ليال حداد*
«هذه ليست سيرة» حازم صاغية
رغم أنّه صادر في العام 2007، إلا أن قراءتي لكتاب "هذه ليست سيرة" (دار الساقي، بيروت) للكاتب اللبناني حازم صاغية تأخّرت حتى هذا العام. ومن دون منافسة كبيرة فإنّ هذا الكتاب هو أفضل ما قرأت في العام 2018. يروي صاغية، سيرته السياسية/المهنية/الشخصية وتنقلاته بين الأفكار والأيديولوجيات السياسة طيلة 30 عاماً، بأريحية تامة، وبتصالح مبهر مع الذات. من خلال هذه السيرة، نتابع بأسلوب سلس، وأدبي تاريخ بيروت في الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) وما قبلها وما بعدها، وكيف تشكلّ الوعي السياسي والتماهي مع قضايا المنطقة، فلسطين بشكل أساسي، عند صاغية، ومعه عند قسم كبير من أبناء المحافظات البعيدة عن بيروت. تأريخ، وإن شخصي، لحقبة لم أعشها، لكن انعكاساتها مستمرة على جيلي والجيل اللاحق.
متصالح حازم صاغية، مع كل خياراته، مع انتقاله من هذا الخيار السياسي إلى ذاك، ثمّ ذاك، ثم عودته إلى المربع الأول، ثم خروجه منه. يقول في كتابه: "والحق أن الأفكار، على تضاربها أحياناً، جذبتني أكثر مما فعل النضال. فكنت مثل مشاهد فيلم سينمائي ينفعل أكثر مما ينفعل الممثل، وبصدق قد يتعدى صدقه، إلا في آخر المطاف، يشاهد ولا يمثل". يضرب صاغية في الكتاب وبشكل مباشر من خلال روايته لمسيرته، صوابية جمود الفكر السياسي، والالتصاق بحزب/فريق/ايديولجيا، طيلة الحياة. ولعلّ هذه الأفق المفتوح على كل الخيارات والأفكار، يجعل صاغية واحداً من أكثر كتّاب الرأي صدقاً حالياً في لبنان.
* صحافية لبنانية، مولودة سنة 1985 في المتن الشمالي في لبنان. عملت في صحف محلية، ومراسلة إخبارية في قناة LBCI اللبنانية.تعمل حالياً في صحيفة وموقع "العربي الجديد" مسؤولة لقسم الميديا والمنوعات.
*شاكر الناصري
النبيذة» إنعام كجه جي»
كتب كثيرة تتمنى ألا تصل إلى خاتمتها وطي صفحتها الأخيرة. وأن تمتد صفحاتها أكثر مما قررته
الكاتبة أو الكات. " النبيذة" رواية إنعام كجه جي، واحدة من الروايات والكتب التي تنتمي إلى هذه العينة من الكتب. رواية فيها الكثير من المتعة والحسرة وتقليب المواجع وبسرد باذخ الجمال يتعقب مصائر الشخصيات التي تمحورت حولها الرواية، تاج الملوك، ومنصور البادي، ووديان هذه الشخصيات التي خلقتها كجه جي بمهارة نحات بارع.
العراق، هو الخيط الرابط في كل روايات كجه جي، بل هو البطل الحقيقي في كل ما كتبت، وفي كلّ مرّة تدفع القاريء، ليكتشف مدى تعلقها وحبها لبلدها، بدجلة والفرات، بالنخيل والغناء الموجع والأرواح التي تهيم ما أن تغادر تلك الأرض، فتتحول إلى كتلة عابسة من الخذلان والكوابيس والاشواق التي تتبخر تباعاً. بالأمثال الدارجة واللهجة الشعبية المحببة.
النبيذة وروايات إنعام كجه جي الأخرى، تصلح لأن تكون وصفة لكل من يعاني من أزمة ارتباط مع بلده ووطنه الأم، فمن يقرأ هذه الرويات سيعيد الإعتبار لنفسه، ويعيد اكتشاف علاقته بالعراق، بكل ما فيها من شجو. وويلات وحروب ومنافي ودموع وحنين وخذلان... الخ، لكن الأكيد، انه سيحب العراق كما لم يحبه من قبل.
