يظهر خمبابا بلا سابق إنذار في «ملحمة گلگامش». بخلاف شخصيّة أوتانپشته التي يُمهَّد لها منذ بداية الملحمة عند الحديث عن عالم ماقبل الطوفان ورحلة گلگامش إليه، يبرز اسم خمبابا فجأةً. يلفُّ الغموض قصة خمبابا، إذ لا يتكشَّف للقارئ تمامًا مع أنّ قصة قتاله مع گلگامش تمتدّ من الثلث الأخير للّوح الثاني إلى نهاية اللوح الخامس. أطول قصة في الملحمة فعليًا. أطول حتّى من قصّة أوتانپشته. وللمفارقة، يتزايد الغموض مع تكشُّف القصة أكثر فأكثر.
من هو خمبابا؟ نعلم من الملحمة بأنّه الوحش الذي كلّفه الإله إنليل بحراسة غابة الأرْز. الجملة الأخيرة ليست دقيقةً تمامًا، لأنّ مَنْ ينطق اسمه ويقترح قتله هو گلگامش مع أنّه سيقول لاحقًا: «سأواجه نزالًا لا أعرفه،/ [سأسلك] طريقًا [لا أعرفه]». ولكنّ إنكيدو هو الخبير الفعليّ بخمبابا، إذ يسرد تفاصيل شديدة الدقّة عنه. سنشهد هنا أول نزاعٍ في الآراء بين گلگامش وإنكيدو بعد صلحهما. يصرّ گلگامش على المضيّ في مهمّته، فيما يبدأ إنكيدو بوضع العراقيل بهدف نسف الفكرة بأكملها. ويبدأ صراع المرايا: يرى گلگامش نفسه مُخلِّصًا وبطلًا ويرى إنكيدو جبانًا، وفي المقابل يرى إنكيدو نفسه عقلانيًا ورجل سلام، ويرى گلگامش متهوّرًا. تتزايد حدّة الغموض. بالأحرى ينتقل الغموض من خمبابا إلى إنكيدو. من أين أتى إنكيدو بهذه التّفاصيل؟ وكيف يعرف بوجود الآلهة وتراتبيّتها؟ هذه هي الحلقة الناقصة في لعبة الأصداء والمرايا التي تقوم عليها قصة خمبابا. وسيتكشّف لنا حين نعالجها أنّ شخصيّة إنكيدو مُغايِرةٌ للصورة التي تطرحها الدراسات والقراءات في الملحمة على تنوّعها. هل إنكيدو بدائيٌّ حقًا؟ هل هو جاهل؟ والأهم، من هو إنكيدو؟ ما نحن متأكّدون منه هو أنّ إنكيدو ليس جبانًا، إذ مَنْ يواجه گلگامش ابن الآلهة لن يتوقّف أمام عقبةٍ أصغر تتمثّل بحيوان متوحّش اسمه خمبابا. ما سرّ تردّد إنكيدو هنا؟
يبدأ التّمهيد لرحلة البطلين بحوار عبثيّ بينهما. يواصل گلگامش إصراره العنيد على قتل الوحش، ويواصل إنكيدو تثبيطه. نحن أمام مرآتين هنا: مرآة متّقدة مستعرة برغم جهلها (بسبب جهلها ربما؟)، ومرآة متوانية خابية برغم معرفتها (مجددًا، بسبب معرفتها ربما؟). والمرآتان غائصتان في أعماق مرآة أخرى مجهولة بالمطلق، هي مرآة خمبابا الذي لم نره بعد، بل نحاول رسم صورته استنادًا إلى المرآتين المتضادّتين. التهوُّر ليس أمرًا جديدًا بالنّسبة إلى گلگامش، فهذا ما نلمسه منذ السطور الأولى للملحمة، ولكنّ تعقُّل إنكيدو هو العنصر الغامض هنا. لم نر هذا التعقُّل حين اندفاع إنكيدو لمواجهة گلگامش ابن الآلهة، ولن نراه حين يواجهان ثور السّماء. ويبدو للوهلة الأولى بأنّ التعقُّل هو من سينتصر، إذ ينتقل تردُّد إنكيدو بالعدوى إلى المستشارين المسنّين الذين يميلون لرأيه لا لرأي الملك گلگامش. ونجد أصداء تحذيرات إنكيدو تتلاحق حرفيًا على ألسن المستشارين الذين لا يعرفون خمبابا بدورهم: «تلك رحلةٌ يجب ألا تتمّ/ وذاك رجلٌ [يجب ألّا] يُنظَر إليه». مع سيلان قطرات المعرفة من إنكيدو إلى المستشارين يصفو التّفكير، ويرتخي الجسد كلّه تاركًا الطاقة كلّها للعقل، ولكنّ هذه القطرات تواجه عقلاً مغلقًا عند گلگامش الذي تركّزت طاقته كلّها في جسدٍ مندفعٍ إلى القتال حيث لا وقت ولا مجال للتفكير، مع أنّ العدوّ مجهول كليًا. بل الأدهى أنّ القتال كلّه وليد لحظةٍ غامضة.
لسنا في زمن الديمقراطيّة هنا. إنْ قرّر الملك القتال فلا رادّ له. في ظلّ حُكم ملكيّ مطلق في أوروك، ينحصر دور المستشارين في الشّورى، مع التزامهم بأوامر الملك. لذا سلَّم المستشارون بالأمر الواقع بعد تقريعهم. فلتذهب لو شئت، ولكن لا تتجاهلنا. عدم التّجاهل هنا يعني نقل صلاحيّات المستشارين إلى إنكيدو، لأنّه (بحسب رؤيتهم للأمور) الأعرف بالطريق وبالمخاطر وبالعدوّ، عدا عن كونه «واعيًا بالنّزال وملمًّا بالقتال». ومع تلاشي تأثير التّحذيرات التي يبدّدها طيش گلگامش واندفاعه، تهدأ نبرة كلمات إنكيدو فجأة فيكتفي بدور النّاصح: «كما رغبتَ قمْ برحلتك/ لا يَخَفْ قلبُك، ابق متطلّعًا إليّ،/ [ففي] الغابة أعرف مقامه،/ خمبابا، [والطّرق التي] يمشي فيها».
تستوقفنا هنا جملتان محوريّتان، ثانيتهما مُكرَّرة بمفردات مختلفة قليلًا: «أعرف مقامه»، أي أنا خبير به. أما الأولى فغريبة جدًا: «لا يَخَفْ قلبك». من قال إنّ گلگامش خائف؟ انقلبت المرايا هنا لنجد أنّ إنكيدو هو من يتعامل مع الأمور بمبدأ القويّ الذي يجب عليه إزالة الخوف من قلب رفيقه. الجملة غريبة هنا لأنّ الخوف، تبعًا لسطور الملحمة، يرتبط بإنكيدو نفسه لا بگلگامش. ما المعنى هنا إذن؟ لا معنى إلا أنّ إنكيدو لم يكن خائفًا من المواجهة أصلًا. صحيح أنّه متردّد، ولكنّه ليس خائفًا. گلگامش المندفع هنا سيخاف لاحقًا كما يدرك إنكيدو لأنّه العارف كما سيتكشّف لنا. ولكن تبقى مسألة التردّد غامضة حتى الآن.
تتلاحق سطور الملحمة لتصف طريق الرحلة والمسافات، وتنتهي قُبيل المواجهة بخمسة أحلام يراها گلگامش ويؤوّلها إنكيدو. سأُفرِد لكلٍّ من الطُّرق والأحلام مقالًا مستقلًا، وما يهمّنا هنا هو أنّ تأويل إنكيدو للأحلام يزيد من ثقة گلگامش ببشارة الانتصار على خمبابا. والأهم هو اكتشافنا لصفةٍ جديدةٍ لدى إنكيدو: إنّه يؤوّل الأحلام. لا تُبيِّن الملحمة مصدر عِلم إنكيدو بتأويل الأحلام، بل تزيد الغموض المُحيط بشخصيّته عمومًا. ولكن لنترك هذا ولنبق في قصة خمبابا. وصل الاثنان إلى مشارف غابة الأرز، وظهر خمبابا أخيرًا.
منذ ولادة فكرة قتل خمبابا إلى لحظة ظهوره للمرة الأولى، ليس كلام إنكيدو إلا أصداءً متتابعة لتردّده الأوّل، وكلام گلگامش بالمقابل أصداء متتابعة لاندفاعه المتهوّر الأول. ولكن مع ظهور خمبابا تنقلب الأمور كليًا، وتتبادل الأصداء مواقعها. الظُّهور هنا بمعنى المعرفة والانكشاف: تنكشف أمامنا شخصيّة خمبابا فتتسبّب المعرفة بفوضى. بعد أن ينهي خمبابا نطق أول مقطع من كلامه، لا يجد القارئ أدنى تغيير في كلمات البطلين، ولكنّه – في الوقت ذاته – سيشهد انقلابًا تامًا في الكلمات. تتردّد أصداء الكلمات حرفيًا تقريبًا، ولكن بعد عَكْس المتكلّمَيْن: كلام گلگامش على لسان إنكيدو، والعكس بالعكس. بوسعنا فهم خبوّ نار التهوّر لدى گلگامش، إذ رأى عدوّه أمامه للمرة الأولى، وبدأ التعقُّل المتردّد. ولكن ما سر الحماس الذي ألهبَ إنكيدو فجأةً؟ كلمات خمبابا الأولى القليلة ستكشف الكثير عنه وعن إنكيدو:
فتح خمبابا فمه ليتكلّم يقول لگلگامش:
(وحدهم) الحمقى، يا گلگامش، يأخذون المشورة من البدائيّ والمتوحّش.
لماذا جئت إلى هنا أمامي؟
تعال يا إنكيدو، يا بيضَ سمكةٍ، يا مَنْ لا يعرف أبًا،
يا فقيس السّلحفاة والرّفش، يا مَنْ لم يرضع حليب أم.
رأيتك في صغرك لكنّي لم أقترب منك، فما كان [...] ليملأ كرشي
[الآن] هي خيانةٌ أن تجلبَ گلگامش أمامي،
وتقفَ، يا إنكيدو، مثل محاربٍ غريب.
في المقطع أربع نقاطٍ محوريّة:
1. يظنّ خمبابا أنّ إنكيدو هو صاحب فكرة الرحلة إلى غابة الأرز، لا گلگامش.
لا نعلم سبب ظنّه هذا، ولكنّه ربّما لم يكن ليتخيّل أنّ گلگامش سيجرؤ على المضيّ في هذه الرحلة، لأنّهما متشابهان بمعنى ما: كلٌّ منهما مُوكَّلٌ من الآلهة بمهمّة مستقلّة عن مهمّة الآخر. خمبابا مختصّ بحراسة الغابة، وهي مجالٌ لا يقع ضمن صلاحيّات أو سيطرة المدينة؛ گلگامش ملك على المدينة ولا علاقة له بما يقع خارج حدود المدينة. وبذا لن يخطر لخمبابا أنّ گلگامش سيتمرّد على خطط الآلهة ويحاول تخطّي حدوده. وفي الوقت ذاته، لا تقدّم لنا الملحمة سياقًا واضحًا نفهم منه سبب ولادة فكرة الرحلة والقتال لدى گلگامش. ربّما هو التهوُّر؛ أو ربّما الزهوّ بعد تخلّصه من أكبر تهديد لعرشه: أي إنكيدو، وبذا باتت الطريق مفتوحةً أمامه خارج حدود المدينة، بحيث يتعاون «البشريّان» ضدّ «الحيوان المتوحّش». ومن هنا تأتي أهميّة النقطة الثانية.
2. ينسب مؤرّخو الفلسفة إلى أنكسمانذروس الملطيّ (Ἀναξίμανδρος)، وهو أحد الفلاسفة الإغريق قبل-السقراطيّين، بأنّه خمَّنَ أنّ الكائنات الحيّة الأولى عاشت في وسط رطب، ومع تزايد عمرها وتغيُّر ظروفها بدأت التّأقلم للعيش في وسط جاف. وبأنّ البشر كانوا يعيشون داخل مخلوقات هي أسماك أو شبيهة بالأسماك إلى أن وصلوا سنّ البلوغ وصاروا قادرين على إطعام أنفسهم والعيش باستقلاليّة، فخرجوا من تلك الكائنات، وواصلوا حياتهم كما نعرفها الآن. هذا بالتأكيد لا يعني اكتشاف نظريّة تطوُّر بالمعنى الداروِنيّ، ولكنّه انطلاقة لتفكيرٍ علميّ بعيد من النظريّات الميثولوجيّة. المهمّ هنا هو أنّ هذا «الاكتشاف» ليس جديدًا ومحصورًا بالإغريق، بل هو موجود قبلهم بما يقارب 1500 عام: إنكيدو «بيض السمكة»، و«فقيس السّلحفاة». لا أودّ التفصيل في هذه النقطة لأنّها تقع خارج نطاق التّحليل الأدبيّ، وترتبط أكثر بالمجال الفلسفيّ والعلميّ، ولعلّ أحد الباحثين يتفرّغ للموضوع. ما يهمّنا هنا هو التّناقض الذي يرتبط بأصل إنكيدو: في اللوح الأول تروي الملحمة أنّ الآلهة أرورو «اقتطعتْ طينًا، سَبَكَتْه في البرّيّة/ وفي البرّيّة خلقت إنكيدو المُحارِب»، ولكنّ خمبابا يتحدّث عن عمليّة ولادة مختلفة؛ تفقيس من بيضة. يتضاعف غموض أصل إنكيدو حين ننتقل إلى النقطة الثالثة.
3. يقول اللوح الأول إنّ أرورو خلقت إنكيدو «مغطّى بالشّعر كلّ جسمه/ أفرعَ شعر الرأس كامرأة/ ينسدل شعر رأسه ويتكاثف كالسّنابل»؛ أيّ أنّ إنكيدو خُلق على صورته الحاليّة. ولكن – مرةً أخرى – نجد قصة مختلفة على لسان خمبابا الذي يقول إنّه رأى إنكيدو صغيرًا. لا تعرض لنا الملحمة حلًا لهذا التّناقض، ولا يمكن لنا حلُّه أو تفسيره. سيبقى لإنكيدو قصّتا خلقٍ متباينتان ومتناقضتان، ولا سبيل إلى التّوفيق بينهما، إلا إذا افترضنا أنّ الزّمن في اللوح الأول غير مقصودٍ بحرفيّته، وهذا يعني بالضّرورة أنّ ثمّة فاصلًا زمنيًا يُقاس بالسّنوات، لا بالأيام، يفصل بين خلق إنكيدو وبين قتاله مع گلگامش. ولكنّ القصّتين تتّفقان على أنّ إنكيدو ابن الغابة، بصرف النّظر عن ظروف خلقه وولادته. وهنا تكمن أهميّة النقطة الرابعة والأخيرة في كلام خمبابا.
4. بما أنّ خمبابا ظنَّ أنّ إنكيدو هو صاحب اقتراح الرحلة والقتال، ستكون لعبارتَيْ «هي خيانة» و«مثل محارب غريب» تبريراتها المنطقيّة التي ستبدّد ضبابيّة مشاعر التردّد التي كانت تُكبِّل إنكيدو. يتعامل خمبابا مع إنكيدو بمنطق الأخوّة أو الرفاقيّة، فهما ينتميان إلى جنس أبناء الغابة الذي لا يجب أن يختلط أو يتعامل مع جنس البشر في المدن. وبشكلٍ طبيعيّ، تجنُّب الاختلاط يعني بالضّرورة أنّ أيّ «تحالفٍ» مع أبناء المدن يعني الخيانة والدّخول في خانة الغرباء أو الأعداء. وهذه ليست مشاعر خمبابا وحده، بل هي مشاعر إنكيدو أيضًا وإنْ كان قد أخفاها خلف قناع «التعقُّل» منذ ظهور فكرة الرحلة. ظروف خلق إنكيدو الفريدة، وحياته الغريبة جعلا منه كائنًا يعيش على الحافّة. هو ليس بشريًا تمامًا، وليس بريًا تمامًا. هو يعاني من اغترابٍ مزدوج يحاول تخفيف وطأته منذ أنّ شبَّ ربّما. حاول كسر عزلته من خلال التقرّب إلى الحيوانات مع أنّهم لا يشبهونه، وتحاشى (كما يمكن لنا الافتراض بقوّة) معاشرة خمبابا لأنّه هو أيضًا لا يشبهه، ولا يُكنّ له مشاعر طيّبة. وبعدما تعرّف إلى گلگامش، ظنَّ أنّه سينفض عزلته كليًا، مع أنّه يُدرك ضمنيًا أنّه ليس بشرًا كأبناء المدن. هو الغريب الأبديّ الذي يحاول تشييد جسورٍ طوال الوقت. ولكن حينما خرج گلگامش بفكرة قتل خمبابا، استيقظت الرّوح البرّيّة داخل إنكيدو، واتّقدت نيران اغترابه مجددًا، بل لعلّها تضاعفت: بات إنكيدو راغبًا بمدّ جسور التّواصل مع الجميع من دون أن يسمح لأيّ طرف بالاعتداء على طرف آخر. ومن هنا، تتّضح أسباب تردّده.
هناك نقص كبير في اللوح الخامس الذي يُصوِّر الحواريّة بين خمبابا من جهة، وگلگامش وإنكيدو من جهة ثانية، ولكن يمكن لنا فهم أنّ خمبابا بدأ يشعر بهزيمته بسبب تدخُّل الرياح التي سلّطها شمش عليه، فشَرَع خمبابا بالتماس أيّة فرصة ليعفو عنه گلگامش ويحفظ له حياته، ويتلمّس من جهة أخرى وساطة إنكيدو ليتدخّل فيُقْنع گلگامش بإبقاء حياة خمبابا. اللافت هو أنّ نبرة خمبابا المنكسرة وهو يُحاور گلگامش حافظتْ على عنجهيّتها حين محادثة إنكيدو. حتّى تهديد الموت لم يكن ليوقف خمبابا من التّعامل مع إنكيدو على أنّه مجرّد خادم لگلگامش وبأنّه – وهذا أهم – أدنى مستوى حتّى من خمبابا، ربّما لأنّ خمبابا صان حريّته بينما فقدها إنكيدو حين روّضته المدينة. گلگامش ما يزال على تردّده وخمبابا ما يزال على تقريعه لإنكيدو وإنكيدو ما يزال على حثّه لگلگامش كي يوجّه ضربته القاتلة لتنتهي دوّامة الضّجيج هذه. استجاب گلگامش أخيرًا، ووجّه طعنته الأولى، ولكنّ إنكيدو يحثّه على توجيه ضربة ثانية حاسمة لإنهاء حياة خمبابا.
لا يُتيح لنا النّقص إدراك تفاصيل الحواريّة بأكملها. إذ لا نعلم سبب تردّد گلگامش في توجيه ضربته حتّى بعد أن أنهكت الرّياحُ خمبابا الذي يواصل توجيه لعناته النبوئيّة ضدّ گلگامش وإنكيدو حيث سيموتان ولا ينالان الخلود، فيما إنكيدو سيموت وحيدًا معزولًا إلا من گلگامش. وهذا ما سيتحقّق. هناك نقطة غامضة في تردّد گلگامش ومواصلة الحواريّة من طرف واحد تقريبًا، هو طرف خمبابا. ولكن أظنّ أنّ هناك سحرًا ما سلّطه خمبابا على گلگامش الذي بدا ذاهلًا عن الحواريّة كلّها، ولا يستجيب لإلحاحات إنكيدو المتلاحقة، إلى أن استجاب أخيرًا على نحو مفاجئ. ربّما لأنّ خمبابا أدرك أنّ موته قادم لا محالة ولا فائدة تُرجى من إبقاء التّعويذة التي شلّت گلگامش، أو ربّما لم تعد طاقته قويّة لدرجة إبقاء التعويذة. هذه كلّها تكهّنات وتخمينات لا سبيل إلى تأكيدها أو نفيها، ولكنّ الأمر المؤكّد الوحيد هو أنّ إنكيدو لم يُبادر إلى قتل خمبابا مع أنّه متحرّر من لعنة التعويذة ومُدجَّج بأسلحته. كان ينتظر مبادرة گلگامش حصرًا. هل أدركَ إنكيدو أنّ أسلحته لن تقتل خمبابا؟ لا أظنّ لأنّها مُطابِقةٌ لأسلحة گلگامش، عدا عن كونهما متساويي القوّة تقريبًا. أم ربّما لم يشأ «خيانة» خمبابا حقًا، وقتله؟ لعلّ البعض سيشير إلى أنّ إنكيدو متواطئ أصلًا، وهو شريك في القتل. صحيح بمعنى ما، ولكنّه أدرك أنّ الفرصة قد فاتت لتوفير حياة خمبابا، ولكنْ لن يكون هو القاتل. ما من سطر في اللوح الخامس يقول صراحةً إنّ إنكيدو وجّه أيّة ضربة، بل اكتفى بدور المراقب. وكأنّ الروح البريّة التي استيقظت داخله كبحته عن قتل رفيقه المتحدّر من البرّيّة نفسها. قُتل خمبابا على يد گلگامش وحده. هذا ما تقوله سطور الملحمة بوضوح، ولا معنى لأيّة تأويلات أخرى تُناقض السُّطور.
هل هو صراعٌ بين المدنيّة والبريّة؟ هل هو صراع بين الآلهة بأيدي تابعيها؟ هل هي مرحلة انتهت من أجل بداية مرحلة أخرى تكون فيها كلمة المدينة، كلمة البشر، هي العليا؟ لا سبيل إلى إجابة حاسمة لهذه الأسئلة. وكذا الأمر بالنّسبة إلى براءة إنكيدو من دم خمبابا. النّتيجة الوحيدة التي يمكن لنا استخلاصها من أطول قصص الملحمة هي أنّ الانتصار كان على يد الملك البشريّ ابن الآلهة. أما الكائن البريّ شبه البشريّ فبقي على اغترابه الذي تضاعف درجات. اغترابٌ بوطأة ثقيلة لا سبيل إلى تخفيفها إلا بمقتلة جديدة في القصة التالية التي تُصوِّر معركة البطلين مع ثور السّماء. ولكن حتّى هذه المعركة ربّما لن تخفّف اغتراب الكائن البريّ. لن يُنهي اغترابه إلا الموت. موت الحياة البريّة والحياة الهجينة، وانتصار المدينة بآلهتها وبشرها.
[الاقتباسات مأخوذة من ترجمة نائل حنون للملحمة]