أقرّ جون إيرنيست، الطالب الجامعي الذي شن هجوماً إرهابياً قبل يومين على معبد يهودي قرب مدينة سان دييغو في ولاية كاليفورنيا، في البيان الذي نشره قبل تنفيذ الهجوم، أنّه أضرم النار قبل شهر في جامع المركز الإسلامي في مدينة إسكونديدو. وكرّر إيرنيست، في بيانه، ما كان قد خطّه على جدار مرآب الجامع. من أن مُلْهِمه، ومَثَله، هو بريندون تارانت، الإرهابي الذي شن الهجوم الدموي على الجامعين في نيوزلندا. و سمّى ما قام به تارانت «تضحية».
وهذه الهجمة التي جاءت في آخر أيام عيد الفصح اليهودي هي الثانية على معبد يهودي في الولايات المتحدة خلال ستة أشهر. وتأتي في مناخ عام تتصاعد فيه أصوات العنصريين البيض ومن يقف في صفوفهم من النازيين الجدد. ولا يفرّق معظم المؤمنين بأيديولوجية التفوّق العنصري على الآخر/ين، بين آخر وآخر، سواء كان يهودياً أم مسلماً. ومن الجدير بالذكر أن منفّذ الهجوم على المعبد في بيتسبرغ في تشرين الثاني الماضي كان قد عبّر عن غضبه الشديد من دعم المعبد لجمعيات إعانة المهاجرين واللاجئين (المسلمين) الذين يحاولون «غزو» البلاد. والغزو هي من المفردات التي يروج لها ترامب ومؤيدوه لشيطنة المهاجرين والأقليّات. وكان ترامب قد استغل أزمة اللاجئين التي بدأت العام الماضي على حدود البلاد الجنوبيّة، والتي تفاقمت بسبب سياسات إدارته، لتهييج العنصرية وتصعيد الرُهاب، فصوّر الأمر على أنّه مؤامرة لاختراق حدود الولايات المتحدة ونشر الجريمة والمخدّرات والإرهاب. وادّعى أن القادمين «من الشرق الأوسط» اندسوا في قافلة المهاجرين. وردد منفذ الهجوم على المعبد في بيتسبرغ هذه الكذبة في ما نشره.
واللافت في خطاب القوميين والعنصريين البيض وبياناتهم ومنشوراتهم هو حضور اليهودي والمسلم، معاً، كمصدر خطر محدق، كل بطريقته، وكتهديد حضاري ووجودي واقتصادي، لا بد من محاربته. فيرتبط اليهودي، في المخيال العنصري، بالقوة الإقتصادية العابرة للحدود، وبالجشع، وبالمؤامرات التي تحرّك السياسة الدوليّة بأصابع خفية. وتضاف إلى ذلك صور نمطيّة تحفل بها ترسانة خطاب المعاداة للساميّة، الأوربي المنشأ فكراً وممارسة، قبل أن يتم تصديره إلى العالم، وتعميمه. أما المسلم، فيرتبط بالعنف والإرهاب وخطر التغيير الديموغرافي والثقافي. وإذا كان خطاب «صدام الحضارات» لصموئيل هنتنغتون في كتابه قد أسهم في ترويج هذه السردية، ورسم الحدود حول الحضارات، بدلاً من الأيديولوجيات، فإن عناصرها كانت راسخة أصلاً. ولا بد من الإشارة إلى تهافت نظريات الصدام الحضاري. يكفي أن نذكر أن آخر كتاب نشره هنتنغتون قبل موته، وكان بعنوان «من نحن: تحديات الهوية القوميّة في أمريكا» (٢٠٠٥)، حوّل المدافع الأيديولوجية نحو المهاجرين القادمين من أمريكا الوسطى والجنوبية بدلاً من المسلمين. وكانت «الثقافة» (وهي البديل المقبول لـ «العرق» أو «العنصر») والدفاع عن حدودها هي التحدّي. فالولايات المتحدة، بحسب هنتنغتون، بلد تأسّس على القيم البروتستانتية، والفردانية، واللغة الإنگليزية، واحترام القانون (لا ذكر، البتة، طبعاً لضحايا الدولة من المستعبدين أو السكان الأصليين) وأكّد هنتنغتون على ضرورةالدفاع عن هذه القيم الجوهرية أمام القادمين من ثقافة أخرى.
يتجاور اليهودي والمسلم، كـ «آخر» في مخيلة العنصريين البيض، وكهدف شرعي للعنف والإرهاب. ويردد الكثيرون في معرض استنكارهم لأفعال كهذه أنّ رُهاب الإسلام، والمعاداة للسامية، وجهان لعملة واحدة. وهم على حق. وسبق أن أشار إدوارد سعيد، وآخرون بعده، إلى الجذور الفكرية المشتركة بينهما. (ستعقّد الصهيونيّة، التي غذّتها المعاداة للسامية في أوربا الأمور، وستؤدي جرائم دولتها إلى إنتاج نسخ جديدة من المعاداة للساميّة. والمفارقة هي تحالف الكثير من الصهاينة اليوم مع يمينيين معادين للسامية، والأمثلة كثيرة من نتانياهو وغرامه بالهنغاري فكتور أوربان، إلى صهاينة الكونغرس واليمين المسيحي في الولايات المتحدة).
تجاوَر اليهودي والمسلم في المخيال الأوربي في العصور الوسطى. فكان اليهودي هو الآخر الذي يمثّل الخطر الداخلي. بينما كان المسلم الآخر البعيد الذي لا يقلّ خطورة. وتطلّب النقاء والدفاع عن حدود النقاء الوهميّة مراقبة الآخر، وإبقاء في مكانه، أو إقصاءه وطرده، إن أمكن. وقد ورث الغرب «الجديد» (الذي يمكن أن نفترض أن واحدة من بداياته المبكرة هي سنة ١٤٩٢ التي شهدت إخراج «الآخرين» من شبه جزيرة ما، وانطلاق حملة لغزو قارات أخرى وإزاحة آخرين) ورث هذا التاريخ وترسبّاته. وورث معه الأطر والتراتبيات التي تحدّد وتبرر التفوّق العرقي والحضاري، على الآخر. . . أيّاً كان.