الجسد في العالم العربي هو محور مهرجان رام الله للرقص المعاصر هذا العام. استضاف المهرجان فرق رقص محلية وعربية وأجنبية، وتضمن تسعة عشر عرضاً لـخمس عشرة فرقة، منها ثلاث فرق فلسطينية، وفرقتان عربيتان، وعشر فرق أجنبية. ما أمكن لي حضوره من عروض وعدده 8 خلال هذه الدورة تنوعت في مواعيدها وأماكنها وتميزت بسعر تذكرة زهيد وعروضها الخارجية كانت مجانية. المهرجان فرصة لزيارة الدول المشاركة دون الذهاب إليها، وفرصة للتلاقي مع ما يدور في هذه البلدان سياسيا واجتماعيا بشكل ملموس لا يقتصر على وكالات الأنباء، بل عبر أجساد المشاركين في كل عمل. فرصة التلاقي هذه مع ثقافات كاملة عبر الجسد يضاعف الحمل عليه ويعيد سؤال المهرجان " لوين" ستأخذنا أجسادنا في هذا المحيط المسمى العالم؟
الذي يجعل محور الجسد مثيرا للاهتمام هذا العام هو ما يجعل المهرجان نفسه مثيرا للاهتمام في كل عام. إذا كان المهرجان يظهر في أجواء رام الله والقدس المحتلتين مع بداية كل ربيع حاملا معه أشخاصاً يتجولون في المدينة بملامح خارجة عن المألوف في اللون والملبس والتصرف، فهو يشكل جسداً صارت له خصوصية المواسم، كالمرأة الحامل أو قاطفي الزيتون المجرّحة سواعدهم من أفرع الشجر في موسم الزيتون، أو قاطفي الجوز وقد دبغت أيديهم في موسم الجوز. وهذه المواسم مرئية ومنتظرة، ومنتقدة، ومحبوبة. يكثر الحديث عن تأثيرها علينا كأفراد وكجماعات، سواء فرحا بها أو تشكيكاً بجدواها. فما يزال الزيتون أهم المواسم، ولم يبق للعنب والجوز أي إطراء يذكر بين جماعات مجتمعنا. وبالرغم من الجدل حول جدوى وقبول وتأثير مهرجان الرقص المعاصر في فلسطين، إلا أنه أتم سنواته العشر وتجاوزها وصار الخارج على المألوف مألوفا أي صار موسماً. وعبر هذه السنوات، بالإمكان استخلاص بعض الملاحظات حول التصاق المهرجان بقضايا أساسية في المجتمع الفلسطيني وعلاقة الموسم بالمستجدات وبالأفكار المراوحة حوله.
أولا، مهرجان للرقص تحت الاحتلال
لمرات عديدة يتزامن المهرجان مع إضراب الأسرى في سجون الاحتلال. تتمثل المعركة الأساسية في الإضراب بين جسد المعتقل وبين السجان، فيطيح السجين بسجّانه عبر الجسد، بامتلاكه لكامل الحرية في التعبير من خلاله. وعلى أطراف بطولات الجسد هذه، يأتي الفن ليساهم بتأجيج التساؤلات فيضع نفسه على مقربة من أجساد مهمشة، وأجساد منمّطة، وأجساد ضمن صيرورة التغيير أو البحث عنه، وأجساد تصوغ الرفض، وأجساد تصوغ أشكالاً أخرى من الحوار تنطوي ضمن خطاب ما أو لغة مهيمنة وأجساد تتيح تمثلات عدة للحياة. قبل عامين شارك زوار المهرجان في خيمة التضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام إضرابهم البطولي عام 2017. بعض المشاركين يزورون المهرجان مجددا هذا العام ويحملون معهم أثر الزيارة الماضية. ويتحدث المشاركون عن البعد الإنساني للجسد ويشعرون بإتيان ما هو سياسي عبر كل ما هو ذاتي. ويستحضرون تجاربهم الخاصة بعروضهم للمقاربة مع تحديات الأجساد المتعددة في فلسطين، آملين منا أن نتفهم وقوف الفن بجانبنا رغما عن السياسة. يقول بعضهم "زيارة فلسطين تجربة ملهمة وغنية بالنسبة لي لأنها ساعدتني أن أفهم أكثر". والبعض راح لإنتاج عروض فنية مستلهمة من تجربة معايشة في فلسطين وبلدان عديدة مثل عرض فرقة بروتين Protein البريطانية. توجه العديد من الانتقادات للمهرجان من بينها أنه يشكل منبرا يشتت ويبتعد عن القضايا الأساسية المتعلقة بالاحتلال كقضايا الأسرى. أو منصة لطرح ما هو مناف اجتماعياً ودينياً. آن الأوان أن يعاود رافضو المهرجان تقييم الرأي من جديد ومن المهم أن يأخذوا بالاعتبار أن المهرجان أصبح عادة اجتماعية لا يمكن نفيها، وأن الفرق الفلسطينية المشاركة من عدة مناطق، تزداد عاما بعد آخر. فرق الباركور تزداد والسيرك أيضا، ورقص الهيب هوب، والمعاصر، جميعها تقف الآن إلى جانب الدبكة الشعبية لتشير لاختلاف طبيعي وتطور تلقائي يوازن بين عصرنة الهوية التي لا يمكن التغاضي عنها، وبين تأصيل الهوية الذي نمارسه لأننا في حالة صراع وجودي، ونتماهى معه لأنه يشعرنا بألفة وحنين نحتاج أن نتمسك بهما مقابل الانقسام الذي يمارس التغريب والتفرقة.
