شاع استخدام مفردة «التسامح» كثيراً في وسائل الإعلام، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، في السنوات الأخيرة. كما أصبحت لازمة في الخطاب السياسي الرسمي للكثير من الأنظمة، وفي خطاب معارضيها، على حد سواء. ويرتبط «التسامح»، بمعناه السائد حالياً، بقيم وممارسات إيجابية تهدف إلى إرساء السلم المجتمعي، والسلام العالمي، والتعايش مع الآخر/ين. ليست المفردة، ولا الخطاب الذي تحيل إليه حديثين، بالطبع. فللتسامح، كفكرة، تاريخها في الغرب. ومثل الكثير من المفردات والمقولات التي عُمِّمت، وتُرجِمَت، وتعولمت، على نطاق كوني، فغالبا ما يُبْتَرُ تاريخها، وتغيب، أو تغيّب، أصولها المتجذرة في سياق محدّد. وقد تقول لنا هذه الأصول شيئاً عن سلبيات الخطاب وإشكالياته. برز مصطلح التسامح الديني ثم تبلور على إثر الحروب الدينية الدامية والصراعات العقائديّة في أوربا. ولكنه لم يكن يشمل الأديان الأخرى، بل كان يقتصر على أتباع ديانة واحدة. فكان للتسامح حدوده التي يقف عندها. وتعكس المفردة الإنگليزية tolerance وجذورها اللاتينية والفرنسية الأوجه السلبية والإشكالية في الخطاب. فالحقل الدلالي يحيل إلى «القدرة على تحمّل الألم، أو تحمّل المشقّة، أو السماح بما هو غير مستحب أو مرغوب به». وهكذا ليست هناك أي مساواة، أو تكافؤ، في علاقة «الذات المتسامِحة» مع الآخر، «المُتَسامَح معه». التسامح يعني أن «تستحمل» الذات، على مضض، عبء وجود الآخر المُختلف.
لقد ورثت الليبرالية السياسية في العصر الحديث هذه الحمولة السلبية للتسامح الذي لا يحل إشكالية العداء للآخر، أو الخلاف معه. فيظل هذا التسامح، في أحسن الأحوال، «أسلوباً لاحتواء وتنظيم وجود الآخر. ولكن بدون الإخلال بسلطة الصيغ والأعراف التي تهمّش الآخر.» كما تؤكد وندي براون في كتابها المهم «تنظيم النفور: التسامح في عصر الهويّة والامبراطورية».
في مناخ الحرب على الإرهاب، الذي أعقب الحادي عشر من أيلول، أخذ خطاب التسامح يلعب دوراً مهماً في رسم الحدود الحضاريّة/الثقافيّة، داخلياً وخارجياً. وفي تصوير الصراعات السياسية على أنها صراعات ثقافوية. يضمن التسامح للدولة سيطرتها وسلطتها في ضبط الحدود الداخلية بين الجماعات، وإبقاء المهمّش على الهامش. كما أنه يحدد هوية البرابرة، وأولئك الذين لا يشملهم التسامح، ولا يستحقونه، فيصبحون أهدافاً مشروعة للقمع، أو للحرب.
هناك وزارة للتسامح في دولة الإمارات العربيّة المتحدّة. وكانت هناك حملة إعلامية باذخة أعلن فيها عام ٢٠١٩ عام التسامح، وقام البابا بزيارة الإمارات. لكن التسامح لا يشمل الجميع، بالطبع، وهناك من يُستثنى ويحرم من «بركاته». لا يشمل هذا التسامح، على سبيل المثال، أحمد منصور، الناشط الإماراتي الذي يقبع في السجن منذ ٢٠١٧ لارتكابه جريمة التعبير عن الرأي (انتقاد الحكومة) والذي حكمت عليه محكمة استئناف أبو ظبي بالسجن لعشر سنوات العام الماضي. ولا يشمل التسامح علياء عبد النور، التي اعتقلت عام ٢٠١٥ وماتت مكبّلة إلى سرير المستشفى قبل أيام. ولا يشمل التسامح العمالة الوافدة التي تعاني العنصرية والاستغلال والعنف، كما هو الحال في بلدان الجوار، المتسامحة، هي الأخرى، بدرجات مختلفة. ولا يشمل التسامح المدنيين والأطفال الذين تسقط عليهم القنابل في اليمن.
كتب هربرت ماركوز عام ١٩٥٦ عمّا سمّاه التسامح القمعي: «حين يوظّف التسامح بشكل أساسي من أجل حماية وإدامة مجتمع قمعي، وحين يعطّل المعارضة، ويمنع عن الإنسان صيغ حياة أخرى أو أفضل، فقد تم تشويهه.»