[ترجمة مروة بن عمر الشريف]
يُصنع الآن تاريخ جديد في الجزائر.
إذ نجح الحراك الشعبي المتواصل منذ سبعة أسابيع في أولى معاركه ضد النظام الحاكم، فأجبر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على التنحّي بعد عشرين عامًا في سدّة الحكم. وذلك بعد أن أعاد الشارع خلط الأوراق في بيت النظام وتسبّب في قطيعة بين مؤسسة الرئاسة وقيادة أركان الجيش.
منذ الثاني والعشرين من فيفري الماضي، يجوب كلّ جُمعة ملايينٌ من البشر، كبارًا وصغارًا نساءً ورجالاً ومن مختلف الطبقات الاجتماعية، أنحاء البلاد في لحظة ثورية جامعة، مُسترجعين الفضاء العامّ المُصادرِ لسنين طويلة. وآزرت الاحتجاجات القطاعية مسيرات الجُمعة مُوّحدة النّاس في رفضهم النظام الحاكم ومطالبتهم بتغيير ديمقراطي جذري.
“يتنحاو ڨاع” و” البلاد بلادنا وانديرو راينا” شعاران يرمزان للتطور الجذري للحراك الشعبي السلمي، الذي بدأ إثر إعلان بوتفليقة ترشحه لولاية خامسة على الرغم من عجزه وفقدانه القدرة على الكلام. والذي يجدرُ الذّكر بأنّه لم يُلقِ أيّ خطاب، أو يجري أيّ لقاء صحفي، منذ سنة 2013.
ثلاث ميزات تجعل هذا الحراك حقا فريدا من نوعه: حجمه الضخم وطابعه السلمي وانتشاره الوطني. إذ شمل الجنوب المُهَمَّش وشهد مشاركة واسعة للنساء، وخاصة للشباب الذين يشكلون أغلبية سكان الجزائر. وهو أمر لم تشهده الجزائر في تاريخها المعاصر، باستثناء سنة 1962 حين خرج الجزائريون للشارع احتفالا باستقلال دفعوا ثمنه باهظا.
فاجأ الحراك كلّ المراقبين؛ فقد اتسم المناخ السياسي في أول شهر فيفري بنوع من اليأس والعُزوف عن الانتخابات التي كانت السلطة تُّعِدُ لها وتعتزم عقدها في أفريل الجاري. وهو ما يمكننا تفسيره كنتيجة لإفراغ الساحة السياسية من أيّ معارضة حقيقية، إضافة إلى قمع أو تدجين الاتحادات العمالية ومختلف مكونات المجتمع المدني؛ ما أدّى إلى غلق المجال في وجه أيّ مشروع بديل وخلق في المقابل مناخا سياسيا قاحلا في عمومه.
أربك دخول الجماهير المجال العامّ الوضع الكائن، وفتح بابيْ التغيير والمقاومة على مصراعيهما. إذ تشير الحناجر الصادحة “احنا صحينا وباصيتو بينا” إلى اكتشاف هذه الجماهير إرادتها السياسية؛ فمن خلال سعيها لانتزاع حرّيتها، كانت هي نفسها بصدد التّحول. يظهر هذا في حالة الانتشاء والطاقة المُبدعة وحسّ الفكاهة والبهجة التي خلقتها هذه الحركة، بعد عقدين من القمع والإسكات. كالأوكسيجين، تُجدّدُ الثورة المجتمع مبرزةً هذه الجموع الحاشدة كفاعلَةٍ حقيقيّة في كتابة تاريخها الخاص، وبالتالي في عملية التغيير. ومن المُهمّ في هذا الصدد الالتفات لتحليل فانون الذي يُوضح قُدرة الجموع، خلال أسوء الكوارث، على تنظيم ذاتها ومواصلة الحياة حين يكون لها هدف جامع.
[مضاهرة للقطاع الطبي بسكيكدة يوم 19 مارس.]
تُنذر الصحوة الشعبية والوعي السياسي المتعاظم المرافق لها بقدوم أيام جّيدة للحراك، وأخرى عاصفة للطبقة الحاكمة (ولداعميها الأجانب) التي استغلت موقعها لتُثريَ بطريقة فجّة. في خضم ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والضغط على الانفاق العام من خلال تدابير التقشف، وفي ظلّ نهب الموارد والتنمية غير المتوازنة أساسا وانتشار الفساد، تُصبح أسباب الثورة والتّمرد واضحة ومنطقية.
