كتابان مثل "الروح الحية" لفاضل العزاوي، و"تهافت الستينيين" لفوزي كريم، هما كتابة عن أطلال زمن متلاشٍ وغائب عنا، أراد التوثيق استعادته على الورق وفتح أبواب النقاش بشأنه. في الكتاب الأوّل عرض لكشوفات شخصيّة عن مجريات مرحلة بمجملها (أي الستينيات من الألفية الماضية)، وتأشير ذلك التغيّر والتحوّل في الوعي الفكري والسياسي والاجتماعي ومدى ارتباطه بفكرة الحداثة، وفي الثاني جردة حساب من الكاتب مع جيله وبحث في رؤى الستينيات واتّخاذ مسافة نقديّة منها، ومن ثمّ إيضاح مدى ما تفعله العقيدة بتوجهات المثقف ومواقفه الشخصيّة.
نعم الكتابة عن الأطلال لها جماليالتها، فهي تهدي خيالنا إلى أعمق ما في ذلك الزمن من صفاء وقيم وقدرة على الابتكار، وإن تعدّدت المصادر واختلف كتّابها فيما بينهم.
الكتابان المذكوران أعلاه، هما الأكثر إثارة على طول تاريخ البحث في الشعر العراقي منذ خمسة عقود، والاستعانة بهما- دون غيرهما- كمدخل لهذه الورقة له أبعاده الثقافيّة والسياسيّة بلا شك.
بعد نيسان 2003، التقى جمع من الشعراء من محافظات مختلفة، ضمن ميادين الحياة الثقافية العراقية في بغداد والبصرة وغيرهما، وصار بينهم شيء من التنافس والتفكير- المشترك أحياناً- في نمط الحضور وفي آلية تقديم الشعر للجمهور، وكان ذلك سابقاً لمرحلة الفيسبوك وشعره أي ما قبل 2011، ليجري تحقّق هذا الالتقاء على أرض الواقع في أكثر من حدث وملف شعري منذ أعوام 2006 وما تلاها، مثل فعاليّة "الشعر تواً" وفكرة أمسية "أطوار" والعرض المسرحي الشعري "في منزل الوزير النزيه".
أتت فكرة جمع نتاج هذه المجموعة قبل 4 أعوام، وجرى التقصّي عن الأسماء التي ما زالت تمثّل الفكرة الأوليّة عن الحضور، البعيد عن الافتعال واللهاث نحو الأضواء، من دون أن يكون هناك متن ينتمي فعلاً إلى الفن.
لم يكن بيننا للأسف من تجسّد هذا الخط من الكاتبات الحديثات، ولم يكن ممكناً الحديث عن وجود صاحب القصيدة الإعلامية الذي ركب قطار الاستجابة لرغبات الجمهور ومعلّقي الفيسبوك ومواقع التواصل، من الباحثين عن صياغات تناسب أحداثنا الطارئة وما صنعته من ذائقة ووعي.
من هنا كان كتاب "تلويحة لأحلام ناجية" ضرورياً لتوثيق شغل هذه الأسماء، قبل أن تضيع الحقائق عن الأصوات التي تقدّمت إلى الساحة وكانت تمثّل انتقالة أدبيّة بين ما قبل 2003 وما بعدها، كما لم يكن أنطولوجيا تشبه تلك التي ترصف النصوص بعضها إلى جوار بعض، بل أنّه قدّم صوت الشاعر في شهادة مكتوبة عن رؤيته الخاصّة للشعر وللحياة في العراق وكيف يمكن أن تكون كاتباً لمثل هذا الفنّ في بلد محتدم أخذت منه الحروب والأيديولوجيات كثيراً.
امتدح الكتاب أدوار بعض الأسماء التي أخذت بيد هذه المجموعة، وأغلبهم من المقيمين في الخارج وعادوا بعد نيسان 2003 إلى بغداد، ومرّ مشروع التلويحة على أسماء أرادت أن تنصّب أنفسها قيّمة على هؤلاء الشعراء، فكان الإصدار توثيقاً لمرحلة بدأت منذ 2003 وحتّى العام 2018.
كان مهماً أن يخرج الكتاب بنسق مختلف، على صعيد التصميم والمضمون، إذ تمّ أولاً التعاون مع الفنّان الكبير ضياء العزاوي؛ ليقدّم تخطيطات عن قصائد الشعراء التسعة، ومعها لوحة الغلاف، وكان أيضاً التعاون مع الدكتور فلاح حسن الخطاط الذي خطّ عنوان الأنطولوجيا بهذا الشكل.
ليجتمع في الكتاب كلّ من أحمد عزاوي وحسام السراي وزاهر موسى وصادق مجبل وصفاء خلف وعلي محمود حضيّر وعمر الجفال ومؤيد الخفاجي وميثم الحربي.
أخيراً نقول لِمَ لا تكثر التلويحات في عاصمة الأحلام الناجية؟ ولتوثّق الأسماء التي ظهرت بعدنا بين أعوام 2011 و 2019 شغلها الشعري وشهاداتها في مشروع جديد؛ كي يبقى وثيقة أخرى عن مرحلتهم.
مهمة أهل التلويحة الأولى الذين لكلّ منهم نهجه في الكتابة، الاستمرار بشغلهم وتنافسهم الإيجابي وبثّ المزيد من الأفكار عن الصناعة الثقافية وآليات تقديم الشعر إلى الجمهور.
* الشهادة التي قدّمها الشاعر في ندوة "شعراء بعد 2003 وشعرهم.. الاستئناف والمواصلة" ضمن ختام فعاليات معرض بغداد للكتاب، عن أنطولوجيا "تلويحة لأحلام ناجية" (دار الرافدين 2018).