ثانياً: الجسد العربي والسلطة
الحديث عن الجسد رافق كل دورات المهرجان لأن الرقص بشكل عام يتقاطع مع مفهوم الجنسانية. وبالنظر إلى الجنسانية كبنية أو جهاز بحسب فوكو تشتمل على أفكار تشير إلى المنفعة الإيجابية من استخدام الجسد والمتعة الراقصون في هذا السياق يستخدمون أجسادهم، ليس لأغراض المتعة فقط، وإنما لأغراض تقديم رسالة معينة، لدرجة أنه في بعض المراحل يتم التنازل عن الحق في المتعة. وإن التنازل عن المتعة في استخدام الجسد يحتكم عادة إلى قوى وسلطات خارجية وداخلية، ضمن بنية الجنسانية وهي مجموع الخطابات والمؤسسات، والهياكل والقوانين والإجراءات الإدارية، والتصريحات العلمية، والفلسفية والأخلاقية التي تشكل فيما بينها تركيبة علاقات، وهي نظام بحد ذاته، تؤثر على التمثيلات ذات العلاقة بالجنس والجسد. في وصف المحددات امام الفنون الأدائية، والعوائق التي يواجهها المؤدي، فإن الحديث عن أنواع السلطة هي تلك المجتمعية، والدينية، وبذات العلاقة بالموروث الثقافي، والاستعمار. وتظهر هذه السلطات بشكل أساسي على الجسد كأهم عناصر الأداء. خصوصاً أن تاريخ الأداء العربي يشير إلى قمع استخدام الجسد وذلك من خلال السيطرة على فرص التعبير عن الجسد وإظهاره جهرا بممارساته اليومية (خيال الظل). وفي حين أن الأداء بحد ذاته هو عملية مجاهرة وتمثُل للجسد ضمن سياق اجتماعي، إلا أنه يبقى رهن سلطة التركيبة الجنسانية هذه. وليس المقصود هنا التعبير عن الجنس لدى المؤدين لتبيان ما هو مسموح أو منبوذ من قبل المجتمع، إنما لشرح الآلية التي ينظر إليها المؤدي/ة إلى جسده كوسيلة لمنفعة المستقبل، وهذا يستدعي الوعي. وعندما يمارس الراقصون الأداء كاحتفالية أو احتفاء بالجسد على شكل مزيج بين الاحتفاء بالنفس، وبالجماعة، فإنه يقوم بذلك ضمن منظومة قوى استراتيجية مهيمنة على أدائه وعلى متعته. وبدأت هذه المنظومة بالظهور من خلال الخطاب الديني السائد والمؤسسة الدينية وخطابها الذي يكرس سيطرته على تحركات المؤدي بوقع استراتيجي ويتلاعب بعلاقات القوى، وتطورها ويوجهها في اتجاه معين، أو يثبطها، أو يحد منها أو يستثمرها. بالإضافة إلى سلطة الدين، فإن الإمبريالية كنظام تُستثمر استراتيجيا في الخطابات والمؤسسات المسيطرة على الجسد. حسب مفهوم سعيد للإمبريالية الثقافية فهي تمثل صراعاً لا يقتصر على الجغرافيا والجنود، إنما على الأفكار والأشكال والتصورات والأنماط والمعاني. وقد شهدتها المنطقة العربية لقرن وأكثر. وإن هذا التعريف يشير إلى الصراع بين التمثلات الأصيلة والتمثلات الحديثة للثقافة. وهنا يجب التفريق بين تداخل الثقافات كما في تاريخ الأداء الشرقي وبين فرض هيمنة على التمثيلات الثقافية وبالتالي إخضاعها. وفي الحالة الفلسطينية وجدت الحالتان. وقد روج التحول الحداثي لها وبالتالي كانت فنون الفرجة وخيال الظل فريسة سهلة للهيمنة الإمبريالية. وصارت مهمة المؤدين أصعب لإقحامهم بين قطبي الأصيل والمستدخل.
