كتب عبد الرّحمن منيف (1933-2004) في حياته عشر روايات. يمكن لأيّ قارئٍ التأكّد من هذا ببساطة. وإثر وفاته، استُخرجت من أوراقه رواية ومجموعتان قصصيّتان. ويضيف البعض كتابه «سيرة مدينة» (1994) إلى الروايات. هذا ما نجده في لائحة مؤلَّفاته في نهاية أيّ كتاب من كتبه. ولكنّ قرّاء كثيرين يعبّرون بآراء أقرب إلى التّشكيك حيال ثلاثة أعمال، بحيث يكاد يظنّ مَنْ يتعرّف إلى عالمه للمرة الأولى بأنّ هذه الأعمال نُسبتْ إليه زورًا. لا نقصد الأعمال التي نُشرت بعد وفاته، ولن ندخل هنا في إشكاليّة نشر الأعمال بعد وفاة كاتبها ومدى رضاه عنها؛ فالأعمال نُشرت وانتهى الأمر بصرف النّظر عن رأينا حيالها. وهي أعماله بكل تأكيد، وإنْ كانت أدنى جودةً من أعماله الأخرى بما لا يُقاس، وهذا طبيعيّ لأنّها أعماله الأولى، وسأستثنيها من كلامي هنا على أيّة حال. ما يُفاجئنا في واقع الأمر هو أنّ التّشكيك يطال روايات «قصّة حبّ مجوسيّة» (1974)، و«حين تَرَكْنا الجسر» (1976)، و«النّهايات» (1977)، مع أنّنا موقنون بأنّها أعماله حتمًا، وقد تحدّث عنها في مناسبات عديدة، وأُعيدت طباعتها كلّها مرارًا. وما يُفاجئنا أكثر هو أنّ النقّاد ينفرون منها أيضًا ويتجاهلونها وكأنّها لم تكن، ربما باستثناء طفيف لرواية «النهايات» التي تَرِد عَرَضًا معظم الأحيان في مقالات تستعرض أعماله كلّها. ما سر تشكيك القرّاء والنقّاد بها؟ هل هي أدنى مستوى من باقي رواياته إلى درجة النّفور منها إلى هذا الحد؟
يشير موقع «غُدْرِدْز» Goodreads، وهو أكبر مواقع تقييم الكتب على الإنترنت، إلى أنّ معدّل تقييم روايات «قصة حبّ مجوسيّة»، و«حين تركنا الجسر»، و«النّهايات» هو 2.98، 3.40، 3.42 (من أصل 5) على التّرتيب، وهي معدّلات متدنّية بالمقارنة مع معدّلات تقييم أعماله الأشهر، إذ تتراوح بين 3.83 («الأشجار واغتيال مرزوق») و4.33 («بادية الظُّلمات» وهي الجزء الخامس من خماسيّة «مدن الملح»). استثنيتُ هنا أعماله التي صدرت بعد وفاته، ورواية «عالم بلا خرائط» التي كتبها بالاشتراك مع الراحل جبرا إبراهيم جبرا، ورواية «سباق المسافات الطويلة» التي تستحق إفراد بحث خاص بها. لا يشكّل «غدردز» استبيانًا حاسمًا بكل تأكيد، ولكنّه يعبّر بدرجة معقولة عن الذائقة العامة. ولو استعرضنا آراء القرّاء سنجد عبارات مثل «يصعب تصديق أنّ هذه الرواية لمنيف»، «لولا أنّ اسمه مخطوط على الغلاف لقلت إنّه ليس له»، «لماذا نقرأ هذا الهذيان؟»، «لم أستطع تقبُّل كل ذلك العبث والهراء»، «توقّعتُ أنّها أفضل»، «رواية ضعيفة»، وتعليقات أخرى يمكن للقارئ إيجادها في الموقع.