"ذات صباح غائم من أوائل تسع وأربعين، ومن راديو كراتشي النّاطق بالعربيّة، أذاعت تاجي عبد المجيد خبَر إعدام الشّيوعيّ العراقيّ سلمان يوسف، المعروف بفهد. ورفيقيه زكي بسيم وحسين الشبيبي، المعروفين باسميهما الحركيّين حازم وصارم. صوتها عميق ومُحايد غريب على أذنها. خلعت حنجرتها رنينها الطبيعي. قرأت الخبر بدون روح. بنبرة خشنة مثل حبل مشنقة. نفرت دمعتها بعد انطفاء الميكرفون. مسحتها قبل أن تخرج من الاستوديو. التأثّر شبهة. وشبهاتها تكفيها. مضت إلى المغسلة وصوبنت كفّيها عدة مرات من دماء لا تُرى بالعين المجردة" (إنعام كجه جي، النبيذة، دار الجديد، ص161- 162)
كاتب عراقي يقيم في الدانمارك.
حمزة عليوي
« كارلوس زافون «ظل الريح
(في امتداح كارلس زافون ورثاء الكاتب الذي مات بداخلي)
لا أتذكَّر الآن متى اتَّخذت قراري. أرجح الظن أنه لم يكن قرارا، كان مجرد إحساس مريع بالفشل تسرب تدريجيا وارتقى ليتشكَّل بصيغة قرار غير معلن. في صباح بعيد لم أعدّ أتذكَّر الآن إن كان باردا أم دافئا، مشمسا أم غائما، بل إني لا أتذكَّر بالضبط هل كان الزمن صباحا أم مساءً، في ذلك الزمن المفتوح على أوهامي وخزعبلاتي، وقررت أن مياهاً جديدةً كانت تسير دائما في النهر. كان أحدهم، صوت في داخلي، من مكان بعيد في روحي، قد قرَّر نيابة عني: «إن الله لا يريد لك أن تكون كاتبا. لقد قرَّر أمرا آخر بشأنك.. فلا تعاند، ولا تماحك، ولا تكذب على نفسك وغيرك بالمكابرة!»
كان قرارا نهائيا. قرار تنفَّسته كما لم أفعل من قبل. وقفت هناك، أمام نفسي، تأملتها طويلا، وأخذت نفسا عميقا، وقلت لها: الآن انتهى كلُّ شيء.
هذه الأسئلة، هذه الاحتدامات، هذه الحيرة، كانت معي وأنا أقرأ لأسبوع كامل رواية كارلوس زافون،«ظل الريح.»
جملتي الأولى كانت ببساطة أشبه بشهقة: أحمد الله كثيرا؛ فلم أعدّ كاتبا لأتحسر على أني لم أكتب هذه الرواية العظيمة. ماركيز العظيم نفسه كان قد قالها يوما: تمنيت لو أني كاتب رواية الجميلات النائمات!
نعم، أسبوع كامل كنت أقتصد بكلمات الرواية بصفحاتها الخمسمئة وإحدى وعشرين صفحةً. كنت أقرأ باقتصاد بالغ، خمسون صفحة لليوم الواحد. هي قسمة عادلة بعد مئة صفحة التهمتها في أول يوم. قلت لنفسي: لنكن منصفين مع زافون. لابد من الإنصاف؛ فمن صنع هذا الجمال العظيم بسنوات وتعب وعبقرية يستحق أن نقرأ له عمله بهدوء وتلذذ. وهذا ما لم أفعله من قبل سوى مع «الحبِّ في زمن الكوليرا.» قرأتها في ثلاثة أيام. يومي الأخير معها كان في بغداد، في عمارة طلاب عرب بالبتاويين. طرقت ظهرا شقة الصديق، ولا مجيب. دارت عيني في المكان فوجدت سلما يصعد إلى السطح. على أول سلمة تصعد إلى السَّماء جلست هناك. وضعت سكائري وبدأت أقرأ. بعد ساعة، ثلاث، عشر، لست متذكِّرا، رفعت عيني، وكان ماركيز قد نفض قلمه من الكلمة الأخيرة. كان الشَّباك أمامي يدلق علي ظلاما كثيفا. وكان صديقي يغطُّ بنوم عميق بعد الثالثة فجرا.
* كاتب عراقي.