علينا في البداية أن ننوّه إلى أنّ حالة الغليان هذه لم تأت من العدم ولم تنزل من السماء. بل هي نتيجة لتراكم نضالات تعود لثمانيات القرن المنصرم، آخرها موجة احتجاجات سنة 2015 ضد الغاز الصخري وتحركات المُعطَّلين عن العمل سنة 2012 في الصحراء الجزائرية.
ثانيا، علينا أن نُحلِّل الانتفاضة الجزائرية في سياق المسار الثوري المتواصل الذي اجتاح المنطقة العربية في العقد الأخير، بداية من تونس ومصر مُنتشرا ببقية الأقطار. من الواضح أنّ هذا المسار مُثقل بتناقضات وتقلّبات ومكاسب ونكسات. تجسدت هذه الأخيرة في تونس على سبيل الذكر في انتقال ديمقراطي ليبرالي، وثورات مضادّة دموية وتّدخلات إمبريالية سافرة في بقية البلدان التي شهدت انتفاضات شعبيّة. في التسع السنوات الماضية قُدمت الجزائر “كاستثناء”، وبدت منيعة أمام رياح الثورة رغم ايوائها لنفس أسباب الانتفاض.
تركّز واقتصر خطاب الحكومة آنذاك على أنّ الجزائر قد مرّت بربيعها الخاص قبل عشرين سنة من بداية ما سُميَّ بـ”الربيع العربي”. وذلك في إشارة ضمنية إلى فترة الانتقال الديمقراطي القصيرة الموالية لأسابيع من المظاهرات في أكتوبر1988، والتي أجبرت حينها النظام على افساح المجال لتعددية سياسية وصحافة مستقلة. غير أنّ هذه المكاسب في الحريات المدنية و”الانتقال الديمقراطي” قد أجهضَت بانقلاب عسكري وحربٍ على المدنيين في التسعينيّات.
يمكن تفسير فشل الانتفاضة في ترسيخ جذورها في الجزائر خلال الفترة 2010-2011 بشبح الحرب الأهلية المُخيّم على الذاكرة الجماعية: مئات الآلاف من القتلى وعنف وحشي من الدولة للقضاء على المعارضة الإسلامية فيما يُعرف بالعشرية السّوداء، إضافةَ إلى تواصل مختلف أشكال القمع. تعزّزت هذه المخاوف بالتدّخل في ليبيا ونجاح الثورة المُضادّة في مصر وأخبار المجازر من سوريا والتدخلات الأجنبية فيها.
كما استعمل النظام عائدات النفط والغاز لشراء سلم اجتماعي داخلي ولضمان قبول دولي. ساهم الرخاء البترولي محلّيا في “تهدئة” المواطنين وفي منع أي غضب شعبي من التحول إلى حراك جذري. أمّا خارجيا وبحكم رتبة البلد كأكبر ثالث مُصدّر للغاز نحو الاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنّرويج، ونظرا لتضاءل انتاج بحر الشمال والأزمة الأوكرانيّة، أمَل النظام في استغلال الموقف للعب دور أكثر أهمية في تأمين احتياجات الاتحاد من الطاقة، وبالتالي ضمان الموافقة والتواطئ الغربيّين.
[بجاية يوم 22 مارس]
رغم خصوصية الأحداث الجارية في الجزائر إلاّ أنّها ليست الوحيدة أو الأولى في تاريخ النضالات والثورات. لذا من الضّروري استخلاص الدروس من التجارب السابقة، ومن الدول المجاورة كتونس ومصر (سيتم تغطية هذا الجانب في مقال مقبل).
أزمة سياسية وصراع قوى داخلي
تشهد الجزائر منذ فترة أزمة حادّة متعددة الأبعاد. فقد عاشت البلاد على وقع أزمة سياسية امتدت لعقود، خاصة في الفترة الموالية للانقلاب العسكري سنة 1992 وما أعقبه من حرب شنيعة على المدنيين. تعود جذور الأزمة إلى فترة الاستعمار الفرنسي، رغم أنّ أحدثَ مظاهرها نَتيجةٌ مباشرة لسياسة التّراكم الطّفيلي وترسيخ الفساد: طغمة من الجنرالات والأوليغاركيين ترفض حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره والتحكّم في ثرواته وتستغني عن الشرعية الشعبية لصالح دعم رأس المال المحلي والدّولي. ساهمت عدّة أسباب في تفاقم الأزمة؛ منها مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وغيابه عن المجال العام منذ سنة 2013. مأزق كبير، زاد الصّراع الداخلي لنخبته الحاكمة الطّين بلّة وقد بلغ ذروته سنة 2015 مع سقوط الرجل القوي، رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية. يُضاف إلى ذلك فضيحة الكوكايين سنة 2018 التي أوْدت بمنصب رئيس الشرطة وبعض الجنرالات وموظفين سامين بوازرة الدّفاع.
