 يوما"، لينقلها إلى العراق عبر معبر الشلامجة الحدودي في البصرة.
وفي هذه النقطة تحديدا، يبدأ دور الفصائل نفسها، فيتسلم كل فصيل جثث عناصره، ويعيدهم إلى ذويهم بصناديق ملفوفة بالعلم العراقي أو علم الفصيل المسلح نفسه، مع "شهادة وفاة صادرة عن وزارة الصحة العراقية".
ومثلما يتلاعب الإيرانيون بأسماء وهويات المقاتلين العراقيين قبل إرسالهم لسوريا، فأن الفصائل التي ينتمي لها هؤلاء المقاتلون، تتلاعب بأماكن مقتلهم، فتسجل، حسبما كشفت مصادر مطلعة من داخل تلك الفصائل، اسم أقرب منطقة عراقية تشهد معارك ضد داعش، في خانة المكان ضمن شهادة الوفاة التي ستمنحها لعوائل قتلاها بسوريا، وبذلك يُشملون بقانون هيأة الحشد الشعبي، الذي أقره البرلمان العراقي في 26 تشرين الثاني 2016، ويُحسبون كعناصر الجيش العراقي أو الشرطة بما يخص الرواتب التقاعدية وحقوق ذوي الشهداء.
"رسائل في توابيت"
الفصائل العراقية التي تُرسل عناصرها إلى سوريا بصفتهم إيرانيين، تشيعهم في العراق بصفتهم عراقيين "دافعوا عن العقيدة والمقدسات"، وهو ما يراه رضا الخاقاني، طالب العلوم الدينية في حوزة النجف "عبارة عن رسائل غير مباشرة لمرجع الشيعة الأعلى، علي السيستاني، والمجتمع الشيعي بصورة عامة، مفادها، إننا نخوض حربا للدفاع عنكم ونضحي فيها من أجلكم".
ويشير الخاقاني، إلى أن "هذه الفصائل تشيع عناصرها القتلى في شارع الرسول الذي يضم منزل السيستاني في النجف، والمؤدي أيضا إلى مرقد الامام علي، أما عامة الشيعة فهم عادة يقومون بتشييع موتاهم إلى المرقد في الشارع الذي يصل مقبرة وادي السلام بالمرقد".
استفادة الفصائل الشيعية من مقاتليها لم تنته بموتهم ودفنهم، فـ"حقوق الشهداء وعوائلهم" كان البرنامج الانتخابي لتحالف الفتح الذي يضم فصائل متعددة من بينها منظمة بدر وعصائب أهل الحق وجند الإمام وكتائب سيد الشهداء، في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 12 أيار الماضي، وفاز بـ48 مقعدا نيابيا.
وضمن أساليب الدعاية الانتخابية، استخدم تحالف الفتح صورا لقادة الفصائل الموالية لإيران، وحتى تلك التي تشكلت استجابة لفتوى السيستاني بالجهاد ضد تنظيم داعش في 13 حزيران 2014، كُتب عليها "لأجلكم سننتخب"، الأمر الذي لاقى اعتراضات واسعة من ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عدوا ذلك "استغلالا" لدماء المتطوعين في الحشد الشعبي، الذي تشكل بناءً على فتوى السيستاني تلك.
السيستاني، الذي يقف بحسب طلبة في الحوزة العلمية بالنجف، ومثقفين وسياسيين عراقيين "سدا منيعا" أمام المخططات الايرانية في العراق، تنبه إلى امكانية استغلال فتواه بالجهاد الكفائي ضد داعش، كحجة تكتسب بها الفصائل الموالية لإيران شرعية سياسية وشعبية، فعاد عبر ممثله، بعد أسبوع على إعلان الجهاد، إلى إصدار توضيح لفتواه الاولى.
وقال ممثله في كربلاء أحمد الصافي في خطبة الجمعة بتأريخ 20 حزيران 2014، إن "دعوة المرجعية الدينية إنّما كانت للانخراط في القوّات الأمنية الرسمية، وليس لتشكيل مليشيات مسلّحة خارج إطار القانون"، لافتا إلى إنّ "موقفها المبدئي من ضرورة حصر السلاح بيد الحكومة واضحٌ ومنذ سقوط النظام السابق، فلا يتوّهم أحدٌ أنّها تؤيّد أي تنظيم مسلّح غير مرخّص فيه بموجب القانون".
ويرجح متابعون، أن تفقد الفصائل الشيعية في العراق، المدعومة من إيران، جزءا واسعا من شعبيتها، التي تنامت بشكل ملحوظ بعد 2014، لعدة أسباب منها تنامي الرفض الشعبي للنفوذ والهيمنة الايرانية على بغداد، وقيام طهران بتحويل مجرى أنهار كانت تصب في شط العرب إلى داخل أراضيها مما تسبب في أزمة مياه، أهلكت أراض زراعية واسعة جنوب العراق، فضلا عن شحة مياه الشرب وزيادة ملوحتها، مما أدى لخروج تظاهرات غاضبة في وسط وجنوب العراق، أحرقت خلالها مقار تلك الفصائل وكذلك مبنى القنصلية الايرانية في البصرة في 7 أيلول الماضي.
ومما "يعمق المأزق الايراني في المجتمع الشيعي العراقي"، بحسب مراقبين، هي طريقة تعامل الفصائل الموالية لطهران، مع التظاهرات الأخيرة، حيث فتح عناصر حماية مقارها، التي أحرقت فيما بعد، النار على المتظاهرين وقتلوا عددا منهم، كما توثق مقاطع مصورة، فضلا عن الشكوك التي تحوم حولها بالوقوف خلف عمليات الاغتيال التي طالت ناشطين ونشطات شاركوا في التظاهر، عقب ذلك.
وإضافة إلى ذلك، فأن تحالف "ائتلاف الفتح" الذي يضم أبرز قادة تلك الفصائل، مع شخصيات سياسية كانت تُعلن بصراحة دعمها لتنظيم داعش وتصف عناصره بـ"الثوار" ولد حالة من "الإحباط" والشعور بـ"خيبة الامل" بين عناصر تلك الفصائل، مما دفع ببعضهم إلى تركها والاتجاه نحو أعمال بسيطة لكسب لقمة العيش.
واحد من هؤلاء، هو حيدر مجيد الشاب الذي قاتل ضمن عصائب أهل الحق في سوريا والعراق، وتعرض لإصابة أقعدته في البيت 3 أشهر، أبلغ قائده الميداني بأنه لن يلتحق بقوته بعد الآن، واتجه للعمل في محل صغير لبيع الاجهزة الكهربائية، يمتلكه أحد أقرباءه في بغداد، لما رآه استغلالا لـ"تضحياته وتضحيات رفاقه الذين اختاروا هذا الطريق رغبة بالدفاع عن مذهب أهل البيت ومراقدهم في مصالح سياسية".
وكذلك فعل أحمد الساعدي الشاب ذو الـ26 عاما، والذي كان مقاتلا ضمن حركة كتائب حزب الله، مبديا أسفه لـ"استغلال" دماء زملاء له عدد أسماءهم لنا "لم يسلكوا طريق الجهاد، حبا بقادة الفصائل وتمكينهم من تسنم مناصب ووزارت، وإنما للدفاع عن الشيعة ومقدساتهم وقدموا أرواحهم على هذا الاساس"، كما يقول.