هل الروايات رديئة حقًا؟ هل هي أدنى مستوى من رواياته الأشهر؟ السؤالان مهمّان لا من أجل فهم مشكلة الروايات الثلاث وحسب، بل لمحاولة فهم الذائقة العامة لدى القرّاء العرب. وسنطرح هنا السؤال الأهم: أين مكمن اختلاف هذه الروايات؟ بعبارة مختصرة: الروايات تجريبيّة. بل لعلّها أكثر روايات منيف إيغالًا في التّجريبيّة، بدرجات متفاوتة طبعًا. وليس من قبيل المصادفة أنّ الروايات الثلاث نُشرت خلال فترة زمنيّة لا تزيد على ثلاث سنوات، ولا أظنّ أنّ تاريخ كتابتها يسبق تاريخ نشرها بكثير. ثلاث سنوات من التّجريبيّة التي تخلّى عنها منيف بدرجة كبيرة في المرحلتين اللاحقتين من مسيرته الروائيّة: مرحلة خماسيّة «مدن الملح»، والمرحلة التي تلتها وصولًا إلى روايته الأخيرة «أرض السواد»، واكتفى بأسلوب أقرب إلى «التّقليديّة». لا يعني هذا – بطبيعة الحال – أنّ التّجريبيّة تلاشت من أعماله الأخرى، ولكنّه انتقل إلى وصفة كتابة جديدة تُناسِب آفاق الرواية الملحميّة والتاريخيّة. تجريبيّته الأولى أكثر توافقًا مع نمط رواياته الأولى: روايات قصيرة بحبكة بسيطة أو لا حبكة على الإطلاق، غير معنيّة بـ «القضايا الكبرى» بقدر ما تركّز أكثر على الفرد وهمومه «الصغيرة». بل يمكن لنا قراءة الروايات بوصفها روايةً واحدةً برغم اختلاف الشكل الظاهريّ والأحداث العابرة. فرواية «قصة حب» تروي حكاية حبّ مستحيل بين طالب عربيّ في مدينة أوروبيّة غير محدّدة (أغلب الظن أنّها بلغراد حيث درس منيف الدكتوراه في اقتصاديّات النفط) وامرأة أوروبيّة متزوّجة. وتروي «الجسر» حكاية زكي نداوي، وهو شاب يعمل موظّفًا في دمشق (هناك إشارتان شحيحتان إلى «باب شرقي»)، ولكنّ الرواية تتحدّث عن جولات صيده الطويلة بمرافقه كلبه وردان بحثًا عن بطة لا تشبه بطةً أخرى. أما «النهايات» فتروي حكاية قرية متاخمة للصحراء يضربها قحط لم تشهد القرية مثله سابقًا، فيصبح اعتماد السكّان على الصيد وعلى عسّاف الفهد تحديدًا بما أنّه أكثر الصيّادين خبرةً ومراسًا، وصولًا إلى هبوب عاصفةٍ رمليّةٍ قاسيةٍ تقتل عسّاف وكلبه.
تلك هي «حبكات» الروايات الثلاث. ما من تعذيب أو سجون سياسيّة أو تأريخٍ أو ملحميّة، ومع هذا فهي مغموسةٌ بالهزيمة. وهنا، ينبغي أن نضع أذهاننا منذ البداية أنّ السبب الأساسيّ الذي دفع منيف إلى عالم الكتابة الروائيّة كان انسداد أفق العمل السياسيّ، لا سيّما بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967. آثار الهزيمة باديةٌ بشدّة في الروايات الأولى، وبذا فهي أفضل نقطة انطلاق لقراءة هذه الروايات وفهم آفاقها وعوالمها. أبطال الروايات الثلاث مهزومون حتى العظم. قد يبدو هذا الكلام غريبًا حين نتحدّث عن «قصة حب مجوسيّة» التي تتناول قصة حب ولكنّ هذه «الحبكة» محض شَرَكٍ ينصبه الكاتب لقرّائه، أو قناع يُخفي عالم الرواية الفعليّ. الرواية مونولوج من طرف واحد. بوح مكسور لشاب عربيّ مهزوم مُكبَّل بقيود خفيّة دمّرته من الداخل كليًا، بحيث بات أشبه بغريق وجد قشَّته في امرأة مُشتهاة مستحيلة الوصال. يقاسي الشاب الهزيمة التي دمّرت ماضيه إلى درجة حذف هذا الماضي من الرواية كلّها. فالزمن بدأ بالهزيمة ويُؤرَّخ بها. هزيمة كبّلت حتّى إمكانيّات الحب في البلاد فمضى يبحث في لاوعيه عن حب آخر في المنفى. ليست شهوةً جنسيّة؛ هذا ما يردّده لنا ولنفسه على الدّوام. ولذا لا معنى هنا لتأويلات نقّاد عديدين رأوا فيها «موسم هجرة» آخر إلى الشمال. مصطفى سعيد بطل «موسم الهجرة إلى الشمال» لا يشبه بطل منيف على الإطلاق. لا يسعى بطل منيف لأن يكون «فاتحًا» بالجنس أو حتى بالحب، بل هو غريق يبحث عن مرساة. وكانت ليليان هي مرساته المستحيلة دومًا. تكاد الرواية تكون هذيانًا لشاب غارقٍ في حمّى لا براء منها، وربما كانت ليليان سرابًا فقط. لا يمكن لنا تأكيد هذا أو نفيه. ولكنّها موجودة في مخيّلته حتمًا، وقد كانت هي، هي وحدها، سبب نجاته. أما النساء الأخريات فلسن إلا أجسادًا عابرة، أو ربما تجلّيات لليليان نفسها.