وفي سياق فشل المعارضة المؤسسّية والحركات الاجتماعية في صياغة بديلٍ واقعي، توقّعنا سنة 2016 بأنّ “تدهور أسعار النفط سيدقّ المسمار الأخير في نعش اقتصاد ريعي غير مُنتج وغير مُصَنّعٍ ومُعتمدٍ أساسا على عائدات النفط والغاز كمصادر أساسية للعملة الصّعبة… فمَع انخفاض أسعار النّفط واحتياطي عملة صعبة (قُدَّر بـ 179 مليار دولار نهاية سنة 2014) مرشّح للانخفاض بعد 2016ـ2017، تُظهِرُ هكذا مُعطيات سهولة تكرار أزمة 1988 وإمكانية تفاقُمها، مُؤديةً إلى انفجارٍ كامل مُهدّدٍ لأمن البلاد القومي وسلامة أراضيه”.
تأتي الأحداث الأخيرة في وقت تُعاني فيه البلاد من أزمة اقتصاديّة خانقة ــ من أبرز مظاهرها سياسة تقشفٍ ناتجة عن تراجع عائدات النّفط والغاز ــ تزامنت مع اشتداد الخلافات والانقسامات وسط النّخبة الحاكمة حول ترشح بوتفليقة من عدمه لعُهدةٍ خامسة.
غيّر الحراك الشعبي شكل العلاقة بين صناع القرار الجزائريين. فبعد تحالف مؤسستيْ الرئاسة ورئاسة الأركان و”انفصالهم” التدريجي عن المخابرات العسكرية سنوات 2008 ــ 2015 (بسبب اعتراض الأخيرة على التعديل الدّستوري الذي خوّل لبوتفليقة الترشح لولاية ثالثة وكشفها سلسلة فضائح فساد، تلتها إقالة مدير المخابرات العسكرية)، أحدث الحراك بدايةً صدعًا بين مؤسسة الرئاسة وقيادة الأركان، ثُمّ عمّقه في غضون أسابيع إلى انفصال. فلا يَخْفى على أحدٍ تدخّل المؤسسة العسكرية لوضع حدٍّ لحكم بوتفليقة من أجل الحفاظ على النّظام. وإنْ دلّ هذا على شيء فيدلّ على عمق التناقضات وعدم الاستقرار داخل الكتلة الحاكمة وصراع الهيمنة داخله، ما فتح مجالات جديدة للمقاومة.
[الجزائر العاصمة يوم 29 مارس.]
إنّها لحظة فارقة في الديناميكية الشعبية التي بدأت في شهر فيفري الفارط: انتصار في أولى معارك النضال الطويل من أجل تغيير حقيقي وجذري. والتغيير الجذري يعني ضرورةً الإطاحة بالقايد صالح رئيس أركان الجيش، أحدُ أعمدة نظام بوتفليقية ومن مؤيّدي ترشيحيه لولاية خامسة قبل أن يتراجع تحت ضغط الشارع المُتنامي. قطعا لا يُمكن الوثوق بقيادة الجيش وبالجنرال قايد صالح تحديدًا، الذي هدّد الحراك في أولى أيامه قبل أنْ يتبنى خطابا أكثر توافقيّة. علينا أن نكون حذيرين وأكثر تصميما من أي وقت مضى حتى نتصدّى لقوى الثّورة المُضادة ونمنعها من السطو على هذه الانتفاضة التاريخية.
