[نشر هذا المقال للمرة الأولى على جدلية باللغة الإنجليزية. قام بترجمته إلى العربية أسامة إسبر.]
تسقط بس
لأكثر من شهرين، وبزخم متصاعد، تواصلت احتجاجاتٌ واسعة النطاق دعتْ إلى تنحي الرئيس عمر البشير وتمهيد الطريق لمرحلة انتقالية تؤدي إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب. ولم يكن مفاجئاً، كما حدث في احتجاجات مشابهة في الماضي، لجوء نظام البشير إلى الحل العسكري لاطفاء جذوة الاحتجاجات، ونشر الشرطة وقوى الأمن ضد المتظاهرين السلميين في الخرطوم وأنحاء البلاد. وفي وقت كتابة هذه السطور، قُتل أكثر من ستين شخصاً، قضى كثير منهم تحت التعذيب في ”بيوت الأشباح“. وما يزال أكثر من ألفي ناشط معارض للحكومة في غياهب السجون على الرغم من إصرار النظام المتكرر أنه ينوي إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
أعلنت الحكومة مراراً أن الاحتجاجات صغيرة نسبياً وتأثيرها محدود على النظام، أو أن المظاهرات يرعاها مخربون، وقطاع طرق، أو ”عناصر أجنبية“. وعلى الرغم من مزاعم كهذه، أحدثت الانتفاضة الشعبية تغيرات أساسية في سياسة النظام، وقوضت أيضاً وبوضوح حكم عمر البشير بطرق هددت بإسقاط حكمه الاستبدادي الذي يرزح منذ ثلاثين عاماً. وفي الأسبوع الماضي، وفي أعقاب مظاهرات متواصلة ومتصاعدة، وإضرابات واعتصامات شملتْ المجتمع المدني السوداني، أُجبر البشير على تأجيل تعديلات دستورية كانت ستسمح له بالترشح لولاية رئاسية ثالثة. وأعلن أيضاً حالة الطوارئ في الخرطوم، وحل الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات وعين محلهم ضباطاً كباراً من الجيش في محاولة يائسة للاحتفاظ بسلطته. على أي حال، يبدو أن سياسات التهدئة والقمع شدّت من أزر المحتجين المعارضين للحكومة أكثر. وكان من الواضح أن إعلان حالة الطوارئ يهدف إلى منح القوى الأمنية الضوء الأخضر كي تستخدم عنفاً أكبر ضد المحتجين، وأن تزيد من تقييد الحركات السياسية والمدنية، والهجوم أكثر على الناشطين وأحزاب المعارضة السياسية. وعلى الفور بعد إعلان البشير لحالة الطوارئ عاد المحتجون إلى الشوارع في أكثر من خمسين حارة في أنحاء البلاد، وخاصة في الخرطوم وأم درمان. ودعا المتظاهرون مرة ثانية إلى إسقاط البشير. ورددوا بين شعارات أخرى، إحدى اللازمات الرافضة للمساومة والأكثر شعبية في الانتفاضة الحالية: ”تسقط بس“.
