تلقي "حادثة مقتل خاشقجي" الضوء على القيم الأخلاقية/حقوق الإنسان بإعتبارها ما يميز دول الحداثة – أو التي تعد نفسها في طور التحديث- مثل الخطاب الجديد الذي حاولت أن تنتجه السعودية ما قبل مقتل خاشقجي، هو حادث في الواقع قضى على أي مؤشر للتقدم الحقوقي داخل الدولة السعودية، ولست أكتب هنا بصدد شجب السياسات السعودية بل لطرح فكر فلسفي يجادل ويخلخل بنى الفكر العربي ومحاولًا أن يصل حتى لنقد منظومة القيم الأمريكية/الغربية الليبرالية خصوصًا فيما يتعلق بالتحالفات الديكتاتورية، وتنحية أفكار تتعلق بالسجن والتعذيب والقتل لمعارضين.
وقد نظر الإعلام الأمريكي بزاويتين للرؤية: الإعلام اليميني ينظر للقتل بشكل دفاعي معياريته المصلحة الأمريكية، ويعترف فيه بشرعية وجود هذه الأنظمة ويبرر لمثل هذه الأفعال.
وعلى الجانب الآخر نجد الإعلام الليبرالي الذي يستنكر أفعال السجن والتعذيب والقتل لأنه يؤمن بوجود منظومة للقيم وحقوق الإنسان – ولكنها تبدو في الأزمة الأخيرة إنتقائية عندما نعقد فقط مقارنة بسيطة بين حجم تغطية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده، والحرب اليمنية وكلا المثالين على علاقة وثيقة بالسياسات السعودية والتحالفات الدولية.
ففي الواقع ومع مرور الزمن يتضح أن كلا الخطاب اليميني الغربي والليبرالي يؤمنان بوجود "خرافة" ولكن هناك فريق يدافع عن "القتل من أجل المصلحة" بشكل مباشر وآخر يدافع عنه بشكل غير مباشر تحت شعار "مَن هو القتيل؟".
ومع إختلاف وجهات النظر وردود الأفعال حول "القتل" يمكن طرح عدة أسئلة وهي: هل حقوق المواطنين في الواقع هي "مُعطاة" لهم ولم يحصلوا عليها؟ وهل يمكن في أي لحظة أن يُجردوا منها؟ وكيف يتم تجريد شخص ما من حقوقه السياسية –خاشقجي كمثال- ليُعتبر شخصًا مهدور الإنسانية والأهلية اللازمة للعيش كفرد كامل الحقوق في أي مجتمع وتحت أي سلطة؟
وبشكل أبسط وأكثر تكثيفاً للفكرة سأحاول تقديم إجابات عما سبق من تساؤلات عبر تعميق دراسة مفهوم السلطة وطرح مفهوم الإنسان "مهدور الدم" في العصر الحديث – وهذا من خلال مثال وهو جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي ودفع الدية.
فكر فلسفي لابد منه
قد عرفت الثقافة العربية تحديدًا مصطلح الإنسان الذي أُهْدر دَمَه أي مَن تم السماح بقَتله، وأُسقط عن قاتله القِصاص والدِّية. وللحظة تاريخية ظن البعض أن المصطلح بدأ في الخفوت لإمتلاك النظم القبائلية مؤسسات عقابية وتطور مفهوم العقاب أو حتى التعذيب بشكل عام. خصوصًا أن الدولة الماقبل حداثية قد احتكرت العنف المادي وجعلته ظاهراً وواضحاً لمواطنيها وتمثل هذا في امتلاك النظام السياسي عقوبة "سلب الحياة" كالإعدام، إلى جانب "منح الحياة" عبر الدفاع عن الحدود بواسطة الجيوش وجمع الضرائب .. إلخ.
