قد تفقد بعض المناسبات والطقوس المرتبطة بها الكثير من قدسيتها، فتتراجع أهميتها ومركزيّتها وتتغير معانيها لدى الفرد لأسباب شتّى، منها مرور الزمن، وتغيّر القناعات، وتغيّر موقع المرء الأيديولوجي ورؤيته. فيعزف، أو يحاول العزوف، بقدر الإمكان، عن الاشتراك في طقوس الجماعة، التي يحتفظ بمسافة نقدية منها ويتمرّد على شعائرها وممارساتها، ليحافظ على مساحة ذاتية خاصة به أو بها. لكن الانقطاع التام عن المناسبات والطقوس، والخروج التام عن إيقاعها مستحيل عملياً ما دام المرء يعيش في المجتمع نفسه، ولم ينتبذ مكاناً خارجه (وهل بقي «خارج» حقيقيّ في عالمنا اليوم؟). بل يضطر لأن يساوم ويفاوض، بدرجات متفاوتة، ليتعايش. وقد يراقب هذه الطقوس ويحاول فهم جذورها الأسطورية وتاريخها، وسطوتها مستعيناً، لفهم الأخيرة بالذات، بما تيّسر من الأدوات المعرفية. ولا يعني كل ما تقدّم أن ينكر المرء جماليات هذه الطقوس، أو أن يستخفّ بأهميتها لمن يواظب على ممارستها ويؤمن بمعانيها. ولا يمكن له أن يقمع ذكراها في طفولته، حتى وهو في قارّة أخرى، وفي لحظة تغوّلت فيها القيم الاستهلاكية ومنظومتها التي تسلّع كل شيء وتمتص وتمسخ معانيه.
***
قبل أسبوع أو أكثر من عيد الميلاد ينتشر باعة أشجار عيد الميلاد على أرصفة نيويورك، كما في المدن الأخرى، لعرض بضاعتهم. لم أشتر شجرة منذ قدومي إلى الولايات المتحدة، لأنني لم أعد أحتفل بالعيد منذ سنوات طويلة. لكنني أحرص على مداعبة أغصان الأشجار كلما مررت بالقرب منها لأشم عبقها على أصابعي. وأغامر أحياناً فأقتطع غصناً صغيراً لا يضر كسره بمنظر الشجرة، وأحمله معي إلى مكتبي أو شقّتي (اتّضح أن اسم هذا النوع من الأشجار هو balsam fir «التنوّب البلسمي» وعبقها بلسميّ بالفعل). وقبل ثلاثة أسابيع حين انتشرت الأشجار على الأرصفة وازدحمت رفوف وواجهات المحلّات بزينة الأعياد والهدايا، تذكّرت ذلك الفرح الذي كان يغمرني، وإخوتي، بوصول الشجرة في مثل هذا الوقت من كل سنة إلى بيتنا في بغداد السبعينيّات والثمانينيّات. وتذكّرت بدء التنافس المحموم، الذي لم يكن يخلو من جدالات تتحول إلى شجار أحياناً يتعلق باختلاف الأذواق والمذاهب التزيينية! كنّا نزيّن الشجرة بالشرائط البرّاقة ونعلّق الكريات الحمراء والخضراء والفضيّة التي ملأت صندوقين تراكما عبر السنين. ونحرص على أن نمرّر سلاسل الأضواء عبر الأغصان
من القمّة، حيث النجمة (التي قيل لنا أنّها دلّت المجوس على المسيح) وحتى قدم الشجرة. حيث نضع مجسّم المغارة التي ينام فيها يسوع الطفل محاطاً بأمه مريم ويوسف، وتحيط به الخراف. وخارج المغارة، تقف تماثيل المجوس القادمين من المشرق على الإبل. كنّا نحرص على أن يمرّ أحد الأضواء الصغيرة داخل المغارة. وكان منظر الشجرة بهياً، خصوصاً في الظلام، حين تومض سلاسل الأضواء الصغيرة الملوّنة وتتناوب على تلوين السقف ومساحات لا بأس بها من الجدران القريبة.
***
كنت سأكتب عن رائحة أشجار العفص (من الفصيلة السرويّة) التي كنّا نزيّنها في بغداد ومحاولتي أن أتذكّر تلك الرائحة وأحدد الفرق بينها وبين رائحة أشجار التنّوب، وكيف أن ما تبقّى من العيد، بالنسبة لي، هو الرائحة. وكنت سأفكر بصوت عال بجدوى (أو لا جدوى) استحضار هذه الذكريات، الآن بالذات. خصوصاً أنني أحاول أن أتفادى شراك الحنين. («أيّهذا الحنين، يا عدوّي») لكن زميلي المؤرخ قال لي ذات مرّة حين تحدثنا عن إشكاليات الحنين إن الحنين «الحَذِر» يمكن أن يكون نقداً للحاضر البائس.
وأنا أحاول إكمال هذا النص قرأتُ في الأخبار أن مهدي الصميدعي، مفتي الجمهورية العراقية، قال بعدم جواز الإحتفال برأس السنة وتهنئة المسيحيين بأعيادهم. وليس الصميدعي استثناءاً، فهناك الكثير من أمثاله في العراق وبلدان المنطقة من الذين لا يبخلون علينا بهكذا فتاوى مسمومة. والأمثلة كثيرة على اليوتيوب وفي الصحافة وعلى ووسائل التواصل (والتناحر) الاجتماعي. ليتهم يلتفتون إلى الفساد الفاحش والإجرام والظلم والعسف الذي يرتكب بحق المواطن العراقي كل يوم. لا يمكن التحاور أو التجادل مع الصميدعي وأمثاله ولست معنياً بذلك. ما يهمني هو ردود الفعل على خطابه وخطاب أمثاله. والمحزن أن عدداً لا بأس به من ردود الأفعال حوّلت هذا الحدث إلى فرصة للتناحر الطائفي، فهناك من بحث وعثر على تصريحات مماثلة من رجال دين من «المذهب الآخر» ليسجل هدف التعادل. وهناك من العلمانيين والمدنيين من يستغل المناسبة ليؤكد لنا أنّ أساس المشكلة يكمن في النص الديني نفسه، فلم يأت الصميدعي أو غيره بشيء من عنده، بحسب هؤلاء. ولا يختلف هؤلاء، في مقاربتهم، عن الأصوليين، فللنص الديني معنى جامد لا يتغيّر، لكنّه، بالنسبة لهم، مطلق السلبية، وخارج التاريخ بل خارج أيّ سياق. لا يتسع المجال هنا لمعالجة هذه النقطة بالذات. لكنّي أريد أن أعود لأركّز على الممارسة، لا على النصوص، وعلى تجارب عشتها شخصياً، كما عاشها الكثيرون. كان قيام الأصدقاء والجيران بزيارة المسيحيين في أعيادهم لتهنئتهم أمراً طبيعيّاً، لم يكن بحاجة لسجال، ولا فتوى تحلّله من رجل دين. تذكّروا هذا!
***
أمّا أنا فأقول لكم: هنّئوا الآخر، أياً كان، بعيده، وبعيدها. هنّئوا كلّ البشر، والطير، وحتى الحجر، حين يحتفل بعيده. . . وليت الفتى حجر!