سينما لن تمنحك المتعة، لكنك ستمنحها التقدير
بالعودة إلى نجيب محفوظ، وفي سياق رده على ادعاء أن كل القصص قد حكيت، يقول عن الروائي الفرنسي "آلن روب جرييه": "أنه يصف الأشياء العادية وصفا مسهبا وكأنه عالم طبيعة وقع على حفرية نادرة، فأجرى عليها دراسة وصفية شاملة. إنه يصف مثلا أكرة باب أو نافذة في عدد كبير من الصفحات في دقة وإسهاب تبعث على الملل، بل وعلى أكثر من الملل، لدرجة أن كثرة التفاصيل غير الهامة تحير القارئ في المعني الذي يرمي إليه الكاتب".
على الأغلب لم يشاهد نجيب محفوظ الأفلام التي ظهرت كموضة خلال بداية حقبة الألفين، ومستمرة كموضة حتى الآن، وبالذات في مجال السينما التسجيلية ونوع السينما الروائية التي تستعير أدوات واستراتيجيات الفيلم التسجيلي، وتقدم حالة شبيهة بتلك التي يصفها بخصوص الكاتب الفرنسي، الذي كان من المهللين لموت الرواية، حيث أن هذه الأفلام انتشرت بعد محاولة اغتياله ودخوله في عزلته الأخيرة.
المقصود هنا ليس فقط الأفلام الطويلة أو متوسطة الطول التي يصنعها عادة بعض الأوروبيين والأمريكيين الشماليين عن مجموعات إثنية في بعض مناطق الغابات في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، باعتبار أن هؤلاء البشر حيوانات غريبة في غابة. هذه الأفلام هي مجرد أفلام تحمل أفكارا عنصرية وكولونيالية، وبعض صانعيها لا يدركون هذه الحقيقة عن أفلامهم، لأنهم لم يطرحوا على ذواتهم سؤالين جوهريين لصنع فيلم.. "ماذا أريد أن أحكي؟"، و"ما نوع العلاقة التي أود أن أخلقها بين المتفرج وبين الشخصية أو الشيء اللذين يتم تناولهما؟". وهما السؤالان، اللذان في حالة الإجابة عليهما بوعي، يجعلان كل الإجابات على كل الأسئلة اللاحقة، سواء كانت أسئلة متعلقة بالشكل أو المضمون، تأتي بسهولة وباتساق مع إجابة السؤالين الأساسيين. هذه الأفلام تجعل المشاهد المطلع يتمنى أحيانا أن يحدث ما هو مستحيل التحقق.. أن توضع على مداخل قارتي أفريقيا وأمريكا اللاتينية يافطة تشير إلى "ممنوع دخول الرجل الأبيض مادام يحمل الكاميرا".
لكن الأفلام المقصودة أكثر هي تلك الأفلام التي تأثرت بحكمة خلافية أبدعها الرجل الأبيض نفسه، ومفادها "العقل يسجل ماهو متخيل، ماهو روائي، ما هو غير حقيقي.. أما الكاميرا فتسجل الحقيقة". هذه الحكمة الخلافية ليست بعيدة تماما عن هذه الموجة من أفلام المراقبة المستمرة للبشر، الذين يحاولون تمثيل أنهم لا يلاحظون وجود الكاميرا، وتتم إدارتهم كي يقوموا بتمثيل حياتهم الحقيقية، ولكن دون أن يفعلوا شيئا، دون أن توجد أحداث درامية حقيقية، أي دون قصص. مجرد كاميرا متلصصة ترصد برتابة وبملل ما "لا" يحدث أمامها. تقدمه باعتباره الحقيقة، وعلى ذهنك – إن عدنا للحكمة البيضاء – أن ينسج ويتخيل ما يتمناه من قصص.
هي أفلام لا تحقق لمشاهديها أي متعة، لكنهم مضطرون للتصفيق لها، بسبب سطوتها المثقفاتية والمهرجاناتية. وكثيرا ما نجد حولها عملية تنظير على التنظير، أي بعض النخب السينمائية التي تسوقها باعتبارها دراسة سينمائية لما يسمونه بـ "الغابة البشرية”. “الغابة البشرية"!! مصطلح يدفعك إلى أن تشاهد الشخصيات التي تحتل الشاشة باعتبارها حيوانات غريبة، في مجتمعات غريبة هي محل للدراسة وللرصد وللتلصص، وليس التفاعل. حيوانات وليسوا بشرا لهم دوافعهم التي تقف وراء الأفعال التي يقومون بها. وبخصوص الأفعال، فأن أي فعل ولو شديد التفاهة أو محدود الأهمية ستقوم به هذه الشخصيات المتواجدة أمام الكاميرا ينبغي عليك أن تراه وكأنه فعل ذو طاقة درامية عظيمة ومتفجرة.
