يُنظر إلى باب العمود على أنه من أجمل الأبواب في البلدة القديمة في مدينة القدس الشرقية المحتلة، إلاّ إنه بات مؤخراً رمزاً للسياسات الإسرائيلية في المدينة بدءاً من القمع والاغتيال، مروراً بمحاولات تهويد المدينة وطرد سكانها، ووصولاً إلى التضييق على المدينة اقتصادياً.
وخلافاً لسائر الأبواب في البلدة القديمة وعددها 10، فإن ثمة مدرجاً كبيراً يؤدي إلى الباب الذي أقامه السلطان سليمان القانوني في سنة 1538 بعد أن صممه المعماري درويش الحلبي، والذي يفضي إلى المركز التجاري في مدينة القدس والأماكن الدينية في المدينة وأبرزها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.
[مدخل باب العمود]
يقول جمال عمرو، المتخصص بشؤون القدس: "باب العمود هو أحد أبواب القدس الرئيسية، بل هو أهمها على الإطلاق وأكثرها شهرة. وسُمي باب دمشق نسبة إلى وجهة المسافرين من خلاله في اتجاه دمشق، كما سُمي باب نابلس لأنه يتجه نحو نابلس."
ويضيف المحاضر في جامعة بير زيت: "سُمي باب العمود نسبة إلى عمود كان بارزاً في الساحة الداخلية للباب في الفترة الرومانية ضمن سلسلة أعمدة ممتدة في البلدة القديمة حتى آخر طريق خان الزيت، وتسمى شارع الكاردو، أي القلب، وهذا الشارع يظهر بوضوح في خريطة مادبا التي تُعتبر من أقدم خرائط المدينة."
ويتابع: "العمود ما زال موجوداً حتى الآن، لكن بسبب التغييرات التي حدثت في المدينة فإنه بات أكثر انخفاضاً، الأمر الذي يتطلب النزول بضع درجات من أجل الوصول إليه ورؤيته."
ويرى عمرو أن للباب مكانته التاريخية، فيقول: "زوار القدس يصلون إلى المدينة القديمة أساساً عبر هذا الباب، فمن خلاله زار الرحالة والمؤرخون البلدة القديمة وكتبوا عنها." ويضيف: "جدار الباب سميك وقوي ومتين، وهناك انحناء في الأبواب وفقاً لنمط العمارة العثمانية للمحافظة على المدينة والدفاع عنها، فهذا الانحناء يحقق الأمن لحراس المدينة، ومن الصعب جداً اختراقه بسهولة."
ومنطقة باب العمود هي الملتقى الذي تصل عنده وتنطلق منه الحافلات من القرى والمدن المجاورة لمدينة القدس، بينما كان قبل فرض الحصار الإسرائيلي على مدينة القدس في أوائل التسعينيات المكان الذي تنطلق منه وتصل إليه الحافلات والسيارات من جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولأنه يطل على سور البلدة القديمة، ولأنه تجري منه وإليه أوسع حركة للبشر في القدس، فإن المواطنين الفلسطينيين يلجأون إلى مدرجاته من أجل الترويح عن أنفسهم وشرب القهوة والشاي.
ويصل إلى المكان رسامون من عدة أنحاء من العالم، وسيّاح أجانب كي يلتقطوا الصور التذكارية.
وحتى مطلع التسعينيات كان باب العمود يعجّ بالفلسطينيين من جميع أنحاء الضفة الغربية، والذين كانوا يصلون إلى البلدة القديمة للتبضع في أسواقها.
ففي داخل البلدة القديمة هناك سوق خان الزيت الذي كان يشتهر ببيع الزيت والسمن والبقوليات، وتتداخل به محال لتصليح البوابير والملابس، كما أن فيه سوق اللحامين الذين كان يبيع اللحوم الطازجة يومياً، وإلى جانبه سوق العطارين الذي يبيع العطارة، وسوق الخواجات الذي كان يبيع القماش والستائر.
[أحد أسواق باب العمود]
ومع تشديد الحصار على مدينة القدس الشرقية في سنة 1994، ومنع سكان الضفة الغربية من دخول المدينة إلاّ بتصاريح إسرائيلية، فإن الأسواق فرغت من زبائنها، وقلّت الحركة كثيراً في منطقة باب العمود.