الآن وبعد استقالة بوتفليقة، صار من الضّروري جدًا إرساء انتقال ديمقراطي حقيقي وعدم الإذعان لدعوات تطبيق المادة 102 من الدّستور الحاليّ، التي ستحافظ على النظام القائم دون أن تضمنَ انتخاباتٍ حُرّةٍ وشفافةٍ. لا يُمكن اختزال مطالب النّاس المُنادية بالسّيادة الشعبية في حُجج قانونية ودستورية جامدة. هذه لحظة فريدة من التاريخ الجزائري يُمكن أن تُفرَض فيها نماذج ثورية جديدة تتجاوز الأطر القانونية والدستورية المطروحة من أجل تغيير الوضع الرّاهن وخلق أسس جديدة تقطع مع النّظام القمعي القائم.
هُناك بالفعل بعض الإقتراحات لحلّ الأزمة والشروع في انتقال يُلبّي مطالب الناس ويرضيها ويُعيد لها سيادتها المْسلوبة، وعلى قيادة الجيش أنْ لا تتدّخل وتلتزم بدورها الدّستوري في الحفاظ على أمن البلاد وسلمها. لم يثُرْ الجزائريون لاستبدال مضطهِدٍ بآخر، لهذا يجب أنْ يتواصل الحراك (مُظاهرات، إضرابات، احتلال الساحات العامة…) حتى يُصبح الشعب الطّرف الأقوى في المعادلة ويفرض على الجيش الانصياع لمطلبه الواضح والصريح “يتنحّاو ڨاع” و”Systéme dégage” (على النّظام أن يرحل).
الأسباب الاقتصادية
إنّ الأزمة الاقتصادية الحالية ـ إحدى مُحركات الانتفاضة ـ ليست وليدة اللحظة بل ترجعُ جذورها أساسا إلى مُنتصف الثمانيّات. حينها أُعْتُبِرَ البرنامج الوطني التنموي خلال الستينات والسبعينات “فاشلا” وأجْهِضت محاولاته لفكّ الارتباط بالنّظام الرأسمالي العالمي، قبل أن يُستبدَل باقتصاد السّوق، في تمشٍ مُماثل لما وقع في بلدان أخرى بالمنطقة. اقتضى التّوجه الجديد تفكيك وبيع الشركات العموميّة، وتخفيف الضوابط القانونية والتخلّي عن التّصنيع وإعادة هيكلة نيوليبرالية أخرى. ظهرت كنتيجة لهذه السياسات، مجموعة عسكرية برجوازية خاصّة تُسيّر أعمال الدّولة في إطار سياق ليبرالي عالمي صاعدٍ.
دفع تخلّي الدّولة عن توفير خدمات عامّة وفشل الحركة الوطنية ” العلمانيّة” في تحقيق الازدهار والاستقلال الموعوديْن إلى صعود الحركة الإسلامية لسطح المشهد السياسي الجزائري، وقد ساعدتها على ذلك جاذبية الثورة الإيرانية. بلغت الحركة الإسلاميّة ذروة شعبيتها خلال الثمانينات وكانت لها قاعدة وأتباع من البروليتارية والبروليتارية الرّثة والطبقات الفقيرة.
عزّز التوجه الاقتصادي الليبرالي الأصوات المُطالبة بالحرية السياسية والتّخلي عن سياسة الحزب الواحد بعد انتفاضة 1988. فتح الانقلاب العسكري على انتخابات 1992، التي كانت جبهة الإنقاذ الإسلاميّة تتجه للفوز بها، أبواب جهنّم على الجزائريين. فأعاد العنف تجاه المدنيين إلى الذاكرة فترة الاستعمارالفرنسي. كما أدّى إلى أزمة شرعية حادّة للنظام الذي حاول جاهدا كسب قبول ورضا العواصم الغربية، كتعويض لشرعيته شبه المفقودة مُعتمدَا في ذلك على سياسة فتح الأسواق. حينها ـ أيْ التسعينات ـ تركّزت اهتمامات الغرب الجيوسياسية في الخوف من إيرانٍ جديدة في شمال إفريقيا وهو ما ضَمن دعما ضمنيا للنظام الجزائري حتى في أكثر السنوات دمويّة.
لم تقتصر التجربة الجزائرية في التسعينات على حرب أهليّة مُروّعة، بلْ رافقتها عملية لبرَلَة اقتصادية قسريّة إذعانا من النّظام لإملاءات صندوق النقد والبنك الدّوليين. حان دور الجزائر آنذاك لخوض تجربة “عقيدة الصدمة” من خلال تطبيق سياسات مؤلمة ومثيرة للجدل. مسار اقتضى تفكيك الشركات العمومية والاقتراض من صندوق النقد والتحضير لاقتصاد الاستيراد، علاوة على إخضاع الجزائريين لسياسة تقشف قاسية ومزيد التّفريط في السيادة الوطنيّة.