يبدو بطل «قصة حب» مثل وحشٍ جريح يُلقي بلعناته علينا كلّنا لأنّنا لا (وربما لن) نفهمه. مشكلته، كما يقول، هو أنّ الألم يعتصر قلبه. يا لتفاهة المشكلة ويا لقسوتها! جرّب الجنس مع نساء كثيرات ولم يُشفَ ألمه. فالألم هنا قد تضاعف بفعل هزيمته التي كسرت روحه في بلاده، وبفعل المنفى الموقّت الذي يدهس قلبه هنا حيث لا أحد يفهمه، حيث «الناس مثل علب معدنيّة مُحكَمة الإغلاق: عيون مغمضة، ذقون مرتخية وملامسة للصّدور .. ثم شفاه متهدّلة .. وصمت». هذا الصمت هو ما يضاعف ألمه درجات. يبحث الشاب عن الوصال فلا يناله، فتعلَّقَ بحلم مستحيل يخشى الاقتراب منه كيلا يتحوّل إلى سراب آخر يُضاف إلى جعبة الهزائم. في سنوات السبعينيّات الأولى، وإلى اليوم، لا نفهم معنى اللوعة إلى أن نقاسيها بأنفسنا، إلى أن نحترق بها، أو ربّما إلى أن نُلقي عنّا عباءة الرهبان والحُكماء ونلمس قلوبنا بأيدينا ونتحسّس الجِراح. هذا ما نجده في «قصة حب» وفي «الجسر»، حين يتغيّر المكان والزمان وتبقى الهزيمة بأبعاد مختلفة. كلا البطلين يبحث عن حلم مستحيل يبدأ به حياةً جديدةً بانتصارٍ صغير. من هنا فقط سنفهم رجلًا «لا يحمل في قلبة رغبة شريرة، ويريد أن يشعل سيجارة امرأة حزينة ولا يستطيع». لا مجال لانكسار آخر، ولا مهرب إلا بالحلم أو الوهم ربما. حين نحلم، ونتوهّم، مع بطلنا وهو يردّد اسم ليليان «ليكتشف اسمها في الأصوات» حوله، كما كان زكي نداوي يصرخ في الغابة والحقول ليكسر الصمت. لا معنى للأشياء بغير أسمائها، ولا معنى لأسمائها إن لم تكن باسم المرأة المستحيلة وحدها التي لن تترك له إلا ذكرى تلويحة يد، ولمسات مرتبكة، وكلمات أكثر ارتباكًا في لقاء لم يدم إلا دقائق، ولكنّه سيدوم في عالم آخر لدهور كاملة؛ في عالمٍ لا هزائم فيه، في عالمٍ لا تكتمل فيه فراشة الأحلام إلا باتّحادها بالنار، لتصبح قصة حب مجوسيّة كتبها منيف، وربّما نَزَفَها، وهو يُدرك أنّها ليست لقارئٍ عجول يبحث عن حكاية، فالحكاية هنا هي عيش هذا العالم بكلّ «أوهامه»، كي نحاول التملّص من الهزيمة.