وقد ردت ماكلنتوك هذا التناقض بين ما هو شرقي وغربي إلى أصوله بأنه نابع عن مصالح ذكورية في امتلاك القوة إنما بصورة عالمية مهيمنة كالإمبريالية. ووصفت النزعة الذكورية بالسيطرة على أنها حالة من حب العظمة لدى الذكور بحيث يكون خوفهم مما هو قادم عليهم يؤدي لسحقهم كل ما هو قادم قبل قدومه. بالنسبة للمستعمِر فإن خوفه من ثورة المستعمَر يؤدي إلى تكرار التركيز على أهمية تأنيث نماذج الأداء التي تشهد سيطرة الذكور المستعمَرين على النشاط الثقافي. وفي حين يتم التركيز على الحاجة لدمج النساء في النشاط الثقافي وتصوير النساء الفلسطينيات بأنهن متخلفات وغير فاعلات بسبب هيمنة الذكور على النشاط الثقافي، وقد هُمِش نشاطهن الثقافي في الأداء التشاركي كالدبكة وفي الحكواتي، فإن النمط الحديث في طرح مشاركة النساء أدى إلى تهديد بالسيطرة الذكورية على السياق الاجتماعي وبالتالي تعززت السيطرة الذكورية كمجابهة للطرح الحديث، الأمر الذي همش المشاركة النسوية أكثر وعزز المسوغات للوجود الإمبريالي المهيمن.
إلا أن تأنيث الثقافة، أي إبقاء الثقافة تحت سيطرة ذكورية وبتصوير سلبي لمشاركة النساء فيها، شكل فرصة لسيطرة الذكورة الغربية على المستعمَر. كما وأنها افرزت ثقافة رضى لتأنيث الثقافة داخلياً أيضاً. لفترة طويلة من كتابة التاريخ كانت الأدبيات التي تشير إلى أن ضرورة تحرير النساء من سلطة الذكورية في أغلبها موثقة من قبل أجانب أو ذكور وقعوا في مأزق الهيمنة الثقافية والتي أكدت النظرة الدونية إلى النساء العربيات. وفي حين ينتقد الغربيون السيطرة الذكورية المحلية على النساء، إلا أنهم يمارسونها من خلال الإمبريالية.
ثالثاً: الفولكلور والرقص والهوية
الرقص المعاصر لا يتناول الفولكلور كما هو، ولا يطرح نفسه بديلا عنه، ولا يقلل من شأنه. لا بد لنا أن نعي أن فلسطين حققت الكثير في مجال الرقص الفولكلوري ولا شك أن حاضنة تطور جسد راقصيه وراقصاته تتكون من جماعات دعمت تطور الدبكة الفلسطينية وامتدادها وتعبيرها عن الهوية الفلسطينية وتطورها، بحيث بات من المقبول تغيير أشكال الملبس وبعض الأدوار في الأداء لتخدم تطور الهوية الفلسطينية. بل إن هذه الحاضنة أثبتت أنها ساهمت في تأجيج واستمرارية فكرة الدين الشعبي المجتمعي والذي ينظر إلى التعبير الأدائي كامتداد روحاني لوجوده، ودفعت باتجاه دعم تطور الفولكلور طبيعيا وتلقائيا وطرح فكرة الفولكلور المعاصر الذي ينظر للدبكة الشعبية كحراك معاصر يحاكي اهتمامات المجتمع ويتطور معه. ينظر الراقصون الفلسطينيون إلى الدين كتقليد شعبي يركزون على الجيد فيه من ممارسات وينبذون ما هو ليس جيداً لتطور هويتهم، في مسعى منهم لنمو وتقدم المجتمع. بالنسبة لهم الدين وقيمه يتماشون ويتوافقون مع ما يقدمونه من رسائل في الأداء، لكن بطريقة تؤكد شعبية الدين وما يشتمل عليه من أخلاق إنسانية وتعددية واحترام للرأي الآخر إضافة إلى روحانيته، وهي منسجمة مع رسائل الأداء التي يقدمونها. يعتبر الراقصون أن الجانب الشعبي من الدين والذي يمد سلوكهم والقيم التي تم اشتقاق سلوكهم منها، بات له شرعية ما مجتمعية. وحيث أن القيم المشتقة من الدين الشعبي إنما تحفظ للمؤدي شعور الارتباط مع المجتمع، وانفتاحاً مع تمثيلهم لجسدهم على الرغم من عدم اتباعهم لتشريعات دينية، إلا أنها تبقيهم على صلة بهذا النظام الثابت غير المتحرك والجاد للسلوك والدوافع الدينية وإن لم تكن هذه القيم منصاعة كليا لهذه السلوكيات والدوافع الدينية.
وعلى صعيد نوع الرقص المعاصر، وجدناه هذا العام يحاكي الفولكلور بأدوات الحاضر، بأجساد تلبس لباس الحاضر، وتعبّر عن احتياجات وامتدادات محيطه. ولا شك أن مهرجان الرقص المعاصر يسير باتجاه تكوين حاضنة مجتمعية مشابهة، وإن كانت أصغر حجما بالتأكيد من تلك التي احتضنت الفولكلور، الا أنها متواجدة ومشاهدات الحضور عبر السنوات العشر الماضية تشير إلى تنامي الحاضنة المجتمعية التي تجد في الرقص المعاصر مساحة من الاطلاع على الاختلاف وتجريب الاختلاف والحوار معه وعدم الوقوف على مسافة ممانعة منه، بل التعاطف مع ما هو مشترك معه، وممارسة حرية نقده. ولا يقف متابعو المهرجان على تضاد مع القيم الدينية بل يستمدون حوارهم مع العروض وأفكارها من القيم الشعبية التي تتناغم مع القيم التي تبثها الأديان.
