إن أفضل تعريف للسياسة، كما تُمارس الآن في الشرق الأوسط، هي أنها أداة لانتهاك القيم من خلال العنف المباشر وغير المباشر، بالعمل العسكري الذي يتم ب“وضع الأبواط على الأرض“ أو من خلال الطائرات والصواريخ الموجهة، أو الحرب بالوكالة أو الضغوط والحصار الذي يؤدي إلى التركيع الاقتصادي وسياسات الأرض المحروقة التي تمارس داخل البلدان بحجة الحرب على الإرهاب. وكما هو جليّ على المسرح العالمي، تستخدم القوى الكبرى والصغرى العنف كأداة شرعية، وتدعم من يمارسه علناً تحت مسميات عدة، مهما كان عدد الضحايا الذين يتساقطون قتلى أو يُعذبون أو يُشردون، ويمكن القول إن مشاهد الجثث والدمار صارت من تسليات العصرالحديث، ووجود الآلاف في خيام اللجوء في ظروف قاهرة لم يعد يعني أي شيء على المستوى العملي سوى أنه يساهم فقط في تشغيل موظفي الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية و“فاعلي الخير“. وتأججت عنصريات معادية للآخر اللاجئ الذي اتهم بأنه مسؤول عن أزمات التعليم والسكن والماء والكهرباء وغياب الأمن، وأغلقت كثير من الدول حدودها أمام اللاجئين الفقراء الذين جُمِّعوا كالماشية في خيام على الحدود وراء أسوار الخوف من الآخر. وتتم تغذية نزاعات وحروب تهدد مستقبل بلدان وتعطل شعوبها، أو يُغض الطرف عنها، ويُدعى طغاة إلى التوقف عن القتل، كما لو أنك تدعو شخصاً للتوقف عن التدخين أو الإفراط في الطعام، ويتواصل القتل وتستمر الدعوات في لعبةٍ قرف منها الجميع، فيما يدر توريد الأسلحة إلى أماكن النزاعات أموالاً طائلة، لا يُصرف منها إلا النذر اليسير لاحتواء أزمة اللجوء التي تلعب صفقات الأسلحة دوراً أساسياً في تصنيعها.
إن تشابك السلطات في العالم، ولو اختلفت محاورها، حقيقة ساطعة وأوضح مثال على ذلك الساحة العربية، وخصوصاً السورية. وتحصل كثير من الأنظمة العربية على غطاء دولي شرعي لممارسة العنف، وإذا ما حدثت ثورة في بلد عربي، يصبح داعمو الأنظمة داعمين للثورات، والمستعمرون السابقون حراس النصر، ويصرّ كثيرون على أنه لا حلّ إلا بهذه الطريقة، وبالتالي يُعاد تصنيع التبعية ونرجع إلى العهد السابق بواجهة جديدة.
حين يتعلّق الأمر بالسياسة الخارجية تخون كثير من الدول الغربية التقاليد اليونانية انطلاقاً من فكرة أن حراسة المصالح والحفاظ على الامتيازات وأسواق الاستهلاك يتمان من خلال مباركة والإشراف على الانتقال السلس للسلطة في بلدان تقع خارج حدودها. فما أن يتوضح أن هناك وريثاً ما مضموناً للسلطة في العالم العربي، أو سليل عائلة حاكمة، أو انقلابياً ”محطوطاً في الجيب“، أو جنرالاً، أو سليل عائلة مالكة يتبنى السياسات المطلوبة ويفهم اللعبة، حتى تسرع وفود ”القبائل“ السياسية الغربية إلى إعلان البيعة والدعم والاستبشار بهذه البيعة، وتُدبَّج عبارات المديح وتمتلئ صحافة الإعلام السائد بالتصريحات التي تُغْدق المواصفات الحميدة والاستثنائية على الوجه الجديد.
ومن الجليّ أن أنظمة الحكم العربية تمارس طريقة الحكم القائمة على الوراثة والمبايعة غير أن المبايعة أو البيعة ليست طقساً محلياً، أي لا تجري على نطاق البلد بأن يأتي ممثلو شرائح اجتماعية أو طوائف وقوى وشخصيات اجتماعية واقتصادية كي تبايع حاكماً ما وتقدم له فروض الولاء، بل صار مفهوم البيعة كونياً وكأن العالم السياسي القائم، (أقصد النظام الاقتصادي- السياسي العالمي) هو في جوهره قبلي، وأن مفهوم السلطة في العالم لم يتغير إلا من الخارج.