عسكرة الباب
منذ عامَين حوّلت الشرطة الإسرائيلية باب العمود وساحته إلى ثكنة عسكرية ينتشر عناصرها على مدخله وساحته، ويقومون بإذلال الشبان الفلسطينيين.
ويقيم عناصر الشرطة الإسرائيلية 3 نقاط تفتيش في الطريق المؤدية إلى الباب يتم فيها إيقاف الشبان الفلسطينيين والتدقيق في هوياتهم وإخضاعهم لعمليات تفتيش جسدي مهينة.
كما اقتلعت الشرطة الإسرائيلية الأشجار من محيطه ونصبت عشرات كاميرات المراقبة على أعمدة الكهرباء المطلة عليه وحوله.
ومع كل حادث يقع في المدينة، تلجأ الشرطة الإسرائيلية في كثير من الأحيان إلى إغلاق باب العمود أمام حركة المواطنين الفلسطينيين من البلدة القديمة وإليها كوسيلة عقاب جماعي.
وفي 23 حزيران / يونيو الماضي قال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو: "لقد تجمّع بعض القتلة حول هذا المكان، وهم يرتكبون عملياتهم مرة تلو الأُخرى. لقد أصبح هذا المكان رمزاً للإرهاب." وأضاف: "لهذا السبب طالبت بإعداد خطة وإجراء تغييرات، وقد أعدت الشرطة خطة بهدف تعزيز الأمن وتقليص حرية تصرف المهاجمين المحتملين، وأنا صادقت على تلك الخطة التي ستدخل حيّز التنفيذ في وقت قريب جداً."
وبعد تصريحات نتنياهو عمدت الشرطة إلى إقامة 3 نقاط تفتيش في باب العمود، وتثبيت عشرات كاميرات المراقبة في المنطقة.
يقول الباحث الميداني في شؤون القدس أحمد صب لبن: "منذ نحو عامَين تقوم الشرطة الإسرائيلية بعسكرة باب العمود من خلال نشر العشرات من قواتها على مدار الساعة في المنطقة، وتحويل 3 حواجز شرطية إلى حواجز دائمة، وذلك بالتزامن مع تثبيت عشرات الكاميرات لمراقبة حركة الفلسطينيين في المنطقة."
ويضيف: "رصدنا خلال العامَين الماضيين سلسلة واسعة من الانتهاكات بحقّ الفلسطينيين، وخصوصاً الشبان الذين يتم توقيفهم وإخضاعهم لعمليات تفتيش جسدي مذلة تترافق مع عمليات ضرب ومعاملة قاسية."
ويتابع صب لبن: "مدرج باب العمود كان لعدة أعوام متنفساً للعشرات من سكان البلدة القديمة، وخصوصاً في ساعات المساء، لكن الشرطة الإسرائيلية تلاحق الفلسطينيين وتنغّص عليهم بحجة الاشتباه فيهم لمنعهم من الوجود في المنطقة، إلاّ إن كثيرين من الشبان يرفضون هذه الإجراءات ويصرون على البقاء في المنطقة."
[نقطة تفتيش إسرائيلية عند مدخل الباب]
ساحة شهداء
خلال العامَين الماضيين بات الفلسطينيون يطلقون على ساحة باب العمود لقب "ساحة الشهداء" نظراً إلى سقوط العديد من الشهداء في المنطقة برصاص الشرطة الإسرائيلية بحجة تنفيذ أو محاولة تنفيذ عمليات طعن.
وتشير تقديرات فلسطينية إلى أن 20 فلسطينياً استشهدوا برصاص الشرطة الإسرائيلية في ساحة باب العمود خلال العامَين الماضيين. وبين الشهداء الفتاة فاطمة حجيجي، البالغة من العمر 16 عاماً ومن سكان قراوة بني زيد، فقد زعمت الشرطة الإسرائيلية أنها أشهرت سكيناً في 7 أيار / مايو 2017 قبل إطلاق الرصاص.
