تنويه: كتب هذا المقال قبل التصاعد الأخير للتظاهرات في السودان. حيث اعتصم مئات الآلاف من السودانيين أمام مقر القيادة العامة في العاصمة الخرطوم مطالبين برحيل البشير، ورغم ان البشير انصاع لمطالب المتظاهرين بعد أشهر طويلة مارست حكومته خلاله العنف ضدهم، إلا إن الاعتصام ما زال مستمراً حرصاً من المتظاهرين بأن لا تتحول ثورتهم الشعبية الى انقلاب عسكري يأتي بقيادات فاسدة أخرى. هذا المقال هو بمثابة نظرة سريعة على بعض أسباب تصاعد الاحتجاجات.
لم يخرج الشعب السوداني احتجاجاً على الزيادة التي حدثت في أسعار الخبز والمحروقات فقط، بل خرج السودانيين مطالبين بالحياة الكريمة في بلد يسع الجميع، بلد مليء بالثروات لم يطل المواطن منها أي شيء. فقد نصت اتفاقية السلام الشامل المبرمة عام ٢٠٠٥ بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، على ان يتم التوزيع العادل للسلطة والثروة، وهو ما استفاد منه المنتسبون إلى الحزب الحاكم فقط وبعض المواليين له والموقعين على الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة الحالية وبعض الحركات المسلحة، والتي جاءت مشاركاتهم في الحكومة كترضيات. فهب الشعب السوداني مرة أخرى في سبتمبر ٢٠١٣ مطالباً بأبسط الحقوق الأساسية، ولكن سرعان ما خمدت التظاهرات بسبب القمع المفرط والقتل والاعتقالات من قبل مليشيات الأمن والنظام. عملت الحكومة السودانية جاهدة على عكس وجهها الحسن في استقطاب الأحزاب المعارضة في وثيقة تشركهم في الحكم، فاستجاب البعض بينما رفض البعض الآخر، ولكن سرعان ما تذمر المشاركون وانسحب عدداً منهم لعدم التزام الحكومة بما جاء في وثيقة الحوار الوطني ٢٠١٧ من تنفيذ الإصلاح الشامل لأجهزة الدولة وضمان الحريات وغيرها مما نصت عليه الوثيقة.
جاءت التظاهرات الأخيرة في بداية النصف الثاني من ديسمبر ٢٠١٨ نتيجة احتجاجات شعبية مطلبية واضرابات استجاب لها المهنيون الفئويون، فتحولت مسيرتهم المتجهة إلى البرلمان للمطالبة بزيادة الأجور، إلى موكب شعبي يضم كل فئات المجتمع ساخطين ضد تردي الخدمات وضعف المرتبات وسوء الأوضاع، والقوانين المقيدة للحريات، والفساد المالي والإداري الذي طال كل القطاعات، والزيادات غير المبررة في أسعار السلع، وارتفاع أسعار العملات الأجنبية الذي يشير ويبشر بانهيار الاقتصاد في البلاد.
فخرج طلاب الجامعات مطالبين بإجلاس ومقررات أفضل، ومطالبين بإصلاح عام في الحكومة وإيجاد حلول للحيلولة دون انهيار الاقتصاد العام للبلاد. سرعان ما تصاعدت مطالبهم برحيل النظام وسقوطه والمطالبة بالحرية والسلام والعدالة. فأطلق المتظاهرون حملة #تسقط-بس على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعالت هتافات "يا بوليس اقلع طاقيتك/ رطل السكر بقى ماهيتك." "يا بوليس اقلع كاكيك/ نحن اخوانك منك وفيك." دلالة على أن فرد البوليس يعاني أيضاً كما المتظاهرون من باقي أفراد الشعب.
كان رد أجهزة النظام الشرطية والأمنية بالضرب والاعتقالات والقتل، فكانت الإصابات الخطيرة للمتظاهرين تدل على إفراط تلك الأجهزة في العنف. ولكن لم يتزحزح المتظاهرون عن مطالبهم واستمرارهم بالاحتجاجات والتظاهرات، فكان تجمع المهنيين السودانيين يعلن نيابة عنهم عن مواكب الاحتجاج، فتستجيب جموع الشعب السوداني لندائهم ويهتفون فيعلو هتافهم على أصوات القنابل الصوتية والرصاص والغاز المسيل للدموع. و أصبحت المواكب تخليداً ووفاء للحراك و سميت بمواكب (الوفاء للشهداء، أصحاب الحق، المهني والأجسام المطلبية والفئوية، الشهداء، التنحي، النساء المعتقلات، الرحيل، الحرية والتغيير، ضحايا الحروب والانتهاكات، الزحف الأكبر، الرفض، التحدي، استقلال القضاء، يوم المرأة السودانية- تحية لنضال السودانيات عبر التاريخ و تخليداً ووفاءً للرائدات من الحركة النسوية السودانية، واحتفالاً بهن في السابع من مارس قبل احتفاء العالم بيوم المرأة في الثامن من مارس. )
عنف الأجهزة الأمنية ضد المتظاهرين
لم يكن طالب جامعة الخرطوم "مصيري" يعلم أن تلوحيه بعلامة النصر أمام قوات الأمن والشرطة سيؤدي الى بتر كفه، حيث أطلقت عبوة الغاز المسيلة للدموع على يده مباشرة فانفجرت بكفه، أسعف على إثرها لمستشفى بحري التعليمي فجاء قرار الطبيب بالبتر الفوري للكف وألزمت الأجهزة الأمنية المستشفى بإخراج أوراق تفيد بأن السبب في البتر هو انفجار مولوتوف. ولكن بتر كف "مصيري" لم تثنيه عن الخروج للتظاهر مرة أخرى. فعقب خروجه من المشفى وبداية تعافيه، خرج "مصيري" هاتفاً مرات اخرى مطالباً بالحرية والعدالة والسلام مع زميله "بكري" الذي أيضاً بترت كفه في نفس اليوم نتيجة إصابته بعبوة غاز مسيل للدموع على يده مباشرة.
