"القدس الكبرى" كما تراها إسرائيل
ماذا يُعدّ للقدس؟ وإلى أين يأخذون المدينة؟
لا يستطيع أحد الادعاء بأنه أمر مفاجأ، فما يجري هو جزء من مشروع معلن وجدّي وقد بُني ببطء خلال أعوام الاحتلال من أجل الوصول إلى تهويد القدس وتحويل أهلها الفلسطينيين إلى أقلية داخل مدينتهم. فبحسب قانون القدس الموسعة الذي أعده النائب يوآف كيش، والذي ينتظر الإقرار من الكنيست، سيجري ضم مستعمرات معاليه أدوميم وبيتار عيلييت وغفعات زئيف وأفرات وغوش عتسيون إلى بلدية القدس. وقد سبق أن تقدّم الوزيران نفتالي بينت وزئيف إلكين بمشروع لتغيير القانون الأساس: القدس، من أجل أن يتم نقل كفر عقب ومخيم شعفاط من بلدية القدس إلى إطار بلدي وإداري آخر.
عملية اللصق والقص ليست جديدة، فالدولة العبرية لم تتوقف منذ تأسيسها عن القيام بعمليات شبيهة، لكن ما يجري اليوم تحت أنظارنا يعلن وبشكل قاطع قتل مشروع الدولة الفلسطينية، فضلاً عمّا تمثله القدس على المستوى الرمزي.
ويبدو أن معاناة المدينة في حياتها اليومية هي تلخيص مكثف لمعاناة شعب يعيش تحت احتلال استيطاني منذ سبعين عاماً، فالقدس اليوم هي التجسيد العملي للنكبة الفلسطينية المستمرة.
لقد جاءت خطة "القدس الكبرى" بناء على دراسة أجراها "مركز القدس لأبحاث إسرائيل"، وخرج منها بنتيجة فحواها أنه في سنة 2040 ستكون نسبة العرب 55% من إجمالي عدد السكان في حدود البلدية، الأمر الذي أشعل الضوء الأحمر إسرائيلياً، بعدما كانت إسرائيل اعتمدت على التفوق الديموغرافي في القول إن القدس عاصمتها الأبدية.
وقد أطلقت إسرائيل مشروع القدس الكبرى في سنة 1993، بحيث تصبح مساحة المدينة 600 كلم2 (10% من مساحة الضفة الغربية)، وبموجبه جرى وضع خطة إقامة جدار الفصل العنصري الذي باكتماله يكون قد ضم أكثر من 230 كلم2 أُخرى من الضفة الغربية. وبينما يُعزل 130,000 فلسطيني مقدسي عن القدس، فإنه سيضم 120,000 مستوطن تقريباً يعيشون في كتل استيطانية كبرى.
ويهدف مشروع القدس الكبرى إلى تخفيض عدد سكان المدينة العرب البالغ 350,000 بنسبة 30%، بحيث تصبح نسبتهم إلى مجموع عدد سكان المدينة 12%، وذلك عبر عمليات التهجير والطرد وهدم البيوت والإنذارات ومصادرة الأراضي والعقارات والتغلغل داخل الأحياء العربية، وفي المقابل تشجيع الهجرة اليهودية في مقابل محفزات مادية واجتماعية.
لقد شكلت الزيادة السكانية العربية مفصلاً أساسياً في رسم خطوط القدس الكبرى، والتي حمل لواءها في سنة 1993 وزير الإسكان في حينه، بنيامين بن ـ إليعيزر، مدعوماً بتعليمات مباشرة من رئيس الحكومة السابق يتسحاق رابين، عبر انتهاج إجراءات جديدة تضاف إلى تلك القديمة لطرد السكان الفلسطينيين.
تغيير معالم القدس الديموغرافية والجغرافية
كانت الخطوة الأولى، في هذا السياق، زيادة هدم المنازل، وهي عملية تم بموجبها هدم أكثر من 2000 منزل، وتشريد أصحابها في اتجاه الضفة الغربية بين سنتَي 1994 و2017.
كما أن إجراءات سحب الهويات زادت بشكل كبير، فجرى بين سنتَي 1967 و2017 سحب أكثر من 15,000 بطاقة هوية.
وتمثلت الخطوة الأكبر في استخدام الأمن لتحقيق أهداف ديموغرافية، وذلك بإقامة جدار الفصل العنصري الذي أخرج، بحسب الإحصاءات الإسرائيلية، أكثر من 70,000 مقدسي خارج الجدار، وأكثر من 150,000 وفق الإحصاءات الفلسطينية.
وفي سياق الإجراءات الإسرائيلية نفسها أيضاً، جاء القرار 1650 الصادر بتاريخ 13 / 9 / 2009، والذي دخل حيّز التنفيذ بتاريخ 13 / 4 / 2010، والقاضي بـ "منع المتسللين" من الدخول إلى القدس، بهدف إبعاد أكثر من 55,000 فلسطيني عن حدود البلدية، باعتبارهم مخالفين للقانون.
