متلازمة تَمَلْمُلِ السّاقَينِ
يُسمّون هذه النفضاتِ الغادرةَ الواخزة المتلاحقة: تَمَلْمُلَ السّاقَينِ.
يَصِفُ بعضهم أدويةً ووضعيّات، ويَنصح آخرون بالأدعية واللَّبَن.
كأنّ التقلُّبَ في الهاوية ناجمٌ عن نقص اللياقة، كأنّ تَأرجُحَ الفريسةِ بين الأنياب والمخالب نزهةٌ طائشة قد تخلّف بعضَ الرضوض.
إنّ هذه الصحوات التي ترجُّ العضَلَ بكهرباء الروح، وتُحزِّزُ الجِلدَ بشفرات الندَم، وتُنْبِئُ العظمَ أنّ كل نسمةٍ تخترق اللّحاف مسمارٌ في صليب الوقتِ؛ هي آخِرُ هَبّات الكرامة:
خفيّةٌ مثلما يتدرّب السجين على رَفْسِ الكرسيّ قبل أن يُساقَ للمنصّة،
واضحةٌ مثلما تُشَطِّبُ الشجرةُ لِحاءها حين يدنو الحطّاب.
تعلّمتُ منها كيف أطحن بالأسنان سلاسلَ العتمةِ،
كيف أصدُّ بقميصِ من الشوك سهامَ الضجيج.
العتمة بجرعاتٍ دقيقة
بَعد أن تَسقط الفراشة، يختلج اللَّهَبُ قليلاً ثمّ يَشِبُّ. قشعريرةُ الندَمِ تمرينٌ منشِّطٌ لكلِّ قاتل.
مزّقتُ الصفحتين. إنّ ما أكتبه قُرْبَ المَوقد بعيدٌ عن الشِّعر بُعْدَ المتنزِّهِ عن الغريق.
نُسْقى العتمةَ بجرعاتٍ دقيقة. تتوسّع الأحداق لتلبِّيَ وظائفَ أخرى غير الرؤية. نحوم حول النّيْران، لا لندفَأَ بل لنطارد الأخيلةَ ونراقص أنسام الذكرى. تَخْدَرُ أيدينا بين الأزرار والشاشات فنقْنع أن الجلوس ارتحالٌ، والظلامَ مَعرفة.
تكتسب أصواتُنا يوماً بعد يوم بحّةَ الأسرى الرتيبةَ، متردّدةً في المجال المتوسط بين غمغمات الناجِيْنَ من الزلزال وصراخِ المجروفينَ بالسَّيْل.
تُخجلنا الفرحة حين يعود التيّار، ونكاد من شدّة التقوّس أن نسجد. نكتشف أن أيامنا مقسومة بين شوطينِ: التزاحُم على الخروج من الكهف كي نلعن وحشتَه، والتَّباري على العودةِ إليه لإكمالِ زخرفتِه.
لكننا نتناسى. ثمّة غرائزُ لا تُلَبَّى إلّا في النُّور، وأخرى لا بدّ من تأجيلها لتَستعرَ وتُسْكِرَ حين يعمّ الظلام.
إننا مصفوفون على الحبال، مَدْهُونونَ بكل ألوان الطَّيْف. فليَعرضْ محرِّكُ الدُّمى ما يشاء.
هناك، في الشارع، تحت المصابيح، تصطخب الحقائق:
تَرْدمُ الجبّالةُ آخِرَ بستانٍ، لينهض البرج مسوَّراً بالدواليب والنُّباح متباهياً بما جَنَتْهُ السياط.
يومئُ الصائغ للسيّدة الواقفة خلف الميزان أنْ تخلع سِواراً آخرَ، وهو يهاتف الشبحَ المُمْسِكَ بخناق ابنها.
تنهالُ المَلاماتُ على عامل الفرن، لأنه انشغل عن تقليب الفطائر باستقبال من جاؤوا يهنّئونه بماجستير الهندسة.
ستقول، يا صديقي، إنّ هذا بعيدٌ أيضاً عن الشِّعر، وإنّ الشعر كشفٌ للغامض، وصبوةٌ إلى الحلم، وارتقاءٌ للمطلَق.
أَزِحْ هذا السقفَ المُطْبِق عن أضلاعي، واسرحْ ما شئتَ في براري الصوَر.
اغمرني بالنور، وهنيئاً لك اللَّهْوُ بشبّابات الليل.
جِدْ لي ينبوعاً أرتمي فيه، ومبارَكةٌ عليك مواويلُ الظمأ.
شرفة
تظنّين أن العاصفة حادتْ عن بيتنا المهجور، أنّ للغيوم نوايا غير التي تضمرها الطائرات.