وضمن هذا الفهم للفولكلور بالإمكان تبيان مشاركة ثلاث فرق فلسطينية في المهرجان. الأولى تدعى فرقة نفس وتشتمل على راقصين من فلسطين وسوريا وفرنسا قدمت عرض "ماذا لو غدا" وقد تمكن الراقص الفلسطيني فقط من دخول فلسطين دون غيره من بين المجموعة. ولد الراقص نضال عبدو في مخيم اليرموك لأب من مدينة يافا الفلسطينية وغادر إلى لبنان في العام 2010 في محاولة لتجنب التجنيد الإجباري في سوريا ولم يتمكن من العودة إلى سوريا بعد اندلاع الثورة، وساعده ارتباط أبيه بأمه الأوكرانية على استصدار جواز سفر أوكراني جنبّه ويل اللجوء الفلسطيني الثاني إلى فرنسا. يعود نضال عبدو لفلسطين مرة أخرى ويحمل معه إرث فلسطين الذي أشبعه به أبوه، والمخيم، وفرقة إنانا للرقص قبل أن ينضم لفرقة كركلا، وثمانية وعشرين عاماً من الحلم بفلسطين. يقدم جسده على المسرح كممثل عن التراث المادي للفلسطيني في الشتات. ذلك الذي لم يعد يملك غير جسده ليربطه مع فلسطين بدلا من المخيم. في فترة ما شكل المخيم جزءاً هاماً من التراث المادي في الفولكلور الفلسطيني. وبالنسبة للفلسطيني الذي هجّر مرتين، فإن التهجير الثاني لم يستبق سوى الجسد بما يحتويه من دم، أو ملامح، أو عادات وتقاليد وربما لهجات احتفظ بها لتشكل تراثه المادي المتحرك. تجربة نضال وفرقة نفس حاولت تقديم صورة من صور التراث المادي المتحرك للفلسطينيين بصورته المعاصرة. وظهر نضال على المسرح ليقدم ثقافة لم يتمكن من إرساء أي قاعدة لها سوى في جسده، فظهر وحيدا على المسرح، بجسد عار من كل شوائب الرحلة واللجوء، ولكن بكل حواس رافقت تشكل التراث الفلسطيني المعاصر في الشتات.
[عدسة سامر الشريف. فرقة نفس، نضال عبده. "ماذا لو غدا"]
[عدسة سامر الشريف. فرقة نفس، نضال عبده. "ماذا لو غدا"]
الفرقة الثانية هي بكيمون وستيريو 48 التي تتكون من ثمانية شباب من نابلس. في هذا العرض بعنوان "البصمة" دمجت المجموعة الهيب هوب بالدبكة الشعبية لتبين قدرات جسدية متطورة لدى الشباب، بالإضافة لقدرات درامية تشير الى حس الفكاهة والعزيمة ممزوجتين لدى أي شاب فلسطيني. إذا كان الرقص المعاصر هو تمثيلاً للاعتيادي على منبر يطرح تساؤلات، فإن هذا العرض وضع الشاب الفلسطيني أمام المشاهد بكافة إمكاناته وذكائه وترسبات سنوات من الطغيان والرفض والمراوحة التي يعيشها الشباب اليوم بين الاحتلال والانقسام والفساد. ولا شك أن العرض يضيف لمسار العرض السابق بأن طرح رؤية معاصرة للتراث الفلسطيني بصورة تلقائية وتقنيات مميزة. عبّر الراقصون بعد العرض عن امتنانهم للمؤسسة فلسطينية في نابلس لأنها ساهمت في توفير مكان للقاءاتهم في البلدة القديمة، ولكنهم بحاجة لتطوير أكبر لتقنياتهم ولمشاركة الإناث معهم كي تتطور الفرقة بشكل طبيعي. انتقلت مجموعة شباب من نابلس إلى رام الله بحثاً عن حاضنة مجتمعية أكبر، وربما مشاركة نسائية أكبر. لربما لن تتجاوز المجموعة الرفض المجتمعي لفكرة الرقص الذي لا يتبع قدسية الدبكة كممثل وحيد للفن الأدائي الفلسطيني، ولكن في الحقيقة حتى الرموز الفلسطينية المقدسة كممثل شرعي ووحيد، فقدت قدسيتها أحيانا لشدة تقديسنا لها. فوجد الشباب فرصة لهم بمساهمة من فرقة بوكيمون والمعهد الفرنسي.
