الجزء الأول
كل القصص قد حكيت
في بداية حقبة الألفين، وخلال دراستي للسينما في مدريد، كان لنا زميل يدرس الإنتاج السينمائي في أهم معهد من معاهد السينما بإسبانيا، كان يسبقنا بأعوام، ولأسباب متعلقة بعائلته وأبيه السياسي الشهير، كنا نعلم أن مساره في العمل الاحترافي سوف يكون ممهدا بدرجة كبيرة. لكنه اعتاد أن يكرر أمامنا، وبكل ثقة، رأيه بأن كل الأفلام والقصص قد صنعت وحكيت من قبل. كنا نندهش من أن يكون هذا التصور هو قناعة شاب سينمائي من المفترض أن يعيش في هذه الفترة من حياته، بحكم الدراسة والمرحلة العمرية، حالة من حالات الإثارة والشغف تجاه الطريق الذي اختاره. وهو ما يتعارض بالضرورة مع هذا الإحساس بالرتابة والملل الذين يولدان تلقائيا إن كان لديك قناعة بأن كل ما تود حكيه قد حكي بالفعل.
أعتقد أن هذا التصور "العدمي" بدرجة ما، هو ما جعله يختفي تماما بعد سنوات قليلة. لنكتشف لاحقا أنه قطع علاقاته بالوسط السينمائي، إلتحق بالمدرسة الديبلوماسية، وتم تعيينه في إحدى السفارات. ودهشتنا تجاه ما كان يردده من قبل تحولت لدعابات تطال صديقنا المحبب في غيابه.. "أفلست السينما، كل الحكايات قد حكيت، لكن في السلك الديبلوماسي والبروتوكول، حيث كل ما يحدث هو نفس ما يحدث منذ قرون، هناك رغي جديد لم يتم استهلاكه بعد".
أشار بعض الحاضرون لحفل توزيع واحدة من الجوائز الفنية في مصر مؤخرا، أن سينمائياً مصرياً هاماً ومعروفاً، كان من ضمن لجنة تحكيم جائزة السيناريو، قام أثناء منح الجوائز بـ “بستفة" من فاز ومن لم يفز، مشيرا إلى أن أغلب السيناريوهات المقدمة لا تقترب من الواقع المحيط، بل هي إعادة إنتاج لنفس أفكار المسلسلات التلفزيونية القديمة.
هذه الإشارة من سينمائي لديه خبرة وتاريخ، لا يمكننا أن نتوقف عندها بنفس الكلام القديم المتكرر بأن مشكلة السينما المصرية هي أساسا أزمة أفكار وندرة السيناريوهات الجيدة. فهذا التبرير القديم يغفل جوانب وأسباباً كثيرة لانهيار السينما المصرية. وأغلب هذه الأسباب ليست بيد السينمائيين المصريين، بل بيد السلطة وواضعي السياسات الثقافية، وبعض منها هو نتيجة طبيعية لعدد من العوامل المجتمعية والثقافية. ناهيك عن أن هذا التبرير السطحي والبسيط، أن المشكلة في الورق، كان يتم استخدامه سابقا لتجنب الدخول فيما هو سياسي ومتعلق بأزمة تخص كل ما هو ثقافي أو فني في بلدنا. وهذه الإشارة من هذا السينمائي، والتي أعتقد أنها صحيحة غالبا، لا يمكن كذلك أن ٌتحل بتفسيرات من نوعية أن التلفزيون وسوق المسلسلات لهما سطوة علي السينمائيين بحكم أكل العيش. وبالذات مع انتشار كثير من شبكات عرض المسلسلات في بيوت كثيرين، مثل "نت فليكس"، "إتش بي أو"، وغيرهما، وهي شبكات جعلتنا نتابع مسلسلات غير مصرية كثير منها على درجة عالية من الجودة، وقد تطورت خلال العقد الأخير لتقترب من أدوات السينما في الحكي. فلا يمكننا هنا أن نطرح سؤالا معاكسا للمنطق.. كيف يتطور المسلسل التلفزيوني باتجاه السينما، وتتراجع السينما تجاه التلفزيون، لتكون أقل تطورا منه؟
إن أردنا أن نقترب قليلا من أزمة المسار السينمائي المصري، وشكله الحالي، وكيف تم ترسيخه، فإن تعليق المخرج المصري عضو لجنة تحكيم الجائزة، سيجعلنا نسأل سؤالا إضافيا بعيداً عن "بستفة" كتاب السيناريو.. وليكن، اقتربت السيناريوهات من الواقع، ونظر الكتاب حولهم وتفاعلوا مع مايرونه، ماهي النتيجة؟ هل سترى أفلامهم النور وتصل لجمهورها؟ وهو سؤال سنؤجل قليلا الاشتباك معه. لكن قضية الواقع المعاش والمنتج الفني والعلاقة بينهما تحيلنا إلي سينمائي آخر، من أهم مخرجي السينما المعاصرين وأقلهم شهرة، وهو الإسباني "فيكتور إيريثي".
