اعتلى شعار إسقاط الأسد مطالب الثورة السورية بعد أسابيع قليلة من انطلاقها، دون أن يتحقق بعد سنوات سبع من المطالبة به، وفي الوقت الذي وصلت البلاد فيه إلى عين الكارثة على مستوى الدولة كمؤسسات وعلى مستوى المجتمع، ما هي النتائج التي يمكن الحديث عنها أو توقعها على طريق تحقيق هذا الهدف، لكي يبقى الإصرار عليه قائماً رغم كل شيء؟
يمكن اليوم التماس نتائج الصراع حول كرسي الأسد بادياً في دمار عدد كبير من المدن والبلدات وتشريد ساكنيها، بالإضافة إلى انهيار كبير في الاقتصاد الضعيف أساسا، والذي يبدو أنه لم يعد يقو على النهوض مجدداً.
وانعكس انهيار الاقتصاد على عامة الشعب دون أن يهز النظام بشيء، فاليوم يقبع الشعب السوري في ظل اقتصاد منهار بدأت خصخصته واستلابه للخارج قبل اندلاع الثورة بكثير، وهو الذي أوصل الشعب إلى حدٍّ معيشيٍّ لا يطاق ودفعهم للتحرك بوجه النظام القائم. لكن وفي المقابل لا وجود لنهج اقتصادي مغاير لدى المعارضة، بل إن برنامجها مكمل لتلك السياسة الاقتصادية التابعة، وبذلك يغدو الطرفان خارج مطالب الشعب ولا فرق فيمن يستلم السلطة بينهما.
ومن ناحية أخرى وصلت الخدمات إلى أسوأ مستوياتها على كافة الأصعدة الصحية والتعليمية والغذائية، وتسببت ندرة المحروقات بانتشار التحطيب الذي قضى على مساحات خضراء واسعة، يُضاف لهذا ظهور جيل يفتقد للتعليم وعدد كبير من المعاقين والمصابين جسدياً وبأزمات نفسية، ناهيك عن النتائج المباشرة من القتلى والجرحى والمعتقلين والمهجرين.
وسط الفوضى أيضاً، انتشرت العصابات وساد الإنفلات الأمني، كما تهشم الجيش السوري وانكشفت نقاطه ومراكزه وأسلحته، وباتت مقراته فريسة سهلة لإسرائيل.
في المقابل، لم تحقق المعارضة أي هدف مما طمحت له، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي أو الإعلامي، على العكس من ذلك، كشف الوقت تشتت خطابها وتوالي انقساماتها وانشطاراتها، مبتعدةً عن صياغة أية برامج واضحة، ومكتفية برشق النظام بخطابات تكشف عجزها وابتعادها عن الواقع السياسي، مثلما ابتعدت عن واقع من عوَّل عليها من الشعب في البداية، وتركتهم لمصيرهم في شتات العالم ومخيماته دون تحمل أية مسؤولية تجاههم. وفي ظل هذا، تستمر الحرب في حصد أرواح الأبرياء وتشريدهم، وزيادة أزمات من بقي منهم، دون حسيب أو رقيب.
وفي الوقت الذي يفلت النظام من أفعاله بحجة الحرب، لا تملك المعارضة أية قوة لمواجهة طغيانه، ولا حتى للدفع نحو المحاسبة. خاصة في ظل الوضع السياسي القائم والاتفاقات الدولية التي لا قدرة للمعارضة على تجاوزها، ناهيك عن عدم مشاركتها في رسمها.
ورغم الاتفاق الدولي على بقاء الأسد، ماتزال المعارضة مصرّة على رحيله كشعار بات أشبه بالرومنسي وضعت فيه كل ثقلها، متناسية أن رحيله هو تكتيك أو خطوة للوصول إلى التغيير. بدورها تفتقد المعارضة لأية استراتيجية واضحة وممنهجة لمستقبل سوريا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبذلك خسرت التكتيك والاستراتيجية، وباتت تابعة بالمطلق للخارج وما يمليه عليها.
في الداخل السوري، انتزع السوريون هامشاً لهم من الحرية من النظام والحرب، و طوروا أساليب تعايشهم مع الواقع وفهمه، وباتوا ينتظرون نهاية الصراع بين جهتين لا تمثلان طموحهم، ويتفق الأغلبية -بمواقفهم المختلفة- على ضرورة الخروج من عنق الزجاجة، باستثناء القلة المستفيدة من استمرار الحرب.
ولهذا فإن استمرار عمل العديد من مؤسسات الدولة -رغم رثاثتها وفسادها- يحفظ حداً أدنى من روابط النسيج المجتمعي وتنظيمه، وبذلك فإن إسقاط الأسد قد يودي بآخر خيطٍ يقي البلاد من الإنزلاق نحو الهاوية التي وصلت إلى حدودها. ولا يعني هذا أن الأسد هو ضامن وحدة البلاد، بقدر ما هو المقبض الذي يمسك ما تبقى منها في الوقت الحالي.
فانهيار الوضع القائم اليوم في سوريا يعني الذهاب نحو عراق جديد تعيشه لعشرات السنين، تفسح فوضاه المجال للدول المتدخلة لنهبها. ويؤدي استمرار الصراع دون الوصول لاتفاقية لاستمرار العمل خارج القانون وبشكل منفرد، في حين أن الوصول لأية اتفاقية ستعيد النظام لمظلة القانون وتلزمه به.
إذا، الوقت المتاح حالياً لا يعني إلا مزيداً من الانتهاكات المجانية، وما نفع تسجيل المعارضة ومنظماتها للانتهاكات بعد حدوثها؟ أليس الأولى منع قتل الناس بدلاً من المحاسبة على قتلهم لاحقاً؟
إن إنهاء الحرب سيدفع السلطة الحاكمة -أياً كانت- إلى ترسيخ الاستقرار في البلاد، ومنح حدود جديدة للحركة، وهو شرط ضروري للشركات القادمة للاستثمار، وبالتالي فإن كسب الوقت في ترسيخ الاستقرار سيتيح لعامة الناس لملمة جراحها وإعادة بناء نفسها، أفضل من الوقوف عند شرط لا مجال لتحقيقه في هذا الظرف الدولي. وعليه سيتيح الوضع الجديد للشعب القدرة على التجمع السياسي من جديد من أجل ترسيخ التغيير المطلوب مع الزمن.
يقول غرامشي “القديم يموت والجديد لم يولد بعد، وبين هذا وذاك تنمو الوحوش” وإن كان غرامشي يقصد الانتقال من نظامٍ اقتصاديٍّ إلى آخر، لكن كلامه ينطبق على واقعنا أيضاً، ويبقى إطالة أمد نمو الوحوش رهناً بوعي الحرية والتي لا يمكن لها أن تتواجد خارج العقل والإرادة واستيعاب أن طريق التغيير طويل ومعقد، يبدأ بشجاعة القول، ويستمر بعقلانية التفكير.