إنْ كان بطل «قصة حب» يعبّر بصراخٍ مكتوم مخنوق في داخله، فإنّ زكي نداوي، بطل «الجسر»، يصوّب لعناته على نفسه وعلينا بصراخٍ يخترق الآفاق. ما من جدوى وضرورة الآن للهمس، فالصّراخ وحده هو وسيلة الكلام بعد أن صمت الجميع. تحرّضنا أسباب كثيرة على رسم مقارنة بين البطلين، إذ يكادان يكونان متطابقَيْن: شاب منكسر يعاني آثار هزيمة سياسيّة واجتماعيّة كبرى تأكله من الداخل. وَجَدَ الأول مؤاساته في ليليان، وخفَّفَ الثاني وطأة الألم بوجود وردان، كلبه. وردان أحد أجمل الشخصيّات التي كتبها منيف. كلبٌ لا ينطق بطبيعة الحال، ولكنّه مرآة لزكي ولنا، كما كان المنفى في «قصة حب» مرآة لبطلها ولنا. وكما سيكون القحط في «النّهايات» مرآة لعسّاف وللقرية ولنا. يتلقّى وردان إهانات صاحبه كما يعانق حنانه مثل أخٍ أو صديقٍ وفيٍّ له على الدّوام بعد أن خانته الدنيا. زكي مهووس بذكرى دائمة تُلازِمه في أحواله كلّها، وتحفر وجدانه أكثر حين يحسّ باليأس؛ ومهووس من جهة أخرى بحلم مُشتهى مستحيل، كبطل «قصة حب»، وإنْ كان الحلمُ هنا بطّةً لا تشبه البط، إذ هي «ملكتهم» التي لم يُخلَق مثلها. يتوق زكي إلى اصطيادها كي يعوّض الهزيمة التي تنخر ذاكرته. الرمز واضح جدًا، ولم يكن هدف منيف الإيغال في المتاهة. الرموز شديدة الوضوح والفجاجة مثل الهزيمة الجليّة التي يأبى الجميع الإقرار بحدوثها. هي الجسر الذي تركه زكي ورفاقه الجنود من دون أن يعبروه أو ينسفوه. تركوه للعدوّ وفرّوا إلى «الحياة».
في الروايتين نحد هذيانًا للبطل يتناوب بين التعقّل والجنون. ولكنّ هذيان زكي يصل أحيانًا إلى درجة نكاد لا نعرف فيها ما إذا كان قد جُنّ حقًا. صراخ زكي جارحٌ يمزّق حدود العقل والجنون، فهو «هشٌّ كالقصب» كما يدرك تمامًا. ولا منجى من هذه الهشاشة إلا بالاستناد إلى كتف قويّة. سيجد زكي كتفين قويَّتَيْن تسندان هشاشته: كتف أبيه وهو يخترق ذاكرته في لحظات اليأس ليذكّره أنّ هناك مَنْ عاش ونجا حتى حين كسرته الحياة، وكتف الصيّاد الكهل الذي يروّض جنون زكي. لا يخفت صراخ زكي إلا حين يظهر طيف الأب أو يسمع كلمات الصيّاد. حينها فقط يعود زكي إلى إنسانيّته التي كاد يفقدها، ويبدأ يشمّ هواء الدنيا من جديد بعد أن كاد يخنقه الأسى. رموز الرواية واضحة، وفضاؤها مكشوف، ولكنّ البراعة تكمن في نحت الشخصيّة من الداخل، في التحوّلات التي تبني زكي ثم تهدمه ثم تُعيد بناءه، التحوّلات التي تخفّف حدّته وصراخه الزّاعق ليعود إلى همسٍ صداهُ أقوى من أيّ صراخ. زكي في بداية الرواية ليس زكي في نهايتها، برغم الخيبات المتلاحقة التي «يبشّرنا» بها منيف في إهداء الرواية. فالمهمّ هو الإقرار بالهزيمة من أجل مواجهتها.
«قصة حب» أقرب إلى الرومانتيكيّة، بينما تغوص «الجسر» في رمزيّة شفيفة، بخلاف «النّهايات» التي تمزج المناخين لتصل إلى حدود الأَسْطَرة. وبسبب هذه الرمزيّة، قد لا تمنح «الجسر» مفاتيحها كلّها في القراءة الأولى التي قد تبدو فيها الرواية متاهةً من الوحل والمياه الراكدة كالمستنقع، ولكنّها تتألّق مع كلّ قراءة جديدة. هذا المستنقع مستنقعنا كلّنا: مَنْ شهد الهزيمة ومَنْ لم يشهدها، من ترك الجسر ومن لم يتركه، من اصطاد البطّة ومن لم يصطدها، من آمن بوجودها أساسًا ومن لم يؤمن. ولعل كلّ ما نحن بحاجة إليه هو كتف تسند هشاشتنا، وصديق مثل وردان يذكّرنا أنّ ثمة ما يستحق الحياة، برغم الصخرة التي سحقت رأسه. أو امرأة مستحيلة مثل ليليان برغم تلاشيها كالأحلام، أو صحراء شاسعة تتّسع لهذياننا وصيدنا ولعبنا وموتنا.