وفي الوقت نفسه، أُعلن المشروع 30 / أ الذي يمتد من منطقة اللطرون شاملاً حدود بلدية القدس التي تم توسيعها في سنة 1967، والذي يهدف إلى:
1- بناء مستعمرات جديده وتوسيع القديمة.
2- إقامة مناطق صناعية، والقدس ذات أفضلية في ظل هذا المشروع، عبر:
(أ) دعم الاستيطان والاستثمار وإعطاء تسهيلات للمستثمرين.
(ب) إقامة بنية تحتية كاملة من طرق وسكك حديدية وغيرها.
(ج) خلق تواصل واضح للسكان اليهود، وتقليص التقارب والاحتكاك مع العرب، مع أن ربط المستعمرات الواقعة خارج حدود البلدية مع داخلها سيكون بواسطة أنفاق وجسور، وربط منطقة غوش عتسيون بالقدس بواسطة نفق تحت بيت جالا، وإقامة سكك حديدية، وقد تم تنفيذ مشروع نفق تحت جبل "المشارف" (سكوبس) لربط تجمّع معاليه مع القدس. وهذا المشروع، علاوة على مشروع 2020، يُعتبر من أهم المشاريع الهادفة إلى تهويد المدينة، وجعلها مركزاً سياسياً وحضارياً وثقافياً ومحوراً رئيسياً لليهود.
ويهدف المشروع إلى جلب 100,000 يهودي في كل عام، والانتقال من القدس الموسعة (1,2% من مساحة الضفة الغربية) إلى القدس الكبرى (10% من مساحة الضفة) وذلك لتحقيق مجموعة من الأهداف، أهمها:
1- اعادة التوازن الديموغرافي وطبع المدينة بطابع ديني.
2- فصل الضفة إلى قسمين جنوبي وشمالي، بحيث تكون القدس الكبرى في وسط المنطقة، وتمتد في اتجاه الشرق حتى غور الأردن، وبعرض يزيد عن 15 كلم2، فتصبح المدينة في قلب الدولة العبرية، وحاجزاً يمنع القادمين من الجنوب من التوجه إلى الشمال، إلاّ من خلال نظام معين متفق عليه، أو عبر طرق بديلة تحت اسم "نسيج الحياة" تجري إقامتها، وهو مشروع صُودق عليه في سنة 2007.
3- إحكام السيطرة على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، ومنع أي جهد فلسطيني لولاية جغرافية عليها، والحيلولة دون ممارسة السيادة الفلسطينية على الأرض.
4- تدمير أي نمط اقتصادي في الضفة الغربية، وذلك عبر السيطرة الإسرائيلية على محاور الطرق، والتحكم في إغلاقها وفتحها بحسب شروطها.
5- منع إقامة عاصمة فلسطينية في القدس.
وهكذا فإن خريطة القدس المستقبلية ستكون مختلفة تماماً عن القدس الحالية جغرافياً وسكاناً. فإقامة القدس الكبرى، وتوسيع حدودها، جاءا لأسباب عنصرية، وهو ما أكده أرنون يوكتئلي، عضو مجلس بلدية القدس الغربية، إذ كشف في تصريح له عن مخطط تهويدي لمحاصرة الأحياء العربية في القدس باليهود.
[خريطة مستعمرات القدس الكبرى]
توافق سياسي على مشاريع القدس
كان بنيامين بن ـ إليعيزر، فور تسلّمه وزارة الاسكان، قد طلب من طاقم التوجيه في الوزارة دفع تطوير المدينة بحسب الحاجات التنظيمية والمتروبوليته كعاصمة لإسرائيل، وأن يتم التحرر تماماً من الاعتبارات السياسية والحزبية.
وعادت خطة القدس الكبرى مرة أُخرى بضوء أخضر من رئيس الحكومة إيهود براك.
وأسس الوزير الإسرائيلي والقيادي السابق في حزب العمل حاييم رامون، حركة جديدة أطلق عليها اسم "إنقاذ القدس اليهودية"، ضمت بين أعضائها شخصيات سياسية وعامة يسارية وغير يسارية. وشدد رامون عند إعلان تأسيس حركته على طابعها الشعبي البعيد عن الفهم السياسي التقليدي. وجاء في بيان الحركة التأسيسي: "أقيمت حركة إنقاذ القدس اليهودية عبر تحقيق الانفصال عن أراضي 28 قرية ومدينة فلسطينية تم ضمها إلى حدود المدينة بعد حرب 1967، مع أن هذه القرى لم تكن يوماً جزءاً من القدس."
وفي سنة 2010، صرّح يكير سيغف الذي كان يشغل منصب مسؤول ملف شرقي القدس في بلدية الاحتلال، في مؤتمر بعنوان "المساواه البلدية في شرقي القدس"، بأن الأحياء التي تقع إلى الشرق من الجدار تشكل جزءاً من مدينة القدس. وأضاف أنه لا يعرف أحداً يرغب في أن يفرض السيادة الإسرائيلية على تلك الأحياء إلاّ أحزاب اليمين. واعتبر أن بناء جدار الفصل له أهداف سياسية وديموغرافية، وليس فقط أهدافاً أمنية. وكانت هذه المرة الأولى التي يصرّح فيها أحد مسؤولي بلدية الاحتلال علناً عن الرغبة في إزاحة أحياء مقدسية إلى خارج الجدار.