إلاّ إن منظمة "بيتسيلم" قالت: "تبيّن أن حجيجي التي توقفت على بعد أمتار قليلة من رجال الشرطة، لم تعرّض أياً منهم للخطر، لكن الشرطة أطلقت عليها ما لا يقلّ عن عشر رصاصات." وأضافت: "كان في إمكان رجال الشرطة الذين كانوا مدرّعين ومسلحين، ويقفون خلف الحاجز المعدني، أن يسيطروا على حجيجي ويوقفوها من دون الحاجة إلى إطلاق الرصاص، وبكل تأكيد من دون إطلاق الرصاص الفتّاك، لكنهم بدلاً من ذلك، أطلقوا النار وقتلوا فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً، من دون أن تعرّضهم للخطر."
المشهد ذاته تكرر مع سهام نمر، وعمرها 49 عاماً وهي من سكان القدس، والتي زعمت الشرطة أنها في 29 آذار / مارس أشهرت مقصاً قبل أن يتم إطلاق النار عليها واستشهادها.
وقالت "بيتسيلم" أيضاً، إن "هنالك شكاً أصلاً في أن سهام كانت تستطيع عبور الحاجز والتقدم نحو أفراد الشرطة وتعريضهم للخطر. كما أنه نظراً إلى تحصيناتهم والوسائل التي كانت في حيازتهم، فإنه على الأرجح كان في قدرتهم السيطرة عليها وإيقافها من دون الحاجة إلى إطلاق النار، لكن رجال الشرطة بدلاً من ذلك، أطلقوا النار عليها وقتلوها."
ويقول صب لبن: "لقد استشهد العديد من الفلسطينيين برصاص الشرطة الإسرائيلية في ساحة باب العمود خلال العامَين الماضيين. وبالإجمال يمكن القول إن ردة الفعل الإسرائيلية كانت غير مبررة على الإطلاق ، إذ تم إطلاق كثير من الرصاص، وفي العديد من الأحيان مُنعت طواقم الإسعاف من تقديم الإسعافات للجرحى." ويضيف: "في جميع الحالات كان من الممكن اعتقال المهاجمين من دون إطلاق النار عليهم. إن الذي جرى لم يحدث مع حجيجي ونمر فقط ، بل مع سائر الشهداء أيضاً."
ومع أن الشرطة الإسرائيلية قامت بتثبيت كاميرات مراقبة في كل زاوية من زوايا باب العمود، إلاّ إنها ترفض إبراز شرائط هذه الكاميرات لإثبات رواياتها عن محاولات طعن، ولم تُبرز إلاّ حالتين فقط عن حادثَي طعن يظهر فيهما فلسطينيان وهما يحاولان تنفيذ عمليات طعن.
الهدف السيطرة على البلدة القديمة
ويرى مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، زياد الحموري، أن الاحتلال الإسرائيلي يهدف من وراء إجراءاته في باب العمود إلى السيطرة الكاملة على البلدة القديمة باعتباره المدخل الأساسي للبلدة. ويقول: "إسرائيل تستغل كل حدث من أجل فرض إجراءات جديدة في باب العمود في سياق مخطط يهدف إلى السيطرة على البلدة القديمة بأكملها، فقد تم تثبيت نقاط التفتيش وكاميرات المراقبة بالتزامن مع إجراءات تفتيش مشددة، فضلاً عن عمليات حفر بحثاً عن آثار مزعومة في منطقة باب العمود."
ويشير الحموري إلى أن "هذه الإجراءات كلها تهدف إلى خفض عدد المارّين عبر الباب إلى البلدة القديمة، وبالتالي التأثير سلباً فيما هو موجود خلف الباب، وهي الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية والمحال التجارية والسكان، وبالتالي هي محاولة للضغط بالإمكانات كلها من أجل تفريغ البلدة القديمة من سكانها الأصليين لمصلحة المستوطنين الإسرائيليين الذي يسعون للاستيلاء على مزيد من المنازل العربية في البلدة، وتحديداً طريق الواد."