ومثلما كان الكاتب الفرنسي ليس لديه ما يحكيه – بناء علي نجيب محفوظ – فإن صانعي هذه الأفلام غالبا ليس لديهم أيضا ما يحكونه، أو أنهم لم يطوروا قصصهم كما يجب، أو هم واعون بجوانب ضعفها.. فنغرق في ساعة ونصف من الصمت، والأفعال المتكررة، دون أي فعل درامي حقيقي، فعل قادر علي دفع القصة للأمام وتطوير حبكتها، فنكتفي بغرائبية البشر، وبهذا الحاجز من الزجاج البارد الذي يفصلنا عنهم، ويمنعنا من أن نشعر بهم.
وسؤال المتعة ليس سؤالا تافها، ولم يكن أبدا حكرا على السينما التجارية، بل هو سؤال في غاية الأهمية. فالمتعة هي أحد شروط الفن، أن يمنحني العمل الفني أي نوع من أنواع المتعة، ولا أقول التسلية. والمتعة من الممكن أن تكون أن يحاورني صانع الفيلم عقليا بندية واحترام، فيجعلني أرى ما لم أراه من قبل، أو أعيد اكتشاف ما أراه يوميا، بشكل جديد وبانفعالات جديدة.
هذه السينما المملة التي تفتقد للمتعة، وبسبب هذه الحالة العدمية من افتقاد الثقة في القصص والأشخاص الحقيقيين الذين نقابلهم يوميا، وافتقاد الثقة تجاه العالم القبيح المحيط بنا، ورفضه بسلبية أو بنزوع عدمي.. لا تملك إلا أن تقدم شخصيات فاترة في عالم فاتر ورمادي، لن تنفعل بها، ولن تشعر تجاهها بأي مشاعر، فيما عدا مشاعر النفور أحيانا، ولننسى طموحات "التوحد معها"، والتي من المفترض أنها من شروط الدراما كلاسيكياً.
وبالرغم من احتمالية أن نجد المخرج في سياق تنظيره يدعي أنه يريد لنا أن نفهم شخصياته ونتعاطف معها ونحبها، لكن.. هل تحب من تراهم رماديا وهم لا يفعلون شيئا؟ معادلة صعبة التحقق، لأن الفعل هو شرط الفهم والقرب والمشاعر والتعاطف، وهي عناصر تحقق نوعا من أنواع المتعة.
لكن باب التنظير قد ُفتح علي آخره، فربما نجد مخرجين لديهم الشجاعة كي يقولوا لنا أن هذا الملل، هذه البرودة، هذا الافتقاد للمتعة هو شكل فني جديد. أي نفس التنظير في الشكل، الذي يستخدم الضوضاء الشكلانية/التقنية كقنابل دخان للتغطية علي الجوهر. الجوهر الذي من الممكن تلخيصه حقيقة في "ليس لدي قصة لأحكيها". أو كانت لدي قصة تم تخريبها عبر محطات البحث عن قرشين هنا وقرشين من هناك.
[المخرج التشيلي ميغيل ليتين]
على سبيل الختام.. لم نعد موضة
تحدث بعض السينمائيين من المترددين عن كثير من مهرجانات السينما في أوروبا، والتي تمنح تمويلات لأفلام عبر أسواقها ومسابقاتها للمشاريع في مرحلة التطوير، أن أي مشروع كان يقدم لهذه المهرجانات عن مصر الثورة، خلال عام ٢٠١١، كان يحصل غالبا على التمويل. في نهاية هذا العام نفسه، وبداية ٢٠١٢، تحول الترحيب بالمشاريع المتعلقة بـ "مصر الثورة" إلى سؤال جديد: "مصر خلاص. عندكوا حاجة عن سوريا؟"
انتهت موضتنا تماما، وانتهت أيضا المخارج التقليدية للمخرجين الطامحين في فعل ما هو بديل، وتم حصارنا في واقع بائس مكون من عدد من الدوائر التي تحاصر هؤلاء المخرجين. منها دوائر تتعلق بالذوق العام، المحدود جدا في تقديري. ودوائر التراث المسلسلاتي العربي والذوق الذي تفرضه استهلاكيا. ودوائر الرقابة وسيطرة الأمن والمخابرات على كل مراحل الانتاج الفني والثقافي وبشكل شديد الإحكام. ودوائر فقر المجال السينمائي من المنتجين الجادين والقادرين على المغامرة في مشروع فيلم يرون فيه امكانيات أن يصبح فيلما جيدا. ودوائر السينما التجارية في أسوأ صورها. ودوائر الإحباط والاكتئاب والانسحاب الطبيعيين بعد هزيمة مشاريع التغيير الاجتماعي والسياسي الكبرى. ودوائر متخذي قرارات التمويل الذين يريدون سينما لا تثق في السينما أو لا تعرفها أساساً.
قام صديق سينمائي بقراءة واحدة من مسودات هذا النص الطويل، الذي نشر هنا على هيئة أربعة مقالات، فقدم عدداً من الملاحظات الهامة، وانتقد هذه الخاتمة لأنها تفتقد للتفاؤل. وعدته بأنني سأعيد النظر بها، لكن الوعد لم يكن صادقا، لعدم معرفتي كيف أصنع خاتمة تفاؤلية لنص يحاول رصد واقع قبيح وصعب. لكن الحل أتى بالصدفة، فخلال الأيام التي كنت أكتب خلالها هذا النص، أتركه وأعود إليه، شاهدت فيلم من تشيلي، تسجيلي طويل مكون من بضعة أجزاء، الفيلم من إنتاج عام ١٩٨٥، بعنوان "محضر عام لتشيلي" قام بإخراجه واحد من أهم مخرجي أمريكا اللاتينية، وهو التشيلي من أصول فلسطينية ويونانية، "ميغيل ليتين".
"ميغيل ليتين" تم تعيينه مديرا لمؤسسة السينما التشيلية، بعد فوز "سلفادور اليندي" بالرئاسة عام ١٩٧٠، مع وقوع انقلاب بينوتشيه العسكري في ١١ سبتمبر ١٩٧٣، وفي نفس يوم الانقلاب، وبسبب منصبه وأفلامه السابقة، أصبح مطلوبا للاعتقال لدي الحكم العسكري، ومع إحتمالات بالإعدام الفوري. لكنه تمكن من الهرب إلى خارج تشيلي. وبعد أثني عشر عاما، استطاع تحدي الحكم العسكري بفيلم جديد، يفضح عالميا هذا النظام. تنكر "ميغيل ليتين" في زي رجل أعمال من البارغواي، قام بتغيير شكله وطريقة كلامه، ودخل تشيلي بجواز سفر مزور بهيئته الجديدة، واستطاع أن ينسق بين ثلاثة فرق تصوير لأكثر من شهر، كي ينجز فيلمه، بمساعدات من أصدقاء ومن مجموعات سياسية سرية داخل وخارج تشيلي، ليخرج منها في الوقت المناسب حين كانت الأجهزة الأمنية على وشك اكتشاف هويته الحقيقية. وكتب عن هذه المغامرة، الروائي الكولومبي "غابرييل غارثيا ماركيز" كتابا بعنوان "مهمة سرية في تشيلي.
لم يكن التحدي هو عمل الفيلم وفقط، بل أيضا وجوده هو شخصيا في بلاده رغم المخاطر ورغم القبضة الأمنية والعسكرية، وقدرته على تصوير فيلم كبير. وكي لا ينكر النظام العسكري فيما بعد أن المخرج المنفي كان متواجدا بنفسه في تشيلي، جعل فرق التصوير تلتقطه بكاميراتها من حين لآخر، في مشاهد وأماكن مختلفة، متطلعا بثبات إلى الكاميرا، مشيرا لمتفرجه.. "أنني هنا"، حتى وهو في القصر الرئاسي الذي قصف بالطائرات يوم الانقلاب.
لم تمنحني تجربة "ميغيل ليتين" تفاؤلا على المستوى الانتاجي الذي قمت بالتركيز عليه في هذا النص، لأن فيلمه كان من تمويل عدة جهات إسبانية وإيطالية، ولم يعان كثيرا من فقر التمويل. لكنها تجربة تمنح التفاؤل على مستويات أهم.. قدرة الانسان، السينمائي في حالتنا، على التحدي والمواجهة والاختراق، وإبداع أشكال ومخارج جديدة.
مرة أخرى المسألة ليست إرادية تماما، هي مرتبطة بالمجتمع وتغيراته على كل المستويات. لكن.. من قال إن كل الدوائر قد أقفلت للأبد؟ العلم والتاريخ يقولان إنه مادام هناك سلطة، فهناك ثورة عليها. ومادام هناك رقابة وأجهزة أمنية هناك أشكال للتحايل عليها والتحرر من سطوتها. ودائما هناك السينمائي الذي يود أن يحكي، ويستطيع أن يخلق قصصا وأشكالا مناسبة لواقعه المحدد والمتغير، وبملامح تتجاوز الصعوبات الموضوعية. وهناك دائما متفرج يتطلع وينتظر الجديد.