وعلى العكس من هذا - تميز العصر الحديث بإمكانية النظم السياسية من إذابة السلطة وتجاوز مفهوم احتكار العنف وأن تتوسع في إنتاج الحياة والسيطرة عليها عبر العمل على زيادة عدد السكان والاهتمام بمستوى معيشتهم والإرتقاء بظروف حياتهم. وقد أدى هذا لإنتاج صور جديدة من السلطة عبر مؤسسات تمارس الإحصاء والرعاية الصحية خصوصًا: الصحة العامة والصحة الإنجابية، التي لم تكن من المسائل التي اهتمت بها السلطة الماقبل حداثية. وهذا ما عمل فوكو على وصفه بالسلطة الحيوية في تاريخ الجنسانية تحت عنوان إرادة المعرفة.
ومع هذه السلطة الحيوية الحداثية المُتغلغلة في نسيج المجتمع والتي تتعلق بأجساد البشر والتي تبلغ ذروتها في المراقبة الذاتية التي يمارسها البشر علي أنفسهم وأجسادهم في ملبسهم ومأكلهم ومنامهم، في مشيهم وجلوسهم، في المصنع والمكتب والمنزل لم يتحول مفهوم الرعايا إلى مفهوم المواطنين كما تروج النظرية الليبرالية[1] بل تم تحول مفهوم الرعايا إلى مفهوم «السكان». ولهذا رسم فوكو من خلال مفهوم السلطة الحيوية صور تحول ممارسة السلطة وسعيها نحو حكم لا يسيطر على الأفراد فقط، من خلال عدد معين من الإجراءات التأديبية والانضباطية وإنما مجموع الأحياء الذين يكونون سكانًا، ومع ظهور مفهوم السكان فإن النمط السياسي السائد لم يعد السلطة السيادية بل السلطة الإنضباطية.[2]
ومن هذا المنطلق تشكلت علاقة الفرد-السلطة داخل الإطار الاجتماعي عبر استراتيجيات ممارسة الهيمنة الإنضباطية وبلورة وضمان توازن مرن بين علاقات القوة والحريات. لكن جريمة قتل "خاشقجي" والتي جاءت بأمر مباشر من قلة حاكمة أو فرد –لم تنته التحقيقات بعد-، تجعل فكرة التوازن المرن بين القوة والحرية تتنحى جانبًا لصالح مفهوم "المهدور دمه" والذي يطل برأسه في شكل جديد حداثي مقرون بعملية تبرير واسعة إعلاميًا وثقافيًا، في إشارة إلى إن السلطة الحيوية الحداثية التي تميزت نظريًا –كما أوضحنا- بشكل أساسي عن السلطة ماقبل الحداثية خصوصًا في تخطي فكرة سلب الحياة أو الإبقاء عليها والتي كان الملوك والمؤسسات الدينية "الكنسية - مثلًا" يمارسونها على البشر بوصفهم رعايا بحاجة لمزيد من التوسيع أو إن صح التعبير "الضبط".
وعلى هذا الأساس قدم الفيلسوف الراديكالي جورجيو أغامبين أحد أهم فلاسفة إيطاليا المعاصرين، إستكمالًا لما تركه فوكو ناقصًا. فيما يخص عملية النبذ/إهدار الدم/الإستباحة في ظل دولة الحداثة.
أغامبين وخاشقجي المهدور دمه
يطرح الفيلسوف الإيطالي الراديكالي جورجيو أغامبين في كتابه "المنبوذ: السلطة السيادية والحياة العارية" مصطلح الـ Homo Sacer وهو مصطلح مستمد من القانون الروماني القديم. ويشبه مصطلح "مهدور الدم" في البيئة العربية القبلية والتي يمكنا أن نشير لها أيضًا في ظل معالجة أغامبين الحداثية بمصطلح "الحياة عارية"، والتي يعد فيها أي معارض أو داعي للإصلاح كـ "الميت الحي".
حيث يرى أغامبين أن الدول في ظل الحداثة تعمل على خلق العديد من الـ "المهدور دمهم" في حالة شبيهة للهومو ساكر اليوناني وهذا يتم عبر استبعاد الفرد المعارض/الداعي للإصلاح من المجتمع الديني ومن كل الحياة السياسية، ولا يمكن أن يشارك في طقوس قبيلته، ولا يمكنه القيام بأي عمل صالح من الناحية القانونية. ما هو أكثر من ذلك، هو أن يتم اختزال وجوده بأكمله إلى الحياة العارية وتجريده من كل الحق بحكم حقيقة أن أي شخص يمكنه قتله دون محاسبته على ارتكاب القتل. يمكن أن ينقذ نفسه فقط في رحلة دائمة أو أرض أجنبية[3].
