الفساد المباركي يحارب السينما التجارية
في المقال السابق أشرت إلى "بستفة" سينمائي مصري شهير لكتاب السيناريو من الشباب بأنهم لا ينظرون إلى الواقع. وحاولت أن أقترب قليلا من أحد جوانب الصورة، وهو الخاص بوهم أن كل القصص قد حكيت. لكن هناك جوانب أخري للصورة، أو حقائق لا يمكن إغفالها، منها الجانب الإنتاجي التقليدي، الذي سأخصص له هذا المقال، والبدائل الإنتاجية التي سأخصص لها المقالين التاليين.
علينا أن نتفق بداية على أن مناقشة أزمة أي وسيط فني أو ثقافي مع تجاهل لما هو مجتمعي وسياسي، تصل عادة إلى نتيجة بائسة وهي إلقاء اللوم على المبدعين في المجال أو الوسيط الذي نتناوله، لأنهم لم يتمكنوا من أن يكونوا مبدعين كباراً. وكأن المسألة على هذا القدر من الإرادية، أن أقرر أن أكون مبدعا كبيرا، وأن تتاح لي كل الفرص، وأن أستغلها كما يجب لإنجاز الأعمال العظيمة، وسيحيطني المجتمع بعطفه ورعايته واحتفائه، فأتمكن من الاستمرار في صناعة أعمال فنية كبرى.
وهو ما يتجاهل حقيقة تاريخية، وهي أن ظهور مبدعين كبار في أي مجال فني مرتبط دائما بظروف مجتمعية وسياسية محددة. والتاريخ يثبت أن ظهور الموجات الفنية الهامة، والتي تجد بداخلها عشرات من المبدعين المهمين، مشروط بحالة نهضة أو تنمية أو مشروع قومي طموح وتقدمي. أو مشروط بمراحل تغيرات كبرى.. ثورات وانتفاضات، أو حركات تمرد ونضال استثنائية في قوتها ومثاليتها، تفرز معها مبدعيها الكبار. لكن في فترات الانحدار لا توجد تيارات وإبداعات كبرى متعددة ومتنوعة، توجد فقط حالات فردية واستثنائية ومتناثرة.
وبما أننا نتحدث عن السينما، جميعنا نعلم بأن السينما المصرية شهدت عدداً من هذه الموجات.. قبل ١٩٥٢ بارتباطها بتصاعد مد حركة التحرر الوطني. موجة الخمسينات والستينات التي ارتبطت بمشروع التنمية والمشروع القومي الذي انكسر وانتهى مع حرب الأيام الستة. وأخيرا حركات الاحتجاج الطلابية واليسارية أواخر الستينات وصولا لمنتصف السبعينات، والتي أفرزت ما يسمى بجيل الثمانينات في السينما المصرية، هؤلاء الذين قدموا أفلامهم القصيرة الأولى نهايات الستينات وأول السبعينات. وكان من الممكن أن تفرز ثورة يناير موجة جديدة، لو لم تهزم مبكرا.
ماذا يعرف جمهور السينما عن العلاقة بين المبدع السينمائي، المخرج في حالتنا، والمنتج؟ المتفرج العادي غالبا لا يعرف الكثير، بسبب غياب تراث مكتوب ومنتشر عن هذه العلاقة التي يتجنب أطرافها الحديث عنها عادة. لكن من يعملون في السينما يعرفون أكثر عن تاريخ وأنواع هذه العلاقة بين المخرج وبين من يملك الأموال، سواء بالتجربة المباشرة، أو عبر مذكرات السينمائيين الكبار.