”الأطراف“ كمُحَفِّز للانتفاضة
نشبت الاحتجاجات الأخيرة في 19 كانون الثاني 2018 في مدينة الطبقة العاملة عطبرة في ولاية نهر النيل، والتي تبعد تقريباً مائتي ميل إلى الشمال من الخرطوم. وقد انقدحت شرارتها بسبب زيادة بلغت ثلاثة أضعاف في سعر الخبز وبدأت باحتجاجات قادها طلاب مدرسة ثانوية، انضم إليهم بسرعة آلاف المقيمين في مدينة عطبرة. وفي غضون أيام، توسعت المظاهرات المعارضة للحكومة في سلسلة واسعة من المدن والبلدات في أنحاء الإقليم الشمالي وفي العاصمة الخرطوم. وردد المتظاهرون شعارات مثل ”الشعب يريد إسقاط النظام“ )والتي ألهمتها الانتفاضات العربية في 2010 و2011 في تونس( ثم سرعان ما وسّعوا مطالبهم بطرق عكست مظالم سياسية واقتصادية متأصلة وواسعة النطاق سببها نظام عمر البشير وحكمه الذي استمر ثلاثين عاماً وحزبه الحاكم، حزب المؤتمر الوطني. وعلى الرغم من حقيقة أن المظالم السياسية والمطالب هي الآن في واجهة الانتفاضة، إلا أنه من المؤكد تقريباً أن هذه الاحتجاجات سببتها في البداية مظالم سياسية تعود إلى عواقب انفصال جنوب السودان في 2011. وكما هو ملاحظ الآن على نطاق واسع، قاد هذا إلى فقدان الخرطوم 75٪ من عائدات النفط بما أن ثلثي الموارد النفطية في الجنوب، وبالتالي خسرت تقريباً 60٪ من ريعها من العملة الأجنبية. ونتيجة لهذا، طبق نظام البشير إجراءات تقشف في بداية 2012 أدت إلى احتجاجات مشابهة مضادة للتقشف في ذلك الوقت، على الرغم من أن معظمها كان متركزاً في الخرطوم ولهذا كانت أكثر مركزية من الاحتجاجات الحالية. وعلى نحو مشابه، كان أحد العوامل الرئيسية هو تطبيق إجراءات تقشف مدعومة من صندوق النقد الدولي قادت إلى رفع الدعم عن الخبز والوقود مما سبب بسرعة أولى المظاهرات في 19 كانون الأول 2018. وما يجب التشديد عليه نظراً لأهميته هو أن هذه الاحتجاجات لم تكن مجرد معارضة لإجراءات التقشف الاقتصاد، بل كانت جوهرياً نتيجة معارضة مفهومة على نطاق واسع لعقود من الفساد المتفشي بما فيه سياسات ”الخصخصة“ التي حولت الأرصدة والثروة إلى داعمي النظام، وسرقة الذهب وكذلك بلايين الدولارات من الأرباح من فترة ازدهار النفط في البلاد.
نموذج جديد للتعبئة والاحتجاج
كما حدث في مدن الأطراف، بدأت الاحتجاجات في الخرطوم أيضاً بسبب أزمة سياسية عميقة مرتبطة بارتفاع أسعار الوقود والخبز وكذلك أزمة سيولة مالية حادة. لكن هذه المطالب تطورت بسرعة إلى دعوات لإسقاط البشير. وما هو مهم في هذا السياق هو أن التجمع المهني السوداني الذي كان له قصب السبق في تنظيم وتحديد مواعيد الاحتجاجات، سار في البداية إلى البرلمان في الخرطوم في أواخر كانون الأول مطالباً بزيادة في أجور عاملي القطاع العام وشرعنة النقابات العمالية والمهنية. على أي حال، بعد أن استخدمت قوى الأمن العنف ضد المحتجين السلميين، تصاعدت هذه المطالب بسرعة إلى دعوة لإسقاط حزب المؤتمر الحاكم، والتحول البنيوي للحوكمة في السودان، والانتقال إلى الديمقراطية.
تشبه هذه المطالب تلك التي نادت بها احتجاجات شعبية سابقة ضد النظام في 2011 و2012 و2013. وما هو أكثر لفتاً للانتباه حيال هذه الاحتجاجات هو أنها غير مسبوقة من ناحية استمراريتها وديمومتها (دخلتْ الآن شهرها الثالث)، وانتشارها الجغرافي في البلاد كلها، والتحالف الملحوظ بين المجموعات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة السياسية التي انضمت. وما يعادل هذا في الأهمية، هو تنسيق هذه المظاهرات الذي اتبع سيرورة متواصلة إبداعية وجديدة بشكل لافت. ومن المهم التشديد على ذلك لأنه يظهر بوضوح أنه، تماماً كما قام نظام عمر البشير الدكتاتوري بإضعاف المعارضة من أجل منع أي تهديد لنظامه من خلال تفكيك النقابات العمالية، وتأسيس سلسلة واسعة من الميلشيات شبه العسكرية المرتبطة بالدولة، وقمع المعارضة المسلحة والناشطين المعارضين للحكومة في المجتمع المدني، تعلم المتظاهرون أيضاً من الاحتجاجات الفاشلة المعارضة للنظام التي جرت في الماضي. وبقيادة تجمع المهنيين السودانيين المشكل حديثاً، تم تنسيق الاحتجاجات الحالية وجدولة مواعيدها وتصميمها استراتيجياً كي تؤكد الاستمرارية الزمنية بدلاً من مجرد العددية، وكي تنتشر عبر الطبقة الوسطى والعمالية والحارات الفقيرة، وتنسّق مع المحتجين في مناطق نائية عن الخرطوم بما فيه الولاية الشرقية على البحر الأحمر، ودارفور إلى الغرب البعيد في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، إن الشعارات التي عززها واستخدمها المحتجون صيغت أيضاً بشكل هادف كي تعبر عن مظالم طيف واسع من السودانيين وليس فقط الطبقة الوسطى والنخب الإثنية والسياسية المتركزة في الخرطوم والأقاليم الشمالية. وصيغت هذه الشعارات بطرق مصممة لتعبئة الدعم عبر الفئات الإثنية والعرقية مؤكدة على أن الطريق الوحيد إلى الأمام هو إسقاط عمر البشير والنظام الحاكم. وبفعلها لهذا، شددت على المستوى المتوطن وغير المسبوق من فساد النظام وحلفائه وعقود انتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين في البلاد على يد قوى الأمن، وفي الحروب الوحشية التي شنها النظام في دارفور، وولاية النيل الأزرق على حدود جنوب السودان، وجبال النوبة في جنوب كردفان.