[عدسة سامر الشريف. فرقة بكيمون وستيريو 48]
[عدسة سامر الشريف. فرقة بكيمون وستيريو 48]
[عدسة سامر الشريف. فرقة بكيمون وستيريو 48]
أما الفرقة الثالثة فهي فرقة سرية رام الله الأولى. فأغلب الشباب في الفرقة هم متطوعو المهرجان، وقاموا بجهد تنظيمي مميز إلى جانب تحضيرهم للعرض "عرض قيد الإنتاج". استفادت الفرقة من ورشات عمل مع فنانين من أماكن مختلفة على هامش العرض واستفادت جميع الفرق الفلسطينية من مشاهدات فنية مختلفة طوال فترة المهرجان. لم تنتج هذه الفرقة عرضا كما السنوات السابقة بسبب تشتت أفرادها للاستزادة في فن الأداء خارج فلسطين تقنياً ومعرفياً. لكن الفرقة تمارس الانفتاح على الحريات كأساس للإنتاج الفني.
وقد قدمت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية عرضا خلال شهر نيسان بعنوان ممنوع التجول. ويقع العرض ضمن إطار العروض التجريبية للفرقة. يتناول مفهوم جديد لفكرة منع التجول السائدة في المجتمع الفلسطيني والتي اعتادت الأذن على سماعها كلما مارس الاحتلال الإسرائيلي فعل المنع في الشوارع الفلسطينية. يقدم العرض مفهوم آخر لمنع التجول، وهو التجول الفكري، ويؤثر على الشباب الفلسطيني كنوع من أنواع التخدير وتتسبب فيه الاخبار. يمزج العرض بين الشباب المشارك، منغمس فعليا بفعل الاعتراض، والاشتباك، وتتخلل مشاركته بعض ميزات هويته التي تراكمت عبر السنوات. فتمكن المشاهد من رؤية مسيرات واشتباك الحجارة، ولكن بخطى وانحناء أجساد وجماعية حركة تحاكي الدبكة، وجدنا لطميات تحاكي فعل التخدير، كما وجدنا فعل درامي أحيانا يطغى بشكل أو بآخر على الرقص، يبرر كنوع من أنواع تطويع الرقص المعاصر لتجربة الفرقة وطبيعة الثقافة الفلسطينية كونها حكاءة أكثر من كونها صامتة وتعتمد على الجسد في التعبير.
وإن هذه المبادرة التطوعية كفرقة سرية رام الله وغيرها من الفرق الفنية الشابة أثبتت أن الانفتاح الثقافي والتنوع في الفنون لم يتم التنازل عنه، وإن بدعم أقل من الأحزاب السياسية مثلا أو التيارات المجتمعية المحافظة. بل شكلت تحديا لأيدولوجيتها. كما أن التحدي المشحون بسبب الدعم الخارجي والذي يعكس تناقضاً في المصالح والأجندات بين الاحزاب الدينية والمجموعات المؤدية غير الدينية ترك المؤدين في فلسطين للتخبط في عوامل تحقيق التغيير الاجتماعي، وبالأخص المتعلق بالنظرة إلى الجسد ونظام الجنسانية وعلاقات النوع الاجتماعي.
وفي إطار الحديث عن الفولكلور بشكل عام، خارج إطار فلسطين المحتلة، ساهمت مداخلة من قبل الراقص والمصمم خالد بن غريب من المغرب في توضيح تطور الرقص الشعبي المغربي ومشاركة النساء فيه لحين تدفق المد المحافظ الذي دفع باتجاه تجريد الفولكلور من الكثير من عناصره مقابل تطبيق سياسات الذات التي تسير بعكس التعبير التلقائي عنها. فتأثر الفولكلور بهذه السياسة وصار يتخذ أبعاداً أخرى لصيقة بالمد المحافظ مما أبعد المرأة عن طابع مشاركتها المعتاد في الرقص الفولكلوري. شكل المهرجان مساحة تعرض للاختلاف، للخروج عن المألوف بما يبدأ بالجسد وينتهي بسياسات دولية حول القضايا العالمية. وأيضا تعرض للاختلاف الذي يتمحور حول الذات وسياسات الذات، بين الحديث عن الكلاسيكي الفلكلوري وتداخله مع اليومي العادي، بين الحديث عن التغريب والاغتراب وسياسات التغريب والاغتراب. العروض تساعد حاضنة الفنون المجتمعية على الخروج عن حيز الجسد اليومي المعتاد. فالجسد يعكس ما نمارسه من وضع غطاء على أجسادنا إن خرجت عن المألوف أو على عقولنا إن مرت على التجارب المختلفة عنا فنغض البصر عن وجودها ولا نسمح لها باختراقنا. بالإضافة إلى ما نضعه من غطاء لتأجيل انخراطنا في حل مآزقنا السياسية، فندرج فهمنا للفن كجزء منفصل عن المحيط السياسي. هذه الممارسة اليومية بوضع الغطاء، يقوم البعض بحضور فعاليات المهرجان أولا ليتقصد مشاهدة نزع الغطاء عن كل شيء كتمرين ذهني على الاختلاف. والبعض الآخر يتقصد عدم المشاهدة كوسيلة للحفاظ على الأفكار. بكل الأحوال يستمر الحوار بين الأطراف المختلفة عبر المهرجان، إلا أن امتداد العروض على فترات أطول يخدم التأمل في الاختلاف ويتيح انسيابية أعلى في الحوار قد تفيد تطور الرقص والأفكار حوله في فلسطين المحتلة. كما أن توسيع دائرة المؤتمر لتشمل طلاب الجامعات في مجال الفنون يفي بتوسيع دوائر الحوار أيضا.