حين وصل منيف إلى رواية «النّهايات» تغيَّرتْ معادلة كتابته جذريًا، وشقّت مسارًا جديدًا. إذا كان المطر قد أنعشَ بطل «قصة حب» وأرخى ظلالًا شجيّةً في الرواية، وقد غسل الوحل عن زكي نداوي ومحا بعض آثار الانكسار، فإنّ المطر في «النّهايات» بات يعني الحياة بذاتها. يضعنا منيف في قلب الحكاية منذ السطر الأول: «إنّه القحط. إنّه القحط مرة أخرى!». انتقلنا هنا إلى أول رواية يبرز فيها المكان بطلًا. بمعزل عن الاسم الوهميّ، «الطَّيْبة»، الذي وضعه منيف للقرية هنا، نجد أنّ الطّيبة ليست مجرد مكان على الخريطة، بل هي «المكان» بأل التعريف. يكتسب سكّانها ماهيّتهم وهويّتهم ووجودهم ومعنى حياتهم من المكان حتى لو ابتعدوا عنه. وأيُّ تحوّل في المكان سيكون تحوّلًا لهم بالضّرورة، إيجابًا أو سلبًا. وحين غفل بعض سكّان القرية المتاخمة للصحراء عن هذه الحقيقة، جاء القحط ليذكّرهم بالقرية وبأنفسهم.
«النهايات» أعذب روايات منيف. تخلّى عن تردّده وتلعثمه في الروايات الأولى، وكتب أولى رواياته المشدودة كوترٍ لا ترهّل فيه. لم تبلغ لغته صفاءً كهذا من قبل، وتسلَّل هذا الصّفاء بخفّة إلى رواياته اللاحقة، على الأخص في «التّيه» (الجزء الأول من «مدن الملح»). ولم يكتب بهذا القدر من الجمال عن المكان من قبل، بحيث أصبح، ابتداءً من «النّهايات»، أحد أعظم من كتبوا عن المكان في الرواية العربيّة. ولم تكن شخوص رواياته بهذه الحيويّة والعمق، إذ كانت أقرب إلى أقنعة من قبل، لتبدأ من ثمّ مسيرةٌ جديدةٌ خلق شخصيّات لا تُنسى وصولًا إلى حسّون مجنون «أرض السّواد»، وايتداءً بعسّاف بطل «النهايات». وعسّاف يعني حضور الطّبيعة بالضرورة، والطّبيعة هي العنصر المتجذّر الدّائم في أعمال منيف كلّها، وفي هذه الرواية على الأخص.
تبدأ «النّهايات» من القحط، ثم تنقل لنا الكلمات معنى القحط في قريةٍ تعيش على المطر كأيّ شيء حيّ. «الطّيبة» التي تبدو للوهلة الأولى مكانًا جامدًا ساكنًا بسكّان متماثلين، تتكشّف شيئًا فشيئًا عن تنوّع مذهل بين عجائزها وشيوخها ونسائها وشبّانها وأطفالها وحيواناتها ... ونباتاتها. والرواية التي تبدو للوهلة الأولى مرثاةً لمكان عذب يسكن الذاكرة في زمن تغوّل المدن، تفرد خبوطها فجأةً لندرك أنّ المكان هو الإنسان، وأنّ الطّيبة هي عسّاف الصيّاد الذي يعيش على الحافّة متملّصًا من التّصنيفات والحدود. رجل غامض ينتمي للطّيبة بقدر ما يبدو غريبًا عنها، وابنٌ للطبيعة بقدر ما يبدو ندًّا لها، وكائنٌ بشريٌ بقدر ما يبدو أسطورة. وإذا أضفنا الكلب الأعور الذي يرافقه، ستتداعى إلى الذّاكرة شخوص أدبيّة خالدة ابتداءً من كيخوته وحصانه روثينانته. وما يدعو إلى الاستغراب هو أنّ نقّادًا مهمّين عديدين وقعوا في فخ التّشابه البسيط بين بطلَيْ «الجسر» و«النّهايات»؛ وقعوا – بالأحرى – في فخ وجود كلبٍ يرافق البطل ويكون بمثابة مرآة له. بمعزل عن الكلب، ما من أدنى تشابه بين زكي نداوي وبين عسّاف، أو بين غابة ملكة البط وبين صحراء «النّهايات» من حيث كونهما فضاءً للصيد. وحتّى بندقيّة زكي الخائبة مثله لا تمتُّ بأدنى صلةٍ لبندقيّة عسّاف التي تشبهه بغموضها ورقّتها وحكمتها. زكي نداوي يصيد ليعوّض الخيبة، فهو ابن مدينة في نهاية المطاف، ولكنّ عسّاف ابن البادية والقرية الصحراويّة، يصيد ليأكل كفايته ويعين الآخرين ممّن لا يملكون القوت في أوقات القحط.