وفي الحقيقة، ربما كان أحد المظاهر الأكثر بروزاً لهذه الاحتجاجات، والذي ميزها بشكل كبير عن الانتفاضات السابقة ليس فقط مجرد وزنها المناطقي بل المستوى العالي غير المسبوق من التضامن عبر الخطوط الطبقية في البلاد. إذ لم يقم الناشطون الشباب وأعضاء التجمعات المهنية بتحدي الخطاب السياسي للدولة فقط، بل لعبوا أيضاً دوراً مهماً في هندسة تحالفات عابرة للطبقات في سياق هذه المظاهرات. وفي الأسبوع الماضي، تم التوقف عن العمل، والإضرابات عن العمل، والاعتصامات لا في الجامعات والمدارس الثانوية فحسب بل أيضاً بين موظفي القطاع الخاص والعام والعمال. ومن الأمثلة الأكثر أهمية الإضرابات المتواصلة لميناء السودان على البحر الأحمر والتي طالبت بإلغاء بيع الميناء الجنوبي لشركة أجنبية وتمت عدة إضرابات عن العمل ونشبت احتجاجات قادها موظفو أهم الشركات المزودة لخدمة الاتصالات وشركات خاصة أخرى في البلاد.
سيناريوهات:
احتمالات انتقال سلمي إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب
إن احتمال أن تقود الانتفاضة إلى انتقال ديمقراطي تعادله في الأهمية الطبيعة الناشئة وبالغة التعقيد لمطالب المتظاهرين فيما تتواصل الاحتجاجات دون توقف. كانت الأهداف الأولية للمتظاهرين هي مجرد الإطاحة بعمر البشير ونظامه. لكن مستوى المظالم والغضب بين السكان جعل هذا الأولوية الأكثر أهمية في بداية الاحتجاجات. على أي حال، وبعد أن أصبح تنسيق هذه الاحتجاجات أكثر تعقيداً بشكل متزايد، وخاصة تحت قيادة التجمع المهني السوداني فإن أهداف غالبية المحتجين الآن ليست إنهاء نظام عمر البشير الدكتاتوري فحسب (والذي يبقى أولوية) بل أيضاً تحضير وتمهيد الطريق لفترة انتقالية تتألف من أربع سنوات تؤدي إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب في البلاد. وفي هذه اللحظة ينخرط الناشطون السودانيون وحزب المعارضة السياسية وقطاع واسع من منظمات المجتمع المدني في مناقشة سيناريوهات متنوعة محتملة بما فيه احتمال أن تقف القوات السودانية المسلحة إلى جانب الاحتجاجات وتشرف على الانتقال الديمقراطي كما في الماضي، وانقلاب داخلي في القوات المسلحة يقوي الحكم الاستبدادي بقيادة جديدة، أو انهيار المركز وتفكك الدولة كما حصل في ليبيا والصومال. وفي النهاية، ستعتمد نتيجة هذه الاحتجاجات، على نحو غير مفاجئ، على التحالف المتواصل بين المحتجين والمتظاهرين ومواصلة الاحتجاج، وسلطة وقوة الاستخبارات الوطنية والقوى الأمنية والميليشيات شبه العسكرية، ومدى دعم القوى الخارجية الإقليمية، خاصة في المنطقة، للنظام في الخرطوم خوفاً من تقوض مصالحها الإقليمية بعد إسقاط البشير من السلطة.