يشير "فيكتور إيريثي" في عدد من الحوارات والمحاضرات التي ألقاها خلال التسعينات وبدايات حقبة الألفين إلي أن السينما في تصوره قد تحولت إلي عجوز مراهق أو متصابي، بدأ في فقدان عقله، الذي للمفارقة تطور سريعا. فالسينما عاشت خلال عقود قليلة، وبسبب الثورة التكنولوجية بإيقاعها شديد السرعة، رحلة تطور وحرق للمراحل عاشتها الفنون الأخرى خلال قرون طويلة. وأن العقود الأخيرة تحديدا تشهد على المستوي السينمائي مرحلة من مراحل التراجع أو الاضمحلال كفن. ودون أن ينكر إيريثي أن في مراحل التدهور، أو التراجع، أو الانهيار، تظهر أعمال فنية عظيمة، إلا أن السائد يكون عادة ما تم إنتاجه واستهلاكه عدة مرات من قبل. ويدلل على تصوره هذا، والذي يوسعه ليشمل السينما في العالم كله، وليس فقط السينما الإسبانية، بانتشار موضة "الريماكس"/إعادة إنتاج أفلام قديمة، أو انتشار المداعبات، أو لنقل "الغمزات"، التي يوجهها مخرجون من داخل أفلامهم تجاه أفلام أخرى سابقة، أو تجاه سينمائيين سابقين، أو الإحالة المباشرة إلى ما أصبح كلاسيكيا في تاريخ السينما العالمية. بينما يظل الواقع الحقيقي هناك في الخارج، مفتقدا لمحاولات السينمائيين اكتشافه وتعلم النظر إليه وكأنهم يرونه للمرة الأولى، ليكتشفوا في كل يوم جديد ما لم يكتشفوه من قبل.
في كتابه الشيق "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة"، يضيف محمد شعير عدداً من الملاحق في نهاية الكتاب، من ضمنها مقال مدهش كتبهم نجيب محفوظ ١٩٦٤ في مجلة الكاتب، بعنوان "اتجاهي الجديد ومستقبل الرواية". في هذا المقال يشير إلى نفس هذا المطب، يشير إلى موضة تكرار مقولة أن كل الموضوعات قد حكيت، وبالتالي ليس أمام الروائي سوي الإبداع في الشكل، وليس في الحدوتة. ويرصد حالة من حالات الإغراق في التفاصيل الشكلانية لدرجة تبعث علي الملل. نجيب محفوظ يشير هنا إلى واحدة من علامات الوعكات الصحية التي تصيب الفنون من حين لآخر في علاقتها بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ويتحدث عن الشكل بمعنين مختلفين، من ناحية: ما تراه أمامك أنت كفنان، فتقوم بوصفه وفقط لمجرد التأمل والوصف، أو أن ما تصفه شكليا يتحول لمكون من مكونات حكيك لقصة، بحيث تتجاوزه لما هو أعمق. لكنه أيضا يشير إلي الشكل بمعناه الآخر، بمعني "الفورم"، البناء، التكنيك.. اللذين يستخدمهما الفنان في عمله.
وفي لغة تبدو ساخرة، يشير نجيب محفوظ إلي أن هذا الاهتمام الشكلاني، والذي يسمونه بالمدرسة الشيئية، هو بسبب افتقاد الكتاب للموضوعات التي تثير اهتمامهم فعلا، أو يودون العمل عليها. ويربطه أيضا بهذا الاتهام الموجه للرواية بأنها فن قد انتهي لأنها طرقت كل الموضوعات، أي أن كل القصص قد حكيت.
نجيب محفوظ بالطبع، وبحكم تركيبته وثقافته وموهبته الفذة، على ثقة تامة بوسيطه، وعلى ثقة أن هذا الوسيط، الذي هو الأدب، لم يمت. ويدلل على ذلك بأنه وإن كانت كل الموضوعات الكبرى قد حكيت، وهو ما يمكن أن يكون صحيحا، لكن الفنان لم يمت ولم يمت المتلقي، والزمن يتغير طيلة الوقت، وبالتالي فلديك دائما قارئ ينتظر القصة الجديدة. وعلى جانب آخر فإنك لو نظرت من الطائرة إلى الأرض فسترى أشخاصاً هم عبارة عن نسخ من بعضهم البعض، ولا يوجد ما يميزهم. لكنك إن اقتربت أكثر فستجد أن لكل منهم سمات ومميزات شخصية تختلف تماما عن الآخرين. وهذه السمات الخاصة والمختلفة تتضح كلما ازدادت درجة قربك. وإن نظرت إلى صفحة الحوادث وقرأتها فستجد أن في كل حارة هناك "عطيل”. لكن التناول الفني والمشاعري الخاص بكل فنان علي حدة، والمتغير عبر الزمن، ينفي فكرة أن كل ما يمكن أن يحكى قد تم حكيه. بكلمات أخرى، وبفهم لما يقوله نجيب محفوظ، ربما نستطيع إضافة أن كل عطيل تراه في الحارة، هو عطيل مختلف، وليس بالضرورة نسخة من عطيل الأصلي الشكسبيري.
