«ليست هذه أمريكا التي نعرفها.»
ردّد كثيرون هذه اللازمة، أو تنويعات تحمل ذات الفكرة، على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الكثير من البرامج على وسائل الإعلام بُعيْد الهجوم الإرهابي على المعبد اليهودي في مدينة بيتسبرغ في تشرين الأول الماضي في الولايات المتحدة الذي راح ضحيته أحد عشر شخصاً. ولم يكن مفاجئاً البتّة، أن يُصَنّف الهجوم في خانة «جرائم الكراهية» كما وُصِفَ الفاعل بأنه «مُسَلّح» (gunman) وليس «إرهابياً» (terrorist). والسبب، طبعاً، هو العرق والديانة. فالرجل كان من البيض ويعتنق الديانة المسيحيّة. ولو كان غير ذلك لسارعت وسائل الإعلام تلقائياً لتصنيفه كإرهابي، ولكان الفعل ذاته «إرهاباً» وليس «جريمة كراهية». لكن «فقه» الإرهاب وقاموس «الحرب ضد الإرهاب» يقتضيان غير ذلك. فاللاوعي الجمعي والسياسي يؤمن بأن الإرهاب حكرٌ على ثقافات ومجموعات محدّدة. أما العنف الذي نرتكبه «نحن» ومن يشبهنا فهو شرعي وله ما يبرره، وهناك ترسانة أساليب بلاغية وخطاب جاهز لتحليله (بالمعنييْن).
النسيان هو مركّب أساسي وضروري للخطاب القومي وأساطيره، كما قال رينان. ينسى أو يتناسى خطاب التنزيه هذا، والتعبير العاطفي والساذج عن الصدمة من حدوث هجمات كهذه في الولايات المتحدة، الكثير. فهناك تاريخ حافل بالعنف تأسست عليه وبفضله الولايات المتحدة كدولة ذات نظام استعماري-استيطاني، قام هيكله على ثنائية التطهير العرقي والعبودية. فقتل المستعمرون غالبية السكان الأصليين ونهبوا أراضيهم وطردوهم منها. واستعبدوا واستقدموا ملايين الأفارقة إلى تلك الأراضي ليعملوا عليها بلا مقابل لأكثر من أربعة قرون. وحتى بعد تحرير العبيد رسمياً، ظلوا يعيشون في نظام تفرقة عنصريّة وكانوا عرضة لعنف الدولة وعنف المواطنين والأمثلة كثيرة، من تفجير كنائس السود إلى إعدام وتعليق الرجال السود (المتهمين بتهم باطلة) على الأشجار، والاحتفال بالطقس. فكانت الكثير من العوائل تصطحب أولادها ليشاهدوا «عدالة» الرجل الأبيض. واحدة من أغاني بيلي هوليداي الشهيرة «ثمار غريبة» (Strange Fruit) هي عن ذلك المشهد الذي كان مألوفاً في جنوب الولايات المتحدة. وبالرغم من كل التغييرات في القوانين والممارسات وفي أوضاع الأقليّات، والتي كانت ثمرة نضال طويل ومُكْلف، وصراع دام ضد النخب الحاكمة وأيديولوجيتها ومؤسساتها، ولم تكن هبة منها، فما زالت تبعات وتمظهرات أسطورة التفوّق العرقي القومية حاضرة في الحياة اليوميّة للأقليّات، ومتمثلة في المعضلات التي يواجهونها في التعامل مع أجهزة الدولة وقوانينها التي تتحكم بحيواتهم، والمخاطر التي يتعرضون لها، وبالذات مع الشرطة والأجهزة الأمنيّة. تثبت الدراسة تلو الأخرى أن الشرطة تقتل نسباً أعلى بكثير من السود، ومن المهاجرين والسكان الأصليين، وبدم بارد في معظم الأحيان، وبلا عواقب. إذ يكون نصيب القتلة البراءة أو التوبيخ والإيقاف عن العمل لمدة قصيرة.
وبالعودة إلى الهجوم الإرهابي في مدينة بيتسبرغ ، فلعل الصدمة كانت أكبر لأنه كان ضد معبد يهودي وكان الهجوم الأكثر دموية ضد اليهود في أمريكا. خصوصاً أن الكثير من الأمريكيين كانوا يظنّون أنّهم تجاوزوا العنصرية والعداء للساميّة. لكن انتخاب ترامب وتصاعد حضور القوميين البيض والنازيين الجدد وحدة نبرتهم التي كانت صدى لخطاب ترامب العنصري شكّل صدمة لأوهام الليبراليين. واللافت، كما ذكرت العديد من التحقيقات والتقارير، هو أن جهاز الإف بي آي، لم يلتفت البتة إلى خطر الميليشيات القومية البيضاء والنازيين الجدد، والذين تزايدت أعدادهم ونشاطاتهم، في العقد الأخير بالذات، لأنه كان يكرّس ويركّز جهوده، بالذات بعد هجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية عام ٢٠١١، على مراقبة الجاليات المسلمة تحسّباًَ لخطر الإرهاب الداخلي. كانت صحيفة «الواشنطن بوست» قد ذكرت أن جماعات الإرهاب المحليّة في الولايات المتحدة شنّت بين عامي ٢٠٠٠ و ٢٠١٦ أكثر من ٢٦ هجوماً إرهابياً وقتلت ٤٩ شخصاً. وذكرت «نيويورك تايمز» مؤخراً في تقرير مشابه أن ٧١٪ من أعمال العنف المميتة التي شنها المتطرفون في العقد الأخير ارتكبها أعضاء جماعات اليمين المتطرّف والتفوّق العرقي (الأبيض). كان أحد محللي وزارة الأمن القومي قد حذّر عام ٢٠٠٩ من أن انتخاب رئيس أسود والأزمة المالية الحادّة سيؤديان إلى عودة اليمين المتطرّف ونشاطاته إلى السطح من جديد. لكن تحذيره أُهمل.