إن التوازن بين الأنشطة المحلية المعارضة للحكومة ومنظمات المجتمع المدني، وبين جهاز أمن الدولة والرعاية الخارجية هو بالطبع جوهري للخروج بأية سيناريوهات في المستقبل ومعروف جيداً. وما يهمنا هنا هو أفعال البشير مؤخراً والتي بينت أن المظاهرات غيرت ديناميات النظام الداخلية وحساباته. ونتيجة لتصاعد الاحتجاجات في المناطق، سافر البشير إلى مناطق لم يزرها أبداً من قبل، ونتيجة لاحتجاجات ضد التعذيب والعنف المتواصلين ضد المتظاهرين، قام ببعض العروض الفاترة مثل إطلاق سراح بعض السجناء السياسيين، وفيما تواصلت الاحتجاجات دون توقف، اقترح المؤيدون داخل برلمانه مؤخراً جداً أن يعلن رسمياً أنه لن يغير الدستور ويترشح لولاية رئاسية ثالثة. ومن المؤكد تقريباً بأن هذا يعكس وجهة نظر البعض في بطانته الداخلية للتوصل إلى مخرج للبشير بطرق تهدىء الاحتجاجات والإضرابات عن العمل وإضرابات العمال والاعتصامات التي حولت الآن الاحتجاجات من ما دعي ب“احتجاجات شارع“ إلى حركة اجتماعية بدلت المشهد السياسي والثقافي السوداني لعقود قادمة. وكان محورياً لهذا التبدل النقد الحاد ومقت الناشطين للمشروع الإسلامي لحزب البشير الحاكم حزب المؤتمر الوطني وداعميه الإسلاميين الذي جعل نظام البشير في أعين معظم السودانيين مجرد طغمة حاكمة تتألف من تجار الدين. وتفيد التقارير بأن المعارضة واسعة النطاق للنظام توسعت إلى درجة أن وزارة للبشير أقرت أن المعارضة الآن في ”جميع المنازل“، ناهيك عن ذكر كثير من المساجد في الخرطوم وفي أنحاء البلاد. وفي أثناء كتابتي لهذه السطور، ظهرت انقسامات عميقة داخل النظام نفسه. ففي صباح 22 شباط أعلن الرئيس القوي لأجهزة الاستخبارات والأمن الوطني السوداني صلاح قوش أن البشير سيتنحى من منصبه كرئيس لحزب المؤتمر الوطني الحاكم ولن يتم تعديل الدستور من أجل إعادة انتخابه في 2020. لكن في خطاب متلفز فيما بعد في المساء نفسه، ناقض البشير تصريحات رئيسه الأمني وأكد أنه بينما سيؤجل التصويت في البرلمان على تعديل الدستور سيبقى رئيساً للدولة، وأعلن حالة الطوارئ لمدة عام واحد. ومن المؤكد تقريباً أن هذه المظاهرات سجلت نجاحاً ملحوظاً بطرق كان قلة سيتنبأون بها قبل 19 كانون الأول. إذ حدث تنشيط ملحوظ للمجتمع المدني في السودان رغم عقود الحكم الاستبدادي وسياسة التقسيم عبر الخطوط الإثنية والعرقية والطبقية. لكننا يجب أن نكون دقيقين حيال هذه المسألة. لم يكن الأمر مجرد ظهور مجتمع مدني قوي بمعنى يكتنفه الغموض بل حدث بالأحرى تنشيط للنقابات العمالية والمهنية في وقت كان الجميع سيتنبأون فيه بنهايتها ويؤكدونها. يجب ألا يغيب عن انتباهنا أيضاً التمكين اللافت لحراك الشباب واستخدامهم للإعلام الاجتماعي للمساعدة في تنسيق المظاهرات عبر الخطوط الطبقية والإقليمية والعرقية بدلاً من التعبير ببساطة عن حساسية طبقة وسطى ونخبوية وسياسية ضيقة، وكان هذا نقد تم توجيهه إلى حراك الشباب في أنحاء المنطقة. إن شجاعة وجرأة الناشطين الشباب في السودان والمنطقة لا يعتريهما شك. وما نراه في السودان هو إضافة إلى هذا العرض من الشجاعة اللافتة في التنسيق الوثيق بين الناشطين عبر الحملات المتكررة في حارات الطبقات الوسطى والعمالية لدعم الريف، وحدث تعاون لافت بين الجنسين عزز التبدل السياسي والثقافي الذي أنجزته المظاهرات. وحين دعا البشير مؤخراً، معترفاً بالدور البارز للنساء في المظاهرات، إلى تغيرات في قانون النظام العام الذي أساء للنساء السودانيات وحط من قدرهن لعقود، أجابت الناشطات النسويات على الفور أن صراعهن لا يتمحور فقط حول قانون النظام العام، بل يركز على إسقاط نظام استبدادي والعمل على توسيع الحريات المدنية والسياسية لجميع السودانيين.