ويضيف الحموري: "الإجراءات الإسرائيلية أثرت سلباً في الحركة التجارية في البلدة القديمة إذ لدينا قوائم بنحو 250 ـ 260 محلاً تجارياً أغلقت أبوابها في البلدة القديمة، وهو ما يمثل نحو 25% من عدد المحال التجارية التي تصل إلى قرابة 1100 محل، وتحديداً في باب السلسلة وسوق الدباغة والواد وسوق الخواجات وسوق القطانين وسوق اللحامين وغيرها من الأسواق التي كانت قبل أعوام تعجّ بالمواطنين من القدس وأنحاء الضفة الغربية."
ويلفت الحموري إلى أن اصحاب المحال التجارية أغلقوا محالهم بسبب قلة المتسوقين، مشيراً إلى أن عدد المحال المغلقة ازداد في الأعوام القليلة الماضية، وتحديداً العامَين الماضيين.
ويقول إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي تضيّق على الفلسطينيين من أجل الحدّ من حركتهم في اتجاه البلدة القديمة، تعمل أيضاً على ملاحقة التجار من خلال الضرائب، محذراً من "خطر تسريب محال تجارية في البلدة القديمة بداعي عدم القدرة على دفع الضرائب الباهظة."
[حركة خجولة أمام الباب]
تكرار سيناريو الخليل
ويعتبر الحموري أن السلطات الإسرائيلية تحاول أن تكرر السيناريو الذي طبقته في مدينة الخليل في الضفة الغربية بهدف السيطرة عليها.
ويقول: "الإجراءات هي نفسها إن كنا نتحدث عن نقاط التفتيش الثابتة وعمليات التفتيش غير الإنسانية، كما أن ما يجري في شارع الواد الذي يربط باب العمود بالمسجد الأقصى هو ذاته المطبّق في شارع الشهداء في الخليل، وما يجري في المسجد الأقصى هو تماماً ما جرى في بداية تقسيم الحرم الإبراهيمي، وإغلاق المحال التجارية هو عينه الذي يجري في مناطق وجود المستوطنين في الخليل."
ويضيف: "إسرائيل تنظر إلى باب العمود باعتباره شريان الحركة إلى البلدة القديمة، وهي تريد ضرب هذا الشريان بما يسهل سيطرتها على البلدة القديمة."
إجراءات تهويدية في القدس
يتزامن تشديد الخناق على باب العمود مع إجرءات إسرائيلية في عموم مدينة القدس تهدف إلى فرض ميزان ديموغرافي جديد لمصلحة اليهود في مدينة القدس.
فقد بدأت تتعالى الأصوات في إسرائيل لفرض إجراءات جديدة يكون من شأنها إخراج أحياء فلسطينية من مدينة القدس مثل كفر عقب ومخيم شعفاط وعناتا وغيرها من الأحياء التي يقطنها ما يتراوح بين 120,000 و150,000 فلسطيني، وهو ما يشكل أكثر من ثلث عدد المقدسيين.
كما تدفع وزارة الإسكان الإسرائيلية في اتجاه إقامة مستعمرة جديدة على أراضي مطار قلندية والأراضي المحيطة تشمل 10,000 وحدة استيطانية للمستوطنين المتدينين.
ووضع حزب الليكود الإسرائيلي الذي يتزعمه رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، مخططاً باسم "القدس الكبرى" يهدف إلى ضم 5 مستعمرات كبرى في محيط القدس إلى المدينة، بما يزيد في عدد اليهود في المدينة بنحو 100,000.
ويقول خليل التفكجي، مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية: "إن مجمل هذه الخطوات الإسرائيلية يهدف إلى منع إقامة عاصمة للدولة الفلسطينية في مدينة القدس، وإلى تكريس أغلبية يهودية كبيرة في المدينة على حساب المواطنين الفلسطينيين الذين تخطط إسرائيل ألاّ تزيد نسبتهم على 20% من سكان القدس بشطرَيها الشرقي والغربي، وأيضاً إلى تقسيم الضفة الغربية إلى منطقة شمالية وأُخرى جنوبية، بما يقطع الطريق على إمكان تطبيق حل الدولتين.
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع "مجلة الدراسات الفلسطينية"].