وبالنظر إلى علاقة المهرجان بالجنسانية مرة أخرى، إن الصفة الاستراتيجية للهيمنة في التركيبة الجنسانية ينظر لها أيضا في ضوء تفاعلات المؤدين مع ما هو أصيل وما هو تحديث. إن التناقضات والصراعات التي ذكرت حول تطور الأداء بين صورته الغربية والأصيلة، من قبل أطراف القوى المحلية والخارجية، ومحاولات تهميش ومهاجمة استمرارية الأداء الأصيل، كلها أدت لاستغلال الثقافة والأداء المحلي كثقافة خاضعة وأداء خاضع. ففي حين يظهر الصراع على أنه صراع بين ما هو حديث وما هو أصيل وما هو فولكلوري مقبول ومعاصر مرفوض، فإنه وحسب فوكو، يصارع المؤدون ضد ما يسمى بالعدو الآني وليس العدو الأساسي. والمقصود هنا أن الصراع يتمثل هنا بتقنية الأداء كنوع الرقص وبالتالي تقنية القوى وهيمنتها على الحياة اليومية بدلاً من الصراع ضد القوى نفسها وإيدولوجيتها. والتدين هنا يخدم هذا الصراع الآني والصراع مع العدو الأساسي. إن الأداء الفلسطيني المتناول في الأدبيات عنه بيّن اهتماماته الوطنية ولكنه لم يستثن خلفيته الثقافية ذات الطابع الديني. والصدامات مع الايدولوجيا الدينية الجديدة اقتصرت على الملبس والأداء المعاصر وبالتالي اقتصرت هذه الصدامات على ممارسات معينة في الأداء وليس على علاقة الأداء بالدين أساساً، وهذا هو نوع من أنواع التكتيك الذي استخدمه المؤدون لتجنب الخلاف الأساسي مع الدين. وهذا النوع من التكتيكات وبتجنبه الصدام مع المؤسسة الدينية يخدم إصلاحاً اجتماعياً ما، ولكنه لا يطرح التساؤلات الكافية حول القيم السائدة وجذورها والمؤسسات المنبثقة عنها، بمعنى الآني وليس الأساسي.
إن الدين الشعبي، كما عبر عنه المؤدون، هو فرصة مساندة لحاضنتهم المجتمعية وينجلي ضمن مفهوم الدين كما أشار إليه بالمار بأن كل الظواهر الدينية تنتظم ضمن صراعات داخلية ما تشكلها أنظمة القوى غير المتكافئة. ومن هنا فإنهم واعون لسلطة الوعظ الديني على أدائهم واختياراتهم من أجل الأداء، وعلى أجسادهم وجنسهم وتمثيلاته، وعلى اختيارات المجتمع ككل. لكن شعبية الدين تبقي على توازن في العلاقة مع المجتمع الديني، وفي ذات الوقت تطرح تغييرات ما في المجتمع تحت سطوته، تأتي على شكل تكتيكات خاضعة لاستراتيجية سيطرة المؤسسة الدينية. وإن الوعظ الديني بصورة عامة لم يتغير كثيرا في الفترة ما بين الدين المعاصر والدين التاريخي، إلا فيما يتعلق بالأوساط التي ينشط فيها الإيمان بالدين الشعبي والتي في غالبها تدعم باتجاه التأسيس للعلمانية، والتي فيما يتعلق بالأداء، تدعم باتجاه النشاط الأدائي الذي لا يحتكم لسلطة الوعظ الديني. إن تمثلات الجسد في هذا السياق يعبر عنها بصورة أقل صرامة ضمن فضاء يضمن الحريات. وعليه فإن السلوك الشعبي، والسلوك الشعبي الديني يتشكل بالأصل ضمن ثقافة دينية حيث سادت إيدولوجيا دينية فيه لفترات كبيرة تاريخيا وإن بمقادير متفاوتة. وبالنسبة للمؤدين تتواجد الثقافة المنغلقة في النمط الشعبي للدين، إلا أنهم يرون أنها ذات سيطرة أقل على ما يقدمه الأداء. خلاصة القول هنا، إن الدين الشعبي وقد روج له المؤدون، ساهم في دعم فنون الأداء في فلسطين وعزز من تمثلات أجساد النساء والذكور المؤدين المتعددة باتجاه تعزيز المساواة بين الرجال والنساء، على الرغم من التناقضات مع الفئات المحافظة. وفي الوقت ذاته، فإن الهوية الفردية للمؤدي تشكلت لتتماشى مع الهوية الجمعية، ونظمها الأداء باتجاه التغيير الإيجابي على مستوى المجتمع. إلا أن الجدلية المتعلقة بجسد المرأة وتمثلات جنسها تبقى حقيقية وفاعلة ويفضل مشاهدتها ضمن إطار الفولكلور أو عدم مشاهدتها في الكثير من البيئات الفلسطينية. وعليه فإن حركة الفنون الأدائية ينظر لها وقد طورت تكتيكاتها ضد الأهداف الاستعمارية، إلا أن أجساد المؤدين بقيت حيز الجدل.
