الجزء الثالث
سينما الدوائر المثقفة
ماذا ُيطلب من السينمائي حين يذهب إلى جهة أو صندوق لتمويل الأفلام، أيا كانت نوعية الصندوق أو توجهاته؟ لا ٌيطلب من هذا السينمائي تقديم السيناريو ليتحدث عن ذاته ومقومات جاذبيته سواء الفنية أو التجارية/الجماهيرية. وكذلك لن يتم الاكتفاء بـ"السي في"/المؤهلات التي توضح أنه شخص قادر علي تنفيذ هذا السيناريو. وهي طلبات طبيعية، يضاف إليها الميزانية المبدئية، بالرغم من أن المشروع المقدم يكون في أحيان كثيرة بحاجة للتمويل كي يتم الاتفاق مع مدير إنتاج محترف قادر علي عمل هذه الميزانية، كي لا تكون عبارة عن فانتازيات أو أرقام عشوائية.
وإذا كانت هذه الطلبات منطقية ومقبولة، إلا أن هناك المزيد.. سيطلب منك كسينمائي "التنظير" لفيلمك قبل أن يصنع، عبر عدد من الملفات التي تسأل أسئلة لم توجد من قبل خلال أغلب عقود تاريخ السينما في العالم كله، كسؤال "لماذا تريد أن تصنع هذا الفيلم؟"!! هل تجرؤ هنا على أن تجيب بأنني أريد أن أصنعه كي أعمل، كي أمارس مهنتي التي اخترتها وهي أن أكون مخرجا؟ أو هل بإمكانك الرد بالإجابة البسيطة "لأنني أحب قصة فيلمي وأعتقد أن بها امكانيات لأن تصبح فيلما جيداً؟ هذه الإجابات السابقة رغم منطقيتها وصدقها ليست مقبولة، يجب تجاوزها، وإلحاق الإجابات "الأخرى" بعدد آخر من نصوص التنظير المتعلقة بـ"الجديد" الذي يقدمه الفيلم، والشكل والستايل الفني، وتصورات التوزيع ونوعيات المتفرجين، وإن كان هناك اتفاقات مع مهرجانات، أو خطابات توصية... إلي آخره.
الأخطر بين كل هذه التعقيدات هو هذا المطب الذي من الممكن أن يقع فيه أي سينمائي، وهو التنظير فيما يخص فيلم لم يولد بعد، عقلنته قبل بداية حياته، أو بمعنى آخر أن تلعب دور المخرج والناقد والمحلل المستقبلي لفيلمك!!
أغلب القائمين على القرار – مرة أخرى أغلب وليس كل – في هذه الصناديق التمويلية هم أشخاص ليس لديهم علاقة وثيقة بالسينما أصلا. بعضهم محترفو إدارة مهرجانات، وبعضهم الآخر محترفو صنع ملفات تسويقية، والبعض الثالث من نوعية المحررين الصحفيين للأخبار الفنية الذين قاموا بترقية أنفسهم ذاتيا إلى مرتبة الـ"نقاد"، بالرغم من عدم دراستهم لأي مادة متعلقة بتاريخ الفن الذي ينقدونه، أو طرق صنعه أو لغته، أو تطوراته، أو أي من النظريات الجمالية أو نظريات النقد ومناهجه المتاحة، والبعض الآخير، وهم الأقلية غالبا، من السينمائيين المحترفين.
بسبب هذه العلاقة المحدودة بالسينما، تجد كثيرين منهم يكررون بكل ثقة ما قاله صديقنا طالب الإنتاج الذي تحدثت عنه في المقال الأول، وكان يردد ما قام نجيب محفوظ بالرد عليه منذ خمسة وخمسين عاما، أن كل القصص قد حكيت. وتتضخم المشكلة بسبب هالة المعرفة المزيفة التي اكتسبها مسؤولو الصناديق تجاه السينمائيين، بسبب زيارات الكثير منهم للكثير من المهرجانات السينمائية في أنحاء مختلفة من العالم، فتكتسب آراؤهم قوة، تجعل من السهل تصديقها والتعامل معها وكأنها حقيقة، فهم يعلمون أكثر.