هكذا إذن فتحت الجزائر أبوابها للأسواق العالمية من جديد؛ فخففت من القيود القانونية والمُنظِّمة لقطاعات الطّاقة المُهمة، مُسهِّلة بذلك سباق النفوذ والاستحواذ على الغاز والنّفط. وقّعت الشركات الغربية سلسلة من العقود الربحية الضامنة لها حصةَ معتبرة من موارد البلاد الثمينة. ساهمت عمليّة إعادة ربط الاقتصاد الوطني برأس المال العالمي في تحويل النخب الحاكمة إلى برجوازية كمبرادورية عن طريق ربط مصالحها بمصالح رأس المالي العالمي وإخضاع المصالح الوطنية له. وعلى الرّغم من كل ذلك أدّت تجاوزات النّظام أواخر التسعينات إلى عزلة دبلوماسية.
مثّل إعلان إدارة بوش “حربا عالمية على الإرهاب” بعد هجمات 11 سبتمبر فُرصة مثالية لحُكّام الجزائر للحصول على دعم غربي جديد، (أمريكي على وجه الخصوص). تحت عنوان “صديق في الجزائر” نشرت صحيفة “واشنطن تايمز” رسالة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بتاريخ 25 نوفمبر 2002 تعهّد فيها بتعاون استخباراتي كامل وتوفير أمن طاقي للولايات المُتحدّة وهو ما ساعد على شراء قبول الأمريكيين. مُقابل دعمها، تلقت الحكومات والشركات الغربية امتيازات غير مسبوقة. باختصار، اعتمد النّظام الجزائري خلال العقدين الأخيرين من الزّمن المواليين لانقلاب 1992 على الخارج كبديل عن الشرعية الشعبية وتحوّل ذلك إلى أسلوب عمله بامتياز.
لا يُمكننا تقييم الوضع السياسي الجزائري دُون التّمعن في تأثير التّدخلات الخارجيّة وفهم السؤال الاقتصادي من زاوية الاستيلاء على الموارد الطبيعية والاستعمار الطاقيّ الجديد؛ بما في ذلك التنازلات الهائلة التي قُدِمت للشركات المتعددة الجنسيات والضغوطات الخارجيّة لأكثر “لبرلة” اقتصادية من أجل إلغاء كل القيود المفروضة على رأس المال العالمي وإدماج كامل للجزائر في اقتصاد العولمة من موقع تبعية كاملة.
إنّ نظرة محتاطة للاقتصاد الجزائري خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وخاصة تحت حُكم بوتفليقة، تُظهرُ سيطرة بورجوازية لاوطنية عقيمة وغير مُنتجة على أعمال الدّولة وعلى تحديد خياراتها الاقتصادية. لم تتوقف هذه الطغمة “الأولغيراشية الكمبرادورية” الحاكمة عن بيع البلاد لرأس المال الأجنبي وللشركات مُتعددة الجنسيات. تُمثل هذه النخبة التابعة لنظام الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية العالمي الوكيل الفعليّ للإمبريالية وأداتها النّاجعة. وكمثال على ما ذكرنا أعلاه: المُعارضة الشديدة التي تعرض لها رئيس الوزراء الأسبق عبد المجيد تبون سنة 2017 حين فرض قيودًا على الاستيراد، فدفع منصبه كثمن لتجرؤه على ذلك بعد أربعة أشهر فقط من توليه المنصب. مثال آخر على نزعتهم تلك: محاولات وضع صيغة نهائية لقانون المحروقات الجديد الذي سيُعطي الشركات مُتعددة الجنسيات حوافزًا أكثر وسيفتح الطريق لمشاريع مُدمّرة كاستغلالِ الغاز الصخري في الصحراء والموارد البحرية في البحر الأبيض المتوسط.