إن الانتشار الواسع للانتفاضة السودانية واستمرايتها غير مسبوقين في تاريخ البلاد. كما أن التنسيق والصلات التي عقدتها التجمعات المهنية الرسمية ونقابات العمال ومنظمات المجتمع المدني والناشطين الشبان مع الشرائح الشعبية والعمالية في الاقتصاد غير الرسمي (الذين هم جوهرياً عمال في الاقتصاد غير الرسمي) من الأسباب الأكثر أهمية لاستمرارية الاحتجاجات. ذلك أن النجاح في التنظيم عبر الطيف الاجتماعي الرسمي وغير الرسمي هو الذي مد في عمر الاحتجاجات. ولم تكن فكرة انخراط النقابات العمالية والمهنية مع الناشطين في الشوارع والعمال في الاقتصاد غير الرسمي قابلة للتصور أو التمكين من قبل كثير من الفاعلين السياسيين الذين انخرطوا في احتجاجات شعبية سابقة. لكن هذا التطور لعب دوراً أساسياً في استمرار الاحتجاجات وفي تقويض نظام البشير بطرق لم يكن ممكناً التنبؤ بها بسهولة حين نشبت الانتفاضة في البداية في عطبرة، مدينة الحديد والنار في ولاية نهر النيل.
وبعد إعلان حالة الطوارئ وحل حكومة الوفاق الوطني وحكومة الولايات عيّن البشير ضباط أمن وضباطاً من الجيش كحكام لولايات البلاد الثماني عشر. ومؤخراً جداً، استقال البشير من حزب المؤتمر الوطني الحاكم وعيّن حليفه الوثيق أحمد هارون نائباً لرئيس الحزب. وهارون المدان مثل البشير بجرائم حرب في دارفور أعلن حواراً وطنياً مع المعارضة. وهذا تكتيك شفاف يُستخدم كثيراً للحفاظ على حكم حزب المؤتمر الوطني والقيام باسترضاء شرائح من المعارضة. إن محاولة القيام بالحوار الوطني لا تهدف إلى استرضاء المعارضة فحسب، بل أيضاً إلى حماية من السيناريو المحتمل (والأكثر تهديداً) وهو أن تصف شرائح متوسطة الرتبة من الجيش في النهاية مع المحتجين، وتطيح بالبشير وحزب المؤتمر الوطني، ثم تشرف على انتقال إلى نظام حكم جديد.
يحافظ نظام البشير على حكمه من خلال مزيج من القمع وتقسيم المعارضة وبالتالي استرضاء قيادات رئيسية من الأحزاب السياسية التقليدية. وبفعله لهذا، يحاول أن يحمي نفسه من وقوف الجيش مع المحتجين، والإطاحة بالبشير وحزب المؤتمر الوطني والإشراف على تحول إلى نظام حكم جديد. ويواصل النظام تشديده أن المظالم التي أدت إلى الاحتجاجات اقتصادية وليست سياسية، وأنه يعوّل على كبح التضخم المتزايد وجذب الاستثمار والمساعدة الأجنبية في غضون العام القادم. وبشكل أكثر تحديداً، يعوّل البشير على بناء روابطه مع جوبا (جمهورية جنوب السودان) من أجل أن يبدأ من جديد بإنتاج النفط في البلاد. ويأمل أن يؤمن عائدات جديدة من أجور الترانزيت وخط الأنابيب وفق ترتيبات موجودة لوقف تدهور الجنيه السوداني وتمويل شبكات المحسوبية التابعة للنظام.