إن كانت كل القصص قد حكيت، وليس لدي الجديد لأحكيه، بماذا أجيب على أسئلة التنظير؟ قبل الإجابة على أسئلة التنظير هناك مأزق سابق وهو أن كثيراً من المخرجين في زمننا لا يثقون أصلا في قصصهم. وهو المآزق الذي له أسباب متعددة، من ضمنها أنهم لم يدرسوا دراما أو سيناريو. وهناك أيضا العامل العام.. أن في مراحل الاضمحلال هناك حالة عامة من البلادة والشك تجاه المنتجات الفنية ذاتها، وتراجع لطاقة الدفاع عن منتج فني مازال في طور التكون. وبما أني غير قادر على الثقة في قصتي، في أوراقي، وأصحاب "الخبرة" يقولون لي أن كل القصص قد حكيت، فليس أمامي سوى البحث عن مناطق ثقة أخري لبيعها، وهنا لن أجد سوى الشكل.
العلاقة بين الشكل والموضوع في الفنون أحد جوانب الصراع النظري تاريخيا، والذي كان حاضرا على الدوام، وفي تقديري لن يختفي أبدا. لكنه صراع ساخن بين الهواة والدارسين والقادمين حديثا للمجالات الفنية المختلفة، بوعي وخبرة محدودتين. فتجد نقاشات طويلة إن كان الشكل/الفورم/البناء سابقين على المضمون، أم أن الموضوع هو ما يفرض شكله، أو عن الصراع الجدلي بينهما. في حين أن المبدعين الكبار في كل الفنون، كلا بمفرده، قد حسم فعليا هذا السؤال وامتلك إجابته الخاصة. نجيب محفوظ يقولها في المقال المشار إليه سابقا بكل بساطة، أن القصة هي التي تفرض شكلها لدي، الشكل هو نتيجة. وهذه الإجابة "المحفوظية" بالطبع ليست قانونا، بالعكس.. فمن المتاح الخلاف معها، والوصول إلى نتائج أخرى، إن قمنا بتغيير اسم المبدع الكبير باسم آخر.
إن كنت تعيش مرحلة تراجع فني وثقافي ومجتمعي، وفقر في القصص والمواضيع، وافتقار لامكانيات الالتحام الحميم بالواقع والحياة ومراقبتهما، فلن تثق في موضوعك ولن تبحث عن كيفية تطويره، ستضطر غالبا للتنظير قليلا حوله، دون الدخول في عمقه، وأن تدفع بطاقات التنظير الأساسية إلى منطقة الشكل. والمآزق هنا هو أن كل السينمائيين أصحاب الخبرة يعلمون أن هناك علاقة طردية بين درجة التنظير وجودة الفيلم، كلما ازدادت درجة تنظيرك لفيلمك، ازدادت درجة رداءة هذا الفيلم. هذه العلاقة الطردية ليست قدرية أو حكماً إلهياً، لكنها علاقة طبيعية تتحقق عادة حين تتم عقلنة كل تفاصيل العمل الفني بشكل مسبق، وتربيطها ببعضها البعض على الورق، وقبل الوقت المناسب لاتخاذ القرارات الهامة. فعلي سبيل المثال من المفترض أن أهم القرارات البصرية المتعلقة بفيلم سينمائي يتم اتخاذها بين المخرج ومديري الفرق الأساسية في الفيلم.. الإنتاج والتصوير والديكور، خلال دراسة السيناريو والمعاينات. وليس في ورقة يكتبها مخرج يطلب تمويلا لفيلمه، وربما لا يعلم أثناء كتابة هذه الورقة من سيكون مديرو هذه الفرق. هذه العملية التنظيرية قادرة على إفساد الفيلم وإن كان جيدا، وإخراجه كمجموعة من العمليات الحسابية أو العقلانية الباردة أو الميتة، التي لا صلة بينها وبين المشاعر والحياة وانفعالاتنا كشخصيات فيلمية، أو انفعالاتنا كجمهور.