[الروائي والكاتب المصري نجيب محفوظ]
الإستشهاد بنجيب محفوظ والإشارة إلى مقاله هنا يأتيان للتدليل على أن هذه الحجة التي تشير إلى انتهاء الحدوتة وإلى أن المتاح حاليا هو فقط بعض الألعاب الشكلانية، ليست جديدة. بل تظهر من حين لآخر لأسباب مجتمعية وثقافية متنوعة. والسينما في العالم كله قد واجهت هذا التحدي في مراحل مختلفة سابقة. وإذا عدنا إلي كلام فيكتور إيريثي المشار إليه سابقا، حول أن السينما تعيش زمن انحدارها أو تراجعها، سنفهم لماذا توجد تيارات "سينمائية" تسمي نفسها "أنتي سينما"/“ضد السينما”. وهي مجموعات من السينمائيين المهمشين الذين يعادون الوسيط السينمائي نفسه، يعادون أدواته في الحكي، ويحولونها إلى لعبة ضد الحكي، وصولا لإنتاج شعور بالنفور لدى المتلقي. والأفكار العدمية هي ما تجعلك تفهم درجة التطرف في أن يضع سينمائي كاميرته ساعات متواصلة ليراقب شخصية جالسة إلى مائدة لا تفعل أي شيء سوى أن تأكل، وتتقيأ ما تأكله. هذا المثال تحديدا من خارج السينما المصرية، لن أشير إلى اسمه كي لا أشارك بأي شكل في زيادة عدد مشاهديه. وكونه من خارج السينما المصرية لا يعني أن هذه التعبيرات السينمائية بعيدة عن بعض أفلامنا المصرية أو العربية، لكنني في هذه المقالات الأربعة لن أشير إلى أي فيلم مصري بالاسم، لسببين محددين، أولا: أن كل تعبيرات السينما وظواهرها على المستوى العالمي نستطيع أن نجد صداها لدينا، فربما يكون فن السينما هو الفن العالمي بامتياز، وصاحب اللغة التي تتجاوز اللغات الوطنية، وأي سينما محلية لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن تطورات الفن في العالم كله. وذلك دون استخدام تعبير "العولمة" المشبوه. ثانيا: الإشارة لأي فيلم مصري، سواء بالسلب أو بالإيجاب، سيكون تأثيره في تقديري هو تحويل المناقشة من أن تكون مناقشة ظاهرة مجتمعية وثقافية عامة، لتتحول لمناقشة فيلم محدد. وكوننا نتحدث عن ظواهر فهذا لا يجب أن يقودنا إلى التعميم على كل المنتجات الفنية والثقافية. ومهمة عدم التعميم هي مهمة تقع على القارئ المشارك أيضا، أن ينتبه دائما إلى أننا نتحدث عن "كثير"، "أغلب"، "بعض".. وليس "كل".
أن أخصص الساعات كي أصور شخصية جالسة إلى منضدة تأكل وتتقيأ ما تأكله، دون أي عناصر أخرى مرتبطة بالفعل أو الحدث أو ما هو جمالي، تحت دعوى احترام الزمن الحقيقي للفعل، تأمله، واكتشاف عظمة "اللقطة المشهد".. إلى آخره من تبريرات، هي في الحقيقة تجربة تقترب من السخف. وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن هذه التعبيرات المعادية للسينما هي التعبيرات الأكثر تطرفا، والأكثر صدقا أيضا في رفض السينمائي لوسيطه، أو لما كان من المفترض أن يكون وسيطه. لكن التباين والتنوع يقوداننا إلى ما هو أقل تطرفا وأقل صدقا وشجاعة، وهو السينما التي لا تثق كثيرا في السينما، أي الكثير – وليس كل – من الأفلام التي تصنعها بعض الدوائر المثقفة، التي يتم إنتاجها عبر عدد من "القطمات" التمويلية من صناديق التمويل السينمائي المختلفة.