وفي حادثة مؤلمة أخرى أثارت سخط الناس، دهس طفلين بمنزلهم الشعبي بمدينة الدروشاب ببحري، حيث اقتحمت عربة أمن مسرعة منزلهم في صباح باكر مما أدى إلى وفاة الطفل الأول البالغ من العمر 3 سنوات على الفور، ووفاة الآخر ذي الستة أعوام متاثراً بجراحه. وكالعادة جاء تقرير سبب الوفاة خالياً من أي معلومة عن أسباب الحادثة.
استمر وتكرر قتل المتظاهرين حين قامت قوات الامن بإطلاق الرصاص على الشاب "عبد العظيم" عندما لوح بعلامة النصر لقوات الشرطة والأمن بشارع الأربعين في ام درمان. وتم ضرب "محجوب التاج" الطالب في السنة الثانية طب بكلية الرازي ضرباً مبرحاً اثناء اعتقاله في عربة الأمن، وعند فقدانه الوعي تم صعقه بالكهرباء حتى استفاق وتحرك جسده المنهك قامت عناصر الأمن بضربه مجدداً حتى توفى. وكأن ذلك لم يكن كافياً، فقامت القوات الأمنية بدهس مشيعيه بعربات الأمن والأجهزة الشرطية. القتل ايضاً كان مصير الشهيد محمد عيسى الشهير بـ "ماكور"، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة والذي كان من أول شهداء الثورة السودانية في مدينة بربر بولاية نهر النيل.
سقط العديد من الشهداء دهساً بعربات الأمن أو رصاصاً أو تعذيباً وضرباً، ولم يسلم حتى الطبيب المسعف من القتل على ايدي عناصر الأمن. فكانت محصلة شهداء التظاهرات حتى كتابة هذا المقال، ما يقارب ال ٦٢ شهيداً وفقاً لتقارير لجنة الأطباء المركزية.
ولم يكتف النظام بذلك، بل مارس أبشع طرق التعذيب بالضرب المبرح على الرأس والاغتصاب لمعلم معتقل بمحلية خشم القربة بأداة حادة ٥٢سم-على طريقة الخازوق- مما أدى الى تهتك الكليتين وتوقفهما عن العمل و وفاته. وجاء تقريرهم المزيف بأن المعتقل مات نتيجة تسمم بطعام تناوله.
أما الطالب عبد الرحمن الصادق، بجامعة الخرطوم كلية الآداب المستوى الثالث، تم تعذيبه من قبل الأجهزة الأمنية حتى الموت وإخبار اسرته أنه توفى غرقاً فى النيل.
هناك من فقد عينه نتيجة اصابة بعبوات الغاز المسيل للدموع أو الرصاص المطاطي. فالأجهزة الأمنية والشرطية لا تتوانى عن إطلاقها على المتظاهرين في الصدر والرأس والأرجل، وإلزام المستشفيات بإخراج تقارير غير صحيحة للوفاة أو الإصابات يكون السبب فيها حوادث سير أو غرق أو الإصابة بآلة حادة والتسمم.
طالت الاعتقالات الآلاف من المتظاهرين بطرق شتى أثناء خروجهم في المواكب والتظاهرات أو من منازلهم أو من أمام المستشفيات، وتعذيبهم في طريقهم إلى المعتقل أو داخل المعتقلات. وهناك من يقبع داخل زنازين الأمن من بداية التظاهرات ولم يطلق سراحهم حتى الآن، وما زالوا يتعرضون إلى أبشع أنواع المعاملة والتعذيب المميت، ويمنع بعضهم من تلقى العلاج وتناول أدويتهم للأمراض المزمنة. وفى ظل الصمت أجهزة الإعلام، تبدي أسر المعتقلين قلقها على صحة أبنائهم وبناتهم المعتقلين/ المعتقلات النفسية والعقلية التي تنبهوا لها بعد السماح لبعض الأسر بالزيارة، خاصة ان الكثير ممن أطلق سراحهم أكدوا سوء المعاملة والأوضاع داخل المعتقلات والتعذيب المستمر والمنهك، حتى إن بعضهم خرج ومازالت أجسادهم تحمل آثار التعذيب.
حتى تاريخ كتابة هذا المقال ما زالت التظاهرات مستمرة وفى تزايد، وما زالت الأجهزة الأمنية تمارس قمعها وإفراطها فى العنف والإعتقالات والتعذيب. وما زاد الامر سوءاً وتعقيداً إعلان الرئيس السودانى حل الحكومة الحالية وإعلان حالة الطوارئ.
[الصور: لمحمد جمال]