وعبر هذه الآلية تصبح مفاهيم السجن والتعذيب والقتل مفاهيم إقصاء بالمقام الأول، حيث يتم القتل تحت غطاء إقصاء الشخص المستهدف من مجتمعه السياسي وبالتالي من إنسانيته ليصبح إنسانًا ذا إنسانية عارية.
وبالمقارنة مع ما جرى في الفترة الأخيرة من حياة الصحفي المعارض "جمال خاشقجي" فإن جريمة القتل جاءت بعد المراحل التي شرحها أغامبين عن كيفية صنع شخص مهدور دمه لكن في عصرنا الحديث.
فجمال خاشقجي تعرض لحملة تشويه في السعودية، وخرج متوجهًا إلى أمريكا ليدعو منها إلى إصلاحات سياسية داخل بلاده، إلى أن تم قتله في قنصلية بلاده في تركيا، وكان القتل هنا/سلب الحياة بقرار من السلطة السعودية تدريجيًا ففي البداية كان إقصاء "خاشقجي" خارج الحدود يكرس لسياسة الأسرة المالكة على المجتمع الذي بدوره تأثر بسلطة الأسرة المالكة عليه، واستقبل طرد شخص منتقد أو داعي للإصلاح مثل "جمال خاشقجي" من دائرته المجتمعية بدون أي إعتراض ملموس وواضح. وهذا ما سلب "خاشقجي" بشكل غير مباشر شرعية الحياة في الواقع لينتهي الأمر بقتله بعملية مخابراتية ساذجة للغاية.
لهذا ينظر أغامبين لواقعنا بوصفه المحطة الكارثية للمصطلح الذي تعود جذوره إلى اليونان القديمة "هدر الدم" والتي أدت إلى معسكرات الاعتقال النازية مثلًا، وجعلت النظام السعودي -كمثال تطبيقي حديث- محاولًا أن يمارس السلطة السيادية القديمة والحيوية الحداثية من خلال قتل البشر الذين جرى حرمانهم من الوضع القانوني الكامل.[4]
وبهذا يصير العصر الحديث وفقا لفكر المنبوذ ليس قطعًا مع التقاليد الغربية/العربية القديمة في هدر الدم والإستباحة ولكنه تعميم وتجذير ما كان ببساطة موجودًا منذ البداية.
نهاية معلقة
أستعمل أغامبين فكرة المنبوذ أو مصطلح الهومو ساكر ليشير إلى أن السلطة أصبحت الآن في العالم الحداثي مُرادفاً للقوة التي تسمح بالتقرير في دولة/قنصلية مثلًا وعندها يتوقف الوضع القانوني الطبيعي/الحيوي لفوكو. فقد تحولت القوة السيادية والقوة الحيوية لمُحطم للهوية الإنسانية، ومن خلال نزع غطاء الجنسية القومية/الوطنية، وسيادة الدولة تم الكشف عن مساحة من الفراغ أو حسب أغامبين عري الحياة المحضة حيث يمكن كسر حقوق الإنسان.
فمقتل خاشقجي المُحاط بالتسريبات والمفاوضات الدولية لهدر دمه يكشف عن سر قوة الحداثة، سر الليبرالية الغربية والتحديث العربي الذي أنتج مفهوم جديد لقوة وسلطة الدولة التي تعمل وتهتم بإنتاج الحياة المحضة/العارية وليس إنتاج ممارسات/مؤسسات سلطة فوكوية، فالدولة الحديثة لم تعد تواجه حياة خاضع/معارض تريد قمعه، ولا حياة عدو تريد قتله، ولكن تأسس حياة إقصاء وإستبعاد وهدر، حياة "ما بعد القمع". الحياة المحضة/العارية هي حياة تقع بين الحياة والموت، ويمكن التعرف عليها من خلال حياة رجل مُدان أو شخص ما في غيبوبة.[5]
هوامش