في منتصف القرن الماضي تبنّى الجيش الأمريكي مصطلح CollateralDamage «الأضرار الجانبية» أو «الدمار الجانبي» والذي كان يستخدم قبل ذلك في سياقات مدنيّة، ولأغراض لا علاقة لها بالحروب. وبدأت هذه العبارة تُسْتخدم في القاموس العسكري وفي خطاب الحروب للإشارة إلى الأضرار «غير المقصودة» التي توقعها العمليات العسكرية خلال الحروب بالبنى التحتيّة وبالبشر. ولكن الاستخدام الفعلي للمصطلح ووظيفته الأساسية، منذ حرب ڤييتنام على الأقل، هي إخفاء التدمير المقصود، والمخطّط له أصلاً، بهدف إرهاب شعب العدو، واختصار الخسائر البشريّة الهائلة، في صفوف المدنيين، واختزالها في لغة بيروقراطية باردة. أي تغييبها. وأصبح هذا واضحاً في حرب الخليج الأولى عام ١٩٩١ وغزو العراق واحتلاله عام ٢٠٠٣.
إن الإحاطة الكاملة بالخسائر البشرية التي تسببها الحرب أمر في غاية الصعوبة في البلاد التي تكون هدفاً للاحتلال. وتتطلّب، في مرحلة ما بعد الحرب، حتى في أفضل الأحوال، جهوداً حثيثة ووجود مؤسسات وكوادر وإرادة رسميّة تحرص أصلاً على حيوات مواطنيها، وبالتالي على موتهم الجمعي ومعناه وتبعاته. ويصبح الأمر أكثر صعوبة، وحتى استحالة، بحسب درجة الخراب الذي يكون قد وقع بمؤسسات البلاد. وكذلك بحسب طبيعة نظام الحكم والتوجه الأيديولوجي للطبقة السياسية، أو مدى فسادها ولاوطنيتها، بل خيانتها العظمى، كما هو الحال في العراق.
لا يزهق الغزو والاحتلال أرواح البشر فحسب. ولا تقتصر خارطة أهدافه الاستراتيجيّة على المواقع والبنايات العسكرية، فهناك خارطة البُنى الفكرية التي يجب تفكيكها أو نسفها، إن وُجِدت، أو الحيلولة دون قيامها، أو تشكيلها، من جديد، من بين الأنقاض. وما أقصده هنا هو عملية تفكيك وتخريب خطاب العراق الجامع، كوطن واحد للجميع. والترويج، بدلاً عن ذلك، لفكرة وخطاب عراق الطوائف والأعراق والأقاليم والإثنيّات والمكوّنات وكل ما يمكن أن يمعن في تفتيت البلد. وتشريع كل هذا قانونياً وخطابياً، وترسيخه مؤسساتياً وإعلامياً. لا يمكن، بالطبع، أن يقلل المرء البتّة من الخراب الذي أحاقه نظام صدام واستبداده وحروبه بالعراق وبالعراقيين في كل المجالات، وبالخطاب الوطني وتشويه مفرداته بالذات. لكننا الآن، بصدد التشويه والدمار الفكري (ناهيك عن الدمّار المادي الهائل) الذي أوقعته وتوقعه الطبقة السياسية ونظامها الذي وضع أسسه الإحتلال الأمريكي في ٢٠٠٣، بعد أن أسقط النظام السابق. حين احتلّ الطائفيّون والفاسدون والعملاء القدامى (والجدد) مواقعهم ليبدأوا بنهب ثروات البلاد وتدميرها، بدلاً من إعادة بنائها. وليبدأوا بتدمير ومسخ الذات العراقية، جسداً وفكراً. فماذا يمكن أن نسمي حرمان المواطن العراقي، من أبسط حقوقه، المتمثّلة في الحصول على مياه صالحة للشرب، وعلى عناية صحية وحياة كريمة؟ أليس هذا تدميراً لجسد المواطن ولحياته؟ أمّا تدمير البنية الفكرية فيتم بحرمان العراقي من حقه الأساسي بالحصول على المعرفة، وبتخريب وإهمال النظام التعليمي في كافة مراحله. ويكفي أن نذكر أن نسبة الأميّة في العراق حالياً حوالي ٢٠٪. لكن هناك أميّة أخرى، لا تقل خطورة، وهي ما يمكن أن نسمّيه الأميّة الوطنيّة، أي الجهل بمفردات الوطن ومعانيه، وترسيخ وإعلاء الهويّات الفرعيّة وخطاباتها التقسيميّة، بغض النظر عن محتواها.
والحقل الآخر للتجهيل الجمعي والدمار الفكري هو الإعلام. ويكفي أن يقرأ المرء ما يكتبه، أو يسمع ما يتفوّه به، الكثير من «المثقفين» والإعلاميين والكتبة، الذين يعملون تحت مظلّات الأحزاب والتيّارات السياسيّة، في منصّاتها ومنافذها الإعلامية، وحتى تلك التابعة للدولة، ليدرك حجم الدمار الفكري. والأمثلة عديدة. وأحدها أنه ما زال هناك من يسمّي احتلال البلاد «تحريراً» أو «تغييراً» ويحتفل بذكرى سقوط بغداد.