[نور الشريف وتوفيق الدقن في فلم حدوتة مصرية ١٩٨٢ للمخرج يوسف شاهين]
ربما كان فيلم "حدوتة مصرية-١٩٨٢" ليوسف شاهين من الأفلام القليلة التي أشارت للعلاقة بين المنتج والمخرج في حالتنا المصرية، في هذا المشهد الذي يحاول فيه "يحيى شكري مراد" إقناع المنتج الذي يلعب دوره الفنان العظيم الراحل توفيق الدقن، المفترض فيه أنه والد زوجة المخرج، بإنتاج فيلم "باب الحديد”. في هذا الفيلم، ولأسباب درامية لها علاقة بتناول يوسف شاهين لذاته كمادة خام للفيلم، يجعل منتج باب الحديد هو نفسه منتج فيلم "ابن النيل"، في حين أنهما في الحقيقة ليسا نفس الشخص، فماري كويني هي منتجة ابن النيل، وداوود تلحمي هو منتج باب الحديد.
في هذا المشهد، الذي به بعض المبالغات بالطبع، يحاول المخرج إقناع المنتج بإنتاج فيلمه الذي سيحقق إيرادات ضخمة، فهو أشبه بفيلم سكس، ويركز على مشهد هند رستم وزميلاتها يغرقونها تحت المياه لتلتصق ملابسها بجسدها. رغم المبالغة الدرامية، والتي لا مجال هنا للبحث عن أسبابها لخروجها عن موضوع المقال، يتم تلخيص جانب من جوانب العلاقة بين المخرج والمنتج.. المخرج يريد صناعة عمل فني، والمنتج مهموم بالإيرادات والسوق. وهي بالفعل العلاقة التقليدية الغالبة.
الأول لديه سيناريو، أو ملخص له، يقدمه للمنتج الذي إن رأى فيه عوامل جاذبية فسيقوم بإنتاجه بأمواله. أو سينتجه بما كان يعرف من قبل بسلفة التوزيع، حيث يقوم المنتج باقتراض أموال من الموزع علي حساب توزيع الفيلم والإيرادات التي سيحققها. في هذه العلاقة التقليدية لا أستطيع في أغلب الحالات أن أتخيل المنتج يسأل المخرج عن السبب الذي يجعله يريد عمل هذا الفيلم. فإجابة هذا السؤال موجودة عادة في السيناريو، في الورق، الذي من المفترض أن تكون قصته جاذبة بالدرجة الكافية للمخرج كي يرغب في إخراجه أو تنفيذه سينمائيا.
وربما كانت الحوارات تدور بين الاثنين حول جوانب جاذبية القصة، لو كانت غير واضحة بما يكفي بالنسبة للمنتج، أو حول جوانب إنتاجية وتقليل التكاليف عبر إجراء بعض التعديلات على السيناريو. والمنتج المقصود هنا ربما يكون منتجاً فرداً، أو ربما يكون الدولة من خلال مؤسسة السينما التي أنتجت خلال عشر سنوات، وهي سنوات الستينات تحديدا. والاثنان، المنتج الفرد ومؤسسة السينما، كان يتملكهما غالبا نفس المنطق وطرق عمل متشابهة. مع تمييز أن مؤسسة السينما لم يكن من المفترض فيها تحقيق الأرباح الضخمة، وأن الهدف الثقافي التنويري كان من ضمن أهدافها. فمن الصعب تخيل صلاح أبو سيف خلال إدارته للمؤسسة يناقش زملاءه من المخرجين حول ما يريدونه من أفلامهم، حتى يقرر إن كانت المؤسسة ستنتجها أم لا.
كانت هذه هي الطريقة التقليدية المتوازية أحيانا مع طريقة أخرى، وهي العلاقة المباشرة بين المنتج والسيناريست، أو علاقة المنتج بالسيناريو عبر نجم أو نجمة لديهم السيناريو ويريدونه أن ينفذ وأن يكونوا أبطاله. وفي هذه الحالة يقوم المنتج باستدعاء المخرج الذي يثق به، أو الذي يراه مناسبا لإخراج الفيلم، ويكلفه به. بالطبع دون إنكار الوجود الدائم للاستثناءات داخل عملية اتخاذ القرار الإنتاجي. لكن الملامح العامة تظل هي السائدة في كل أنواع السينما المقدمة في مصر بشكل عام، سواء كانت أفلاماً مختلفة/بديلة/تصنع لطموحات فنية بالدرجة الأولي، أو الأفلام التي نسميها "تجارية". ولندع جانبا حالة سينما المقاولات، لأنها حالة خاصة داخل السينما التجارية، ولنترك أيضا جانبا تجربة “أفلام مصر العالمية – يوسف شاهين وشركاه” لأنها كانت أيضا حالة إنتاجية وفنية خاصة داخل السينما المسماة بالبديلة/المختلفة/أو صاحبة الطموحات الفنية.