هناك أفلام يتم إنقاذها خلال هذه العملية التمويلية/التنظيرية، وتخرج على درجة عالية من الجودة، وتقترب من الحياة حقيقة وتحمل رائحتها وتعكسها بشكل فني أصيل. لكنها استثناءات تتحقق مع مخرجين علي درجة عالية من الحرفية والصلابة ووضوح الرؤية والثقة في قصصهم، فيتمكنون من المرور بأفلامهم محافظين عليها من تخريب التنظير، ومن تخريب مرحلة تتطلب من المخرجين أن يكون لديهم مهارات مثل إعداد الملفات الأنيقة والمغرية، القدرة علي التنظير بسلاسة، معرفة اللغات، القدرة علي عمل شبكة واسعة من العلاقات العامة، والقدرة علي الدفاع عن الفيلم الذي لم يصنع بعد أمام جمهور من المفترض فيه الاحترافية، جمهور سينقض عليك عند أول هفوة خلال عمليات "البيتشنج" التي تشترطها بعض الصناديق وأسواق الأفلام التي يتم تنظيمها في سياق المهرجانات. وكلها مهارات لا علاقة لها بالمهارات الأساسية التي يجب توافرها في المخرج الجيد
كان المخرجون سابقا يتجنبون الحديث مع الصحافة، أو مع المقربين، عن أفلامهم قبل صنعها أو خلال مراحل صنعها. لم يكن هذا الكتمان فقط لإثارة التشويق تجاه الفيلم الذي هو في مرحلة الخلق، ولم يكن أيضا بمنطق "داري علي شمعتك تقيد" وإن وجد، بل كان في الأساس كتمانا لتجنب فقدان صانع الفيلم لإحساسه الخاص بفيلمه عبر الحديث كثيرا وخلال فترات زمنية طويلة عنه.. ما يود حكيه، كيف يقوم بتصويره، كيف يراه.. إلخ. وبالتالي استهلاكه وجدانيا. ولنا أن نتخيل هنا الواقع الحالي النقيض، المتمثل في رحلات المخرجين عبر عدد من السنوات أمام لجان "المناقشة" في المهرجانات والأسواق السينمائية، وفي كل مرة تعرض تفاصيل فيلمك، يعطونك نصائح وتوجيهات، وإن أردت تمويلهم فعليك التعامل مع ما يقولونه بجدية. لا تجدي هنا نصيحة "ودن من طين وودن من عجين".
هذه الممارسة نفسها تضيف خطرا جديدا يلاحق المنتج الفني في طور التشكل، وليس فقط بسبب خطورة استهلاكه وجدانيا، أو ظهوره كمجموعة معادلات ميتة، بل أيضا لأن الرغبة في تغطية تكاليف الفيلم، أو جزء كبير منها، تدفع المخرج أحيانا إلى "النصب".
ربما يكون تعبير "النصب" قاسيا بعض الشئ، لكنه الأدق للإشارة إلى ما أعنيه، وهو ادعاء وجود عناصر في الفيلم لا توجد به أصلا، ومحاولة تلفيقها فنيا فيما بعد، كي تبدو وكأنها منسجمة سويا، لإرضاء عدد من جهات التمويل مختلفة التوجهات، فهم ساهموا في تمويل فيلم كما تتصوره وتراه كل جهة منهم، ومن الممكن ألا يكون هو نفس الفيلم الذي كان يحتل خيال مخرجه. فنجدنا بصدد عملية قص ولزق أو كولاج لعدد من العناصر الفنية التي من المحتمل ألا يوجد بينها أي هارموني، وتؤدي أحيانا إلى عملية تطويل مفتعلة لفيلم يبدو مناسبا كفيلم قصير، فيتحول بقدرة قادر إلي فيلم طويل مع الكثير من الصمت، والأفعال المكررة، والفصول المختلفة التي تتناول مواضيع متباينة أو بها ألعاب شكلانية متنوعة.. على أمل أن يرضي الجميع، وكي يتم تبرير التمويل الذي تم جنيه.
ربما يكون هذا النوع من النصب الفني هو الأقل ضررا، لأنه نصب يقوم به الفنان تجاه نفسه وتجاه فريقه وتجاه مشروعه، ولا يؤثر مباشرة علي الجمهور. فهذا الجمهور يستطيع أن يرفض الفيلم أو يمتنع عن مشاهدته. لكن النصب الأخطر هو النصب على الجمهور نفسه، بأختام ولوجوهات جهات التمويل التي تزين بدايات الأفلام باعتبارها علامة جودة. أو النصب علي الجمهور، الذي لا يملك بين يديه تاريخ السينما حاضرا ليراجعه إن أحب، فيذهب لمشاهدة فيلمك منساقا وراء جمل من نوعية "أول فيلم يعرض واقع الفئة الاجتماعية الفلانية".. "الفيلم الذي يكسر لأول مرة التمييز الذي مارسته السينما المصرية تجاه.......”.. "أول فيلم مصنوع بكاميرا الموبيل".. “اقتراب جديد من الفيلم الصوفي الاجتماعي.....”.. إلخ. والمتفرج العادي سيصفق مبهورا، لأنه لا يعرف أن هناك الآلاف من الأفلام المصرية وغير المصرية التي تم صنعها قبلا على هذا الطريق الذي يقولون عنه أنه جديد وأنهم أول من يطرقونه ويمهدونه، أو هو غير قادر علي كشف خواء كثير من المصطلحات المركبة التي لا تعني شيئا.