إنْ واصلت الجزائر في طريق الخصخصة واللبرلة فسنشهد بالتأكيد انفجارات اجتماعية أخرى. فلا يُمكن بلوغ سلام اجتماعي في ظل تواصل التفقير والبطالة وعدم المساواة، كما ستُعطِلُ هذه السياسات أيضا مسار الدمقرطة في البلاد وستنتهي بتقوية نظام سلطوي ذو واجهة ديمقراطيّة. في هذا الصدد تُعدُّ التجربة التونسية خير دليل. حيث تمّت النقلة الديموقراطية في إطار نيوليبيرالي، مكرّسة بذلك إعادة إنتاج المنظومة الاقتصادية التي كانت أهمّ أسباب ثورة التونسيين.
تعني الديمقراطية سيادة الشعب ولا يُمكن اختزالها في العملية الانتخابيّة؛ كما لا يمكن تحقيقها إلا من خلال رؤية ذات أبعاد اجتماعية ووطنية. تُرسى الديمقراطية الحقيقية على أُسس معادية للسياسة الإمبريالية والنيوليبرالية وأذنابهما المحليين من الطبقة البرجوازية الكمبرادوريّة.
علينا ألاّ نفصل بين النّضال من أجل الحُرية والديمقراطية والنّضال ضد الامبريالية؛ فأيّ انتقال لا يأخذ بعين الاعتبار أسئلة العدالة الاقتصادية والاجتماعية وقضايا السيادة الوطنية والشعبية على الموارد الطبيعية هو انتقال سطحي يحمل داخله بُذور انتفاضات وثورات جديدة. وعليه، يجدُرُ بنا القيام بِما هو أفضل من مواصلة تنفيذ المزيد من السياسات الاقتصادية الكارثية التي دفعت الشعب إلى النهوض والتمرد.
تفتحُ الجزائر فصلا جديدا الآن بعد تخلي بوتفليقة عن السّلطة. فصلٌ على المُثقفين الواعين بحساسية المرحلة والمُسلحين بأفكار ومبادئ ثورية أنْ يكونوا حاضرين فيه وبقوّة لقطع طريق السلطة أمام الجيش والأولغاريشية الكمبرادورية. لا معنى لشعارات “الجيش والشعب خاوة خاوة” مع جنرالات فاسدين استفادوا ودعموا حُكم بوتفليقة.
على الشعب الجزائري عامّة، وعلى الجماهير الشعبية خاصة، أنْ تَحْذر من تدّخُل هكذا فاعلين حتى تتجنُّب سيناريو السيسي في مصر. ادّعى السيسي أيضا، حين قاد انقلابا عسكريا ضد الرئيس محمد مرسي، بأنّه تدخل من أجل الشعب! وكُلنا يعلم ما الذي يحدث في مصر منذ ذلك الحين. من الممكن الاستفادة من الصّراع الداخلي بين أجنحة السّلطة كخطوة تكتيكية ولكن من الخطأ الاعتقاد باصطفاف قيادة الجيش إلى جانب الشعب في ثورته. على المُثقفين الثوريين العضويين وعلى قادة المعارضة والناشطين أن يتحملوا مسؤولياتهم وأن يقوموا بدورهم التّاريخي في التواصل مع الجماهير والتفكير معهم وتثقيفهم سياسيا ومساعدتهم على تنظيم أنفسهم والدفع بمطالبهم إلى الأمام. ويمكن للنقابات المُستقلة واتحادات الطلبة ومنظمات المُعطَّلين عن العمل أن تلعب دورا محوريا في تعبئة النّاس وتوجيه غضبهم.
يُطالب البعض في الجزائر بفترة انتقالية تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر، وهو طلبٌ يجب أن يُرفض. إذ ليس هناك داعٍ للعجلة، وعلى الجماهير أن تأخذَ الوقت الذي تحتاجه لتنظيم نفسها محليّا وحتى يبرز قادة عضويّون قادرين على المشاركة الكليّة والفعلية في بناء ديمقراطية جذريّة.
ختاما، علينا أن نتذكر بأنّ المواجهة هي جوهر الثورات، فمن المُفضّل إذن التّحضير لها بأن نُنظِّمَ أنفسنا ونضاعفَ مساحات النقاش والتّفكير حول البدائل الحقيقية. فعلى الجماهير أن تبقى في حالة تعبئة، رافضة أيّ تدّخُلٍ خارجي (وهو ما عبّرت عنه في كلّ جمعة لحدّ الآن) وأنْ تمسك بزمام الانتقال الديمقراطي حتى لا تضيع عليها هذه الفرصة التاريخية.
[نشر المقال اولاً في موقغ إنحياز]