[المخرج المصري صلاح أبو سيف]
الملاحظة الضرورية هنا هي.. أن تعبير السينما التجارية قد تحول إلى سبة في الأوساط السينمائية والمثقفة بالتدريج. في حين أن تاريخ السينما التجارية المصرية مليء بالأفلام المصنوعة بشكل جيد، وعلى درجة عالية من الحرفية، بالرغم من أن هدفها الأساسي كان الربح أو شباك التذاكر. وتحول تعبير "تجاري" ليتحول إلى سبة حدث كتطور طبيعي للعقود الأخيرة من التلقي. حيث لم يعد لدينا أي تنويع في أفلام السينما التجارية، أصبحت مجرد سينما رديئة في مجملها. مع استثناءات قليلة جدا، أغلبها يصنع سريعا، ويعتمد على عدد من التوليفات التجارية المكررة والتي تم إعادة إنتاجها مئات - وربما آلاف - المرات من قبل. ولم يعد الهم الحرفي التقني يقف كهاجس في أي لحظة خلال عملية صناعة هذ النوع من الأفلام. وبما أن الإنتاج الحالي، نتيجة الانهيار المجتمعي والثقافي الشامل، بداية من العقد الثاني لحكم مبارك، في أغلبه شديد الرداءة، فمن الطبيعي أن يكون تعبير السينما التجارية مرادفا للسوء.
بداية من منتصف التسعينات، ومع ظهور قوانين نظام مبارك الجديدة للسينما، والمتعلقة بالشركات الكبيرة والإعفاءات الجمركية والضريبية على أعمالها، وخصخصة أصول السينما وبيع الكثير منها، والتي تزامنت مع بداية طفرة الفضائيات، حدث تحول شديد الأهمية في ميكانيزمات الإنتاج السينمائي المصري. وأؤكد هنا على تجنب استخدام تعبير "صناعة سينما"، لأن الواقع يقول لنا إنه لم يعد لدينا صناعة بمعنى صناعة منذ وقت طويل. في هذه اللحظة التسعينية، ومع القوانين الجديدة، تم إنهاء وجود الكثير من المنتجين الصغار والمتوسطين، تبقى منهم بعض المعافرين (من المعافرة، الإصرار) القليلين جدا، بينما تركزت رؤوس الأموال الخاصة بالإنتاج والتوزيع في يد الشركات الكبيرة، التي احتكرت السوق، وجعلته يقع بالكامل تحت سلطة اثنين أو ثلاثة من المنتجين، يصنعون نفس السينما محدودة الطموح، وقد أغلقوا الباب أمام أي محاولات متلهفة لصنع ما هو مختلف.
كرد فعل على هذا الواقع الجديد، وكمحاولة للهرب من أن يكون المصير هو العمل في الفيديو كليب والإعلانات أو التلفزيون، وكمجاراة لما يحدث في بعض السينمات غير المصرية، تظهر هنا محاولة لتأسيس عدد من الدوائر الشابة تحت عنوان فضفاض وهو "السينما المستقلة"، وتحديدا في بداية حقبة الألفين، كمحاولة لـ "الفلفصة" من هذا الواقع الجديد والقبيح. ولن أناقش هنا هذه المحاولة لسببين، تشككي الدائم في مفهوم "المستقلة"، منذ بداية ظهوره وحتى الآن. بالإضافة إلى أن هذه المحاولات تستحق كتابة منفصلة تماما. لكن هذه المحاولة/التجربة انتهت بعد سنوات قليلة ولم تؤثر فعلا في أكثر من بضعة مئات من مشاهدي شاشات المثقفين في المراكز الثقافية، أو مركز الإبداع بالأوبرا، وبعض المهرجانات التي شطبت علاقتها بالجمهور الواسع. ليكون الحصاد الأخير لها عبارة عن بضعة عشرات من الأفلام، أغلبها أفلام تسجيلية وقصيرة، وبعض الأفلام الطويلة، وإنتاج في أغلبه محدود القيمة.