أمّا رئيس بلدية الاحتلال نير بركات، فصرّح علناً، ولأول مرة في كانون الأول / ديسمبر 2011، عن رغبته في التخلي عن هذه المناطق، إذ نقلت عنه الصحف الإسرائيلية قوله إنه "يجب التنازل عن مناطق نفوذ البلدية الموجودة خارج الجدار."
كما أوضح بركات أن الجدار في منطقة القدس يشكل "عازلاً أمنياً ووطنياً، ويجب أن يتم تحويله أيضاً إلى دليل على ابتداء السيادة وانتهائها"، أي أن كل ما يقع خارج هذا الجدار، وأقرب إلى مناطق الضفة، ليس ضمن نفوذ البلدية، وكل ما يقع داخل هذا الجدار، أي أقرب إلى مركز المدينة، هو تحت نفوذ سيادة البلدية.
وفي تموز / يوليو 2012، التقى مدير بلدية القدس يوسي هايمين منسق الحكومة في الضفة الغربية، وطلب منه أن يتحمل الجيش المسؤولية عن الأمور البلدية في الأحياء المقدسية ما وراء الجدر، أي نقل هذه الأراضي والأحياء إلى نفوذ الإدارة المدنية.
إزاحة سكانية وليست جغرافية
أظهر تقرير صدر عن "مجموعة الأزمات الدولية" في سنة 2012، أن رئيس البلدية يعمل على إخراج الأحياء العربية في الجهة الشرقية من الجدار إلى خارج المدينة، مع تشديد السيطرة على الأحياء العربية الموجودة إلى الغرب منه: وقد ورد في التقرير أن أحد مستشاري بركات قال في مقابلة خاصة مع مُعدّي التقرير: "لماذا نستثمر في تلك المناطق؟ في نهاية الأمر لن يكونوا جزءاً من إسرائيل"، شارحاً أن التنازل عن تلك الأحياء لا يعني نقل أمر إدارتها والسيادة عليها إلى جهة فلسطينية، وإنما سحب هذه المسؤولية من البلدية ونقلها إلى جهات عسكرية إسرائيلية، أو جهات إدارية أُخرى، لكن إسرائيلية.
وجاء في التقرير أن رئيس البلدية تلقّى نقداً حاداً من طرف أعضاء الكنيست وأعضاء المجلس البلدي، الذين ينتمون إلى الأحزاب اليمينية، والذين يعتبرون حدود بلدية القدس الحالية حدوداً مقدسة على اعتبار أنها تمثل القدس الموحدة. وبناء على ذلك، عدّل تصريحاته في شأن الأحياء خارج الجدار. ففي الوقت الذي كان يدعو في البداية إلى إخراجها تماماً من حدود نفوذ البلدية، أصبح يقول أنه لن يتخلى عن تلك الأحياء سيادياً، ويدعو إلى "تقاسم عبء إدارتها وتقديم الخدمات فيها بين البلدية والإدارة المدنية"، إلى حين الوصول إلى حل سياسي.
في 25 تشرين الثاني / نوفمبر 2015، ذكر تقرير للقناة الإسرائيلية الثانية أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو اقترح في اجتماع المجلس الوزاري المصغر الذي عُقد في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 2015، سحب الهويات الإسرائيلية من الفلسطينيين القاطنين في الأحياء ما وراء الجدار. وطلب في ذلك الاجتماع عقد اجتماع مخصص لمناقشة هذه الفكرة.
وبحسب التقرير، فإن نتنياهو ركز على أحياء مثل مخيم شعفاط، وحي كفر عقب، والسواحرة.
وأشار مراسل القناة عميت سيغل إلى أن قرارات اجتماع الكابينت تتلخص بنقطتين أساسيتين:
1. عدم قدرة الحكومة على سحب جميع الامتيازات من المقدسيين.
2. ضرورة سحب الهويات الزرقاء من المقدسيين، وخصوصاً سكان مخيم شعفاط، وكفرعقب، والسواحرة.
إن إزاحة ربع السكان المقدسيين هو أمر سياسي كبير، وليس مجرد إجراءات أمنية. وقد تأكد الأمر خلال مؤتمر حزب العمل الذي عُقد في 9 / 2 / 2016، والذي صادق على خطة انفصال أحادية الجانب من الضفة الغربية وحول القدس، وقرر العمل من أجل فصل عشرات القرى الفلسطينية المحيطة بالقدس عن منطقة نفوذ البلدية، أي سلخ 200,000 مقدسي عن مدينتهم، بهدف تهويد القدس. ويجري الحديث هنا عن أحياء ضخمة مثل العيساوية وصور باهر وشعفاط.
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع "مجلة الدراسات الفلسطينية"].