وفيما يتعلق بالروحانية، فهي تعبر عن العلاقة المباشرة التي يخلقها المؤدي مع الإله أو القوى غير المرئية، والتي لا تعمم بل تظل فردية وتتصل بالمشاعر التي تساهم في تشكل رسالة الأداء. إن الفن الادائي كفن بصري يحاكي الجانب الروحاني للفرد بصفة تعزز الروابط غير الملموسة في الدين (كالطقوس، الأماكن المقدسة، البيئة المكانية)، وبالتالي الأداء هنا هو وسيلة لإنشاء علاقة مع شيء ليس بالضرورة أن يتكون للفرد فهم حوله بداية. وإن فهم المؤدين للروحانية يخدم إظهار القيم التي يطرحها الدين الشعبي والتي لا تتبع العقيدة بشكل واضح وبالتالي لا يمتثل لها، الأمر الذي يعطي أهمية للإبقاء على التواصل والارتباط مع المجتمع الذي فعليا يعزز ويروج لأيدولوجيا العقيدة الدينية. إن الروحانية للمؤدين هي وسيلة لخلق علاقة مع المجتمع وعقيدته، دينية كانت أو لا دينية. وبحسب المؤدين فإن كل فرد له الحق أن يعبر عن رأيه/ا الديني لكن نظم الإنتاج العام للعرض الأدائي يحتكم لفصل الوعظ الديني عن الأداء. وبالنسبة للفولكلور، فبعد أن شكل الذكور والإناث وعيا حول هيمنة صلابة النظرة إلى الفولكلور الفلسطيني كمسلّم ثابت، أنتج المؤدون وحاضنتهم المجتمعية نظاما يشمل خطابا حول عصرنة الفولكلور لطالما عبر عن نمط حياة الفلسطينيين، والذي فيه فرصة للانطلاق مهنيا ومن عباءة الزي التقليدي من خلال الاستلهام من التراث والفولكلور الشعبي لكن بعقلية وعصب فولكلوري يؤكد على استمرارية الهوية وعصرنتها. وشكل هذا الأداء تكتيكاً للهروب من سيطرة النمط السائد للهوية الفلسطينية المتمثلة مادياً. ولكنه يبقيه على علاقة مع الفولكلور كاستراتيجية مهيمنة على الصورة النمطية من الأداء.
رابعا: البعد العربي والعالمي للفنون
يرتبط المهرجان عربيا من خلال شبكة مساحات للرقص، وعالميا من خلال شبكة ضيوفه للملتقى والمؤتمر والعروض. وتتكون شبكة مساحات من مقامات للمسرح الراقص في لبنان والمركز الوطني للثقافة والفنون في عمان وتجمع تنوين للرقص في سوريا عام 2008، وتهدف لتطوير روابط فنية وتعزيز الحوار حول العمل الفني بين هذه البلدان. وتأثرت هذه الشبكة في المستجدات السياسية ولم يتمكن حتى الآن أعضاء الشبكة من تنفيذ عروض في فلسطين. وتركزت العروض العربية المشاركة في فلسطين على تونس. وكان من متحدثي المؤتمر مشاركون من المغرب والجزائر. أما عالميا فقد قدمت فرقة بروتين Protein عرض Border Tales أي حكايا الحدود الذي يعكس التدفق الثقافي إلى بريطانيا في ظل أزمة بريكست Brexit والذي يرتكز على تجارب شخصية للمشاركين في العمل متعددي الخلفيات. ويستلهم من تجارب معايشة ومقابلات وبحث أجراه المخرج في فلسطين المحتلة والهند وألمانيا وبريطانيا واستونيا والدنمارك واسبانيا حول مفاهيم الهوية والتعدد الثقافي والمساحات بين السكان. يقدم العرض الراقص مونولوجاً وحواراً بين الراقصين يضعف ارتكاز العرض على الجسد والتعبير عبره، ويثقله أحيانا بخطاب الإعلام والسياسة السائدة ولكنه يقدم لوحة تعبر عن هجين ثقافي مميزة جدا قبل نهايته. تشير هذه اللوحة إلى إشباع المخرج والراقصين واستزادتهم بأنواع ثقافية متعددة وأنواع رقص متنوعة تكسر هيمنة النوع الواحد. تماهى الحضور جدا مع هذه اللوحة. إلا أنه ينهي العرض بتساؤل حول دور الرجل الأبيض فيما يحدث حولنا في العالم، فالبعض يجيب عن سؤال لوين عبر هذا العرض بأن البريطاني بقي وحيداً برفضه التعددية. والبعض الآخر يرى أن العرض لم يوفق في إعادة استجلاب دور الضحية والتغاضي عن ماضي استعماري أثر بشكل مباشر على ما يحدث الآن في العالم. واشتملت العديد من العروض أيضا على راقصين من أصول مهاجرة، فالفن يتجاوز الإنساني في أوطانه، ويوظف اشتباك الانساني المحلي بالعالمي، مما يشكل هجيناً قد يتجه لصالح روافد العرض من تمويل وفكر، ولكنها لا شك أفسحت المجال لأنواع جديدة من التعبير بالظهور على المنصات العالمية.