لم تستطع أطياف الصباح أن تشرب من هاتين البحيرتين، لأنك تستقبلينها في الشرفة شِبْهَ مغمِضة.
" راح الغالي، والجدرانُ لها الله"
لماذا تسافرين إذن؟ إنّ الذي مكَّنَ الشمسَ من أن تُلهِبَ الخدودَ، جعلها قوّةً للعظام.
لستُ أرتجف.
يجفلني ارتطامُ الفنجان بالطبق، مع أنّ آثار القيد زالت من معصمي.
لو لم تَسكت الأمطار!
كان صخَبُها في الليل يوهمني أنّ القطارات ستصحو،
أنّ الحروف التي نقشناها على ذلك المَقعد ستدفأ بكوفيّةِ راعٍ أو بطّانيّةِ رضيع.
مِن معادنِ بلادي هاتان الرُّكبتان.
كلما لففتِهما بالإسنفج ناهضةً للصلاة:
لَأَمَ العشبُ أوصالَ السِّكة،
تململتْ أضلاعُ الجسر الغافي فوق النهر منذ سنين.
مقهى على النهر
يستحقّ الأطفال القافزون من الناعورة نهراً أنظفَ.
أمسِ لم يطفئ جارُنا مضخّةَ المياه، إلّا بعدما أريناه الدَّمَ النافر من أُذنَي ابننا المحموم.
منكبٌّ على ترجمة كتابٍ عن حياة الشجر. خلفه شابّةٌ تشترط على النادل أن يكون فحْمُ أرجيلتِها من السنديان.
- لو كان في هذا البلد قطارات، ما نشبت الحرب.
- كانت موجودةً، والذين شَبُّوا على رجْمِ نوافذها يقودون الآنَ كتائب.
احتمى الأول بغمامة دخان، آملاً أن تُسكتَ الأمطارُ صفيرَ رأسِه.
لو أُتيح للثاني أن يسهم في الإعمار، فسيَرصف السِّكَكَ من عظامِ خصومِه.
سَهَر
يكاد المطر أن يَكون حقيقةً ناشئةً من الوهمِ، من شِبْهِ لا شيء يغمر كلَّ شيء.
من هذيانِ الموجِ كي تستردَّ السماءُ وَعْيَها،
من زفرات الغرقى كي ينتشر الأنينُ مناراتٍ،
من رَهبانيّةِ الفجرِ ليفتتح في كل عتمةٍ حانةً،
من دخان الكواليس ليطفئَ حرائقَ المنصّة.
كيف أغفو وأنتَ تُكْرِم؟ كيف أُغمِضُ وبُرُوقُكَ تومئ لي؟
سالَ الرِّضا من الأكمام، واشتعلَ الرأس موسيقى.
سأصعد، دُلَّ عليَّ أيَّ طائرٍ شرَّدَتْه الفؤوس. سأمشي، فابذرني ولو بين الخنادق.
جَرّاحُ الأعالي يَخُطُّ بمِشرطِ الرَّعد. كيفما كانت حالةُ الجنين، فالأُمُّ ناجية.
أمّا ارتجاجاتُ الأعمدة، وتَصَدُّعُ الشبابيك، واشتباكُ الجذورِ، وتَفَتُّقُ الكَمأ،
فآثارٌ جانبية يزول معظمها قبل أن تشفى النُّدبة.
إلى شقيقتي أسمهان
مارْدِين ليست مَهْجَراً. كان الثلج رسولاً بين طيورها وتَنُّوْرِ أُمّي،
صُبْحَ عَبَرتِ، خَطَفَ السِّياجُ من شالِكِ رسالتين إلى الغيوم:
كي تعرف أين تسقي ظلالَنا، وكيف تصير أجنحةً حين تُوْرِقُ في جدران القلعة تراتيلُ الراهبات.
خُضتِ لياليَ في طين الحدود، مثلما اعتادت قبضتاكِ أن تَعجنا قمحَ الجزيرة: مُنَدّىً بالبَسْملة، مُمَلَّحاً بالدموع.
حمَّلتْني هَبْرِيَّةً لـ" ضلالي" يومَ عشقتُ ، استَحْلَتْ أن أعلِّقَ في الغرفة مجْوِزَ قَصَبْ.
آلَمَها ألّا يتقن أبناؤها العزفَ، لو أنهم أُوْلِعوا بشيءٍ آخر غير الكُتب لما زلزلت البيتَ تلك الجراح.
ألِهذا كانت تتمتِمُ حين أداوي قدميها: " يا حيفْ على هذي الأصابع"؟
أعرف ما انهَدَّ وكيف يرمَّم، لكن لن أسْكُن. إذا لم تستأجره الشمس، فقد نرهَنُه للريح.
سَقْفي أنني أخٌ،
وسوريا حيث تسهرين.