بعد هذا الانحسار في طرق الإنتاج التقليدية، و"المستقلة"، ما هي منافذ الإنتاج السينمائي الحالي وخلال الخمس عشر سنة الأخيرة؟ في تقديري لا تخرج عن ثلاثة:
أولها بواقي الإنتاج التجاري التقليدي في أسوأ صوره. أن يكون لديك سيناريو به بعض التوليفات الجاذبة للجمهور الواسع في مواسم العرض.. العيدين وإجازة نصف السنة.. إلخ. يوافق عليه منتج من المنتجين القليلين، السيناريو يحمل موافقة نجم أو نجمة – أحيانا يقومون هم باستدعاء السيناريست والمخرج كي يكتب على مقاسهم – والنتيجة فيلم "تيك أواي" مناسب للاستهلاك السريع والنسيان السريع أيضا. وعلى القارئ ألا يغفل أن “التيك أواي” نسبي، وليس له قيم محددة سواء على مستوى وقت الانتاج المتاح، أو على مستوي الميزانية. فيتواجد داخل هذا النوع الإنتاجي أفلام تبدو كبيرة، لكنها في الحقيقة لا تخرج عن نطاق الإنتاج التجاري التقليدي بعد انهياره.
ثانيها هو طريق المعافرة الفردية والأشبه بالتعاونيات المشكلة من صانعي الفيلم، لتنتهي مع نهايته. وهذا النوع من طرق الإنتاج محدود جدا في الحالة المصرية، لكنه قد تحقق في بعض التجارب، عن طريق تعاون فريق الفيلم مع الممثلين - إن كان فيلما روائيا - وفي بعض الأحيان يتم اللجوء إلى ما يمكن تسميته تجاوزا بالتمويل الصديق.. أو "الكرو فاندينج" لجمع بعض الأموال كي يخرج الفيلم للنور، دون أن يتقاضى الأشخاص الأساسيون في عملية صناعة الفيلم أجورهم. فالأجر هنا يتحول إلى حصص في الأرباح، إن وجدت، ونادرا ما توجد.
لكن مشكلة هذا الميكانيزم الإنتاجي هي أنه مهلك للدرجة التي لا يستطيع المخرج أن يحقق أكثر من فيلمين بهذه الطريقة خلال حياته، سواء بسبب الطاقة المهدرة، أو بسبب أن السينمائيين المشاركين هم أيضا بحاجة للعمل فيما يسمى بـ “السوق” كي يتمكنوا من كسب قوتهم.
أما المنفذ الثالث فهو ما يمكن أن نسميه بسينما الدوائر المثقفة المتضامنة مع أعضائها فيما بينهم، ليس عبر التعاونيات، بل عبر صناديق التمويل التي تتحكم فيها بالدرجة الأولى العلاقات ودرجات القبول الشخصي. وهو ما يقدم حاليا باعتباره السينما الفنية/الجيدة/البديلة.. إلى آخر هذه التسميات.
وعلى السينمائي الطموح والراغب في أن يصنع فيلمه أن يختار بين هذه الطرق المتاحة، وهو على علم تام بأن فرصته في إخراج فيلمه ربما تكون الفرصة الوحيدة التي سينالها طيلة حياته. وهو كذلك واع بأن عليه ألا يحاكم نفسه في اللجوء إلى الطريق الذي اختاره، وأن عليه تفهم خيارات الآخرين المختلفة. فالجميع على علم تام بمدى صعوبة إنجاز فيلم سينما في مصر
حاليا، صعوبة تصل أحيانا للاستحالة. وربما يكون الوعي بهذه الحقيقة هو الوعي الأوضح الذي يوحدنا جميعا.