يبدو عسّاف مثل نبيّ بُعث في زمان لا يحتمل وجود الأنبياء ولا يستحقّ وجودهم أساسًا. زمن الجشع وسطوة السّلاح الذي يتطوّر يومًا بعد يوم ليقتل أكثر بلا تمييز. زمن توحّش المدينة وغزوها لكلّ ما لا يشبهها. زمن جفاف آخر قطرات البراءة قبل تحوّل البشر إلى وحوش جائعة لا يُشبعها شيء. وبما أنّ هذا الزمن ليس زمن براءة ونبوّة، لم يعد لعسّاف مكانٌ فيه حين غزت الآلاتُ والأسلحةُ الصّحراءَ. يبدو عسّاف بشيرًا بشخصيّة عنيدةٍ حالمة أخرى هو متعب الهذّال الذي سيُلاقي مصيرًا مشابهًا في «التّيه»، ونذيرًا بصخب الآلات وجنونها الذي سيدمّر كلّ ما تبقّى من الطّيبة. وليس من قبيل المصادفة أن يختار منيف هذا الاسم الجميل للقرية: الّطَيْبة أي «الحيّة» التي تعيش رغم القحط، فعلاقتها بالطبيعة علاقة تفاهم مهما بلغت درجة القسوة، ولكنّها ستذوي وتموت حين تتغيّر المعادلة بدخول عنصر «غير طبيعيّ». وهنا، تبدو القصص القصيرة العشر التي أدخَلَها منيف في بنية الرواية أشبه بأصداء لسهرات سَمَرٍ بعيدة في الذاكرة، أنهاها الإقرار بحقيقة الموت، ودفن آخر أسطورة من أساطير الصحراء قبل تحوّلها إلى مدينة.
تتميّز روايات «قصة حب مجوسيّة»، و«حين تركنا الجسر»، و«النّهايات» عن باقي روايات منيف بأنّها روايات تنأى عن الحكاية. روايات متاهات كُتبت لتجرح ولا تداوي. روايات قصيرة مصقولة مثل نصلٍ يحفر ويحفر بلا هوادة. ليست روايات للتّسلية أو لقراءة واحدة. فمع تعدّد القراءات سيبدأ المرء بالتّساؤل ما إذا كانت هذه الروايات الثلاث تجلّياتٍ لروايةٍ واحدة فعليًا. لا يعني هذا تماثُلها، أو نقصانها، إذ لكلٍّ منها عالمه المتفرّد الذي لم يكرّره منيف بعد أن غرق في جحيم الروايات الملحميّة التي لا ترحم كاتبها أو قارئها. ما من قانون يرغم قارئًا على قراءة أيّ عمل، ولكنّ روايات منيف الكبرى – على جمالها وأهميتها - لا تكفي لفهم عالمه بأكمله. لدينا هذه الروايات الثلاث التي لا تقلّ جمالًا وبراعةً عن الروايات الكبرى، بل قد تفوقها في بعض المواضع. هناك منيف آخر غير منيف «مدن الملح» و«أرض السواد». منيف الذي كان ما زال يتلمّس عجين الرواية ويلعب به على هواه. ربما كانت هذه الروايات الثلاث سترسم مسارًا مختلفًا للرواية العربيّة لو واصلَ منيف تجريبيّته المدهشة. لا يمكن لأحدٍ أن يجزم بهذا. ولكن يمكن لنا أن نجزم بأنّ هذه الروايات تستحق مكانًا أفضل في المشهد الروائيّ حتّى لو استمر القرّاء في نفورهم الغريب منها، وفي محاولاتهم العجيبة لإقناع أنفسهم بأنّها ممّا «لم يكتبه منيف». هو كتبها حقًا، ولكن هل أحسنَ القرّاء والنقّاد قراءتها؟ «كيف نقرأ