أما عرض الافتتاح فكان لفرقة CCNR/Cie Accrorap وعرض OPUS. وضع العرض المشاهد الفلسطيني في حلقة مستمرة ومطولة من محاولات توالد لأنوية جماعات يظهر على أفرادها علامات مشتركة مثل صوت النفس والنبض، وأنماط تشكل الأنوية. هذه الأنوية مترابطة بشكل أو بآخر برغم العشوائية التي غلبت على محاولاتها. وأشار هذا العرض وآخرون إلى عودة ما للجمعي في مقابل الفردي. وقُدم هذا العرض الهيب هوب ليخدم صوت المهمشين مرة أخرى بأن وفر مساحة لتوالد أنوية لجماعات تتشكل من ارتكازها على الهامش وليس على المركز ويستفيض في إعادة طرح صوتهم طوال فترة العرض لساعة ونصف.
أما عرض الختام فقد كان لفرقة "حيّ على الحياة " نوال اسكندراني وأصدقاء الدرب وموسيقى وغناء جوهر الباسطي في ختام مهرجان الرقص المعاصر. عرض مليء بالحياة ومتقن، كان للموسيقى والمكتوب حيز كبير في العرض، لكنه تمكن من تقديم لوحات تعبر عن أحوال الشباب العربي وتساؤلاتهم بتنوعها وبطريقة حية وفكاهية أحيانا، وصور الشاب العربي مليئا بالطاقة والحياة الأمر الذي لم نعتده مؤخرا مع توالي خيبات الأمل، إلا أن تونس تستنهض حالات أثبت التاريخ أنها تتكرر.
خامساً: ارتباط الرقص بالنخبة السياسية
إن الغالبية من ممارسي الفنون الأدائية وناشطيها الثقافيين مرتبطون بقرارات النخبة السياسية ما بعد أوسلو، وبالتالي إما هم موظفون ضمن مؤسساتها أو أنهم يدعمون ويروجون لمشروعها "الاستثماري". وبالنسبة للمؤدين من بينهم أصبحت مصداقيتهم مرتبطة بمصداقية هذه النخبة السياسية وقراراتها. وحيث أن لا تغيير إيجابي ملموس على مستوى القرار السياسي، فإن ذلك ينعكس على الأداء ومصداقيته أيضا. إن انتاج الطبقة الوسطى يكرس الموقف السياسي والذي نشأ من بيئة مشابهة طبقيا. وحيث أن المؤدين عبروا عن وعيهم بهذه الوصمة، فكانت لهم بعض المحاولات لعكسها. فصاروا يقدمون عائدات إنتاجهم الأدائي لأعمال خيرية أو تنموية منها ما يساهم في مشاركة الفتيات في المناطق المهمشة في الأداء بالتواصل والتحاور مع أهاليهم حول أهمية الأداء في بلورة شخصياتهم وتعبيرهم عن المشاركة الجمعية. وآخرون صرحوا أنهم لا يقبلون التمويل المشروط.
خاتمة
يقارب هذا المقال بين مهرجان الرقص المعاصر وما تنطوي عليه حركة الفنون الأدائية في فلسطين. يدعي هذا المقال أن المؤدين الراقصين شكلوا تاريخيا حالة من الوعي والنضال عبر الرسالة الأداء وأداته الرئيسية وهي الجسد. يطرح المؤدون وعيهم بقوة ويتقاطع بالضرورة مع الهوية الجمعية الفلسطينية. وإن هذا الوعي الفردي قام بتطوير تكتيكات تنسجم مع الأوساط الدينية المختلفة، ولا تقتصر على الأوساط الأقل دينية فقط. إن الدين الشعبي والعرض الفولكلوري المعاصر هما مرادفان يفسران العلاقة بين مفهومي الذاتية والجمعية في الأداء. هذان المرادفان إنما هما فسحة من فسح خلقتها تجربة الأداء الفلسطينية لتبقي على فرص تغذية ذاتها وقدرات المؤدين إبداعهم، مع الحرص على إبقاء هذه الفسح منسجمة ومتماسكة مع الزخم الوطني. هذه الملاحظات على المهرجان، وأخرى على تطور فنون الأداء في تصور تمثلات فنية تعبر عن طرق إنتاج الفلسطينيين لنمط حياتهم واحتياجاتهم وتفاعلاتهم الاجتماعية. فتعتبر تصويرا جماليا للهوية الفلسطينية، ومساهمة لتشكلها في سياق استعماري، كما أنها ذات رسالة معينة مرتبطة محليا وعربيا وعالميا، تحتاج إلى المستويات الثلاثة كي تتمكن من تحقيق تغيير اجتماعي.