أدى انتخاب ترامب وتأجيج الخطاب والممارسات والهجمات العنصرية إلى أن ينبش بعض الناشطين والمحلّلين اليساريين، تاريخ البلاد القريب، ليذكّروا الأغلبيّة بما يصرّون على تناسيه. فأعاد البعض نشر صور التجمع النازي الشهير في ساحة مادسون سكوير غاردن الشهيرة في قلب مدينة نيويورك في ١٢ شباط، ١٩٣٩. وكانت هناك مظاهرات مضادة خارج القاعة يومها. وإذا كان شيوع النازية في الولايات المتحدة آنذاك قد تأثّر بصعودها في ألمانيا، فلا بد أن نتذكّر أن القوانين النازيّة كانت أساساً قد تأثّرت إلى حد كبير بقوانين الفصل العنصري ضد السود في الولايات المتحدّة واستلهمتها واقتبستها في صياغة قوانينها العنصرية ضد اليهود والغجر. وهذا ما يبينه بوضوح كتاب المؤرخ الأمريكي جيمس ويتمان، نموذج هتلر الأمريكي: الولايات المتحدة وقوانين العنصرية النازية (دار نشر جامعة برنستون، ٢٠١٧) الجدير بالقراءة والترجمة إلى العربيّة. القوميون البيض المؤمنون بتفوّق العرق الأبيض والنازيون الجدد الذين يسرحون ويمرحون في الولايات المتحدة وعدد من دول أورپا لم يظهروا من العدم. بل أن لخطابهم العنصريّ وممارساتهم وعنفهم تاريخ طويل ومرجعيّات متجذّرة وليست طارئة.
بعد أيّام من إكمال هذه المقالة وقبل موعد نشرها شنّ قوميّ أبيض آخر، من أستراليا هذه المرّة، هجوماً إرهابياً على مسجدين في نيوزيلندا وقتل ٤٩ شخصاً من المسلمين المهاجرين. وأشار في بيانه الطويل إلى مرجعيّاته، من ترامپ إلى إرهابيين آخرين فعلوا ما فعلوه من قبل في أماكن أخرى، مثل النرويجي بريڤيك. وابتسم واستخدم الإشارة التي يستخدمها القوميون البيض «القوة البيضاء» بأصابعه عند ظهوره في المحكمة. وإذا كان خطاب رئيسة وزراء نيوزلندا والأسلوب الذي تعاملت به مع الحدث يعكس حساسية لا نجدها إلا فيما ندر لدى معظم السياسيين، وتفهمّاً لجذور وتبعات الحدث، إذ لم تتردد في تصنيفه في خانة «الإرهاب»، وتعاملت مع عوائل القتلى باحترام شديد، فإنها كانت استثناءاً. فقد تحدّثت الكثير من الصحف والمواقع عن «مسلّح»، فيما لمّح الكثيرون، أو صرّحوا، بأن هذا الهجوم ليس إلا ردّاً على إرهاب داعش. وكأن تاريخ العنف، والإرهاب، بدأ قبل سنوات قليلة. وبغض النظر عن النيّة، فإن هذا الخطاب يفصل الحدث عن سياقه وتاريخه ومرجعياته، ويلوم الضحايا. وبعض هؤلاء الذين ربطوا الهجوم بداعش أو بالحركات الإسلاميّة لم يكونوا من غلاة العنصريين أو من الذين يعانون من رّهاب الإسلام، بل من المسلمين والعرب الذين تشرّبوا هذه الأفكار، ومعظمهم من المثقّفين العلمانيين الذين تجنّدوا في خدمة أنظمة متوحّشة تستغل خطاب الحرب ضد الإرهاب، لقمع وإسكات الجميع بذريعة محاربة الإرهاب. وهي أنظمة متحالفة ومتواطئة مع ترامپ وعنصريته وكل ما يمثله من احتقار وكره قائم على أسطورة التفوّق العرقي والقوميّة البيضاء وتاريخها وخطابها الإرهابي نحو الآخر. والمسلم والمهاجر هو على رأس قائمة «الآخر» اليوم.
[ينشر أيضاً في موقع «أوان»]