حين يُرتَّب الوضع لحاكم محتمل فإن الترتيب لا يتم على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى الدولي، والغرب، في أعلى رموزه السياسية، لا يهمه جدارة الشخص أو وطنيته أو تمثيله لمصالح شعبه أو كونه غير منتخب، ما يهمه هو أن هذا الشخص حارس للمصالح ويفهم أن للغرب حصة ويجب أن يكون جاهزاً للدفع حتى نقداً وليس فقط عبر مشاريع استثمارية أو تسهيل تدفق الموارد، تحت مظلة ما دعاه المفكر الماركسي سمير أمين ب“الريع الإمبريالي“، ومقابل ذلك يتم التعتيم على القتل والتنكيل وتصفية المعارضين والحروب التي تدمر بلداناً بأكملها وعلى تسخير الاقتصاد لخدمة الأشخاص وعلى توسيع هوامش الفقر واستهداف القطاع العام والتعليم والصفقات التي تتم على حساب الشعوب، وكل القصص الكفيلة بأن تشكل فضائح مدوية داخل بلدان الغرب تؤدي إلى تغييرات حقيقية، لكن البلدان خارح الحدود، هي بلدان خارج الحدود وما يجري فيها شأن آخر. قد يعاقب الغرب دولاً محددة إذا انتُهكت حقوق الإنسان فيها من منظور خاص به فقط، وقد يُستثمر هذا الانتهاك إيضاً كي يحلب ضروع الثروة أكثر، أو كي يحصل على الحصة الأكبر، حتى لو أن هذا الطرف أو ذاك قام بجرائم يندى لها جبين الإنسانية.
ويقدم الإعلام ساحة للعب القوة ومناوراتها، فكثير من الصحف تتلقى الهبات التي تُخرس أصواتها فنواجه تضارباً في التصريحات، أو تكذيباً لخبر فاضح مدوٍّ، أو إنكاراً لجريمة شوهدت بالعين المجردة، فتتحول من حقيقة إلى مجرد سرد قابل للتكذيب أو التصديق، ويلعب السياسيون اللعبة فيستخدمون تصريحات إيحائية بتهديد ما تُزرع كالشباك في بحر السياسة، فإذا ما خرجت بصيد من التحويلات أو الصفقات تتحول التصريحات الإيحائية بتهديد ما إلى تصريحات إشادة لا سابق لها.
هل صار النظام السياسي العالمي قائماً على الرشوة؟ ألم تصبح المسألة علنية الآن: ادفع أكثر أو نتخلى عن حمايتك؟ ومن يستطيع أن يدفع أكثر يمكن أن يستأجر دولة عظمى كي ينتقم من خصومه، أو يمارس أعلى أشكال الإجرام ويحصل على تغطية، كما لو أن الدول صارت بنادق للتأجير.
كانت المبايعة تتم ضمن شروط في الأزمنة القديمة كأن يكون المُبَايَع شجاعاً وذكياً وسياسياً محنكاً ويمتلك المعرفة والقدرة على حماية الرعية وتأمين أمن البلاد وغيرها من الشروط التي تجعل الشخص مستحقاً للبيعة، لكن شروط النظام السياسي الاقتصادي الغربي واضحة: كن ما تشاء ولكن عليك أن تضمن استمرار العقود والاستثمارات وأن تكون جاهزاً لدفع المبالغ النقدية المترتبة عليك كمُبايَع، نبايعك ونعيّنك ونبقيك على الكرسي ما دمت تدفع المترتب عليك، ولا يهم إذا ذهب بلدك وشعبك إلى الجحيم.
خارج حدوده يرسّخ الغرب المنظومات القديمة كما يتجلى الأمر في مستعمراته السابقة، والجديد أن بعض الأنظمة تلعب دور الأداة في استعمار شعوب المنطقة لخدمة مصالح القوى الخارجية، كما تتحول قوى قومية أو دينية إلى خدم أو أدوات للحروب بالوكالة، وتعلن جاهزيتها للتحول إلى خدم إقليميين دون أن يعلمها التاريخ الحديث أي درس، كما لو أنها تنتشي بمخدر انتصارات يومية تجعل مجرور السياسة اليومي متدفقاً.
وفي هذا العالم الذي نعيش فيه القائم على البيع والشراء العابرين للأديان وللقوميات وللسلالات وللحضارات، والذي صارت فيه لقيم السوق الكلمة العليا واليد العليا، تبدو كلمة مبايعة أساسية في قاموس السياسة الغربية كما هي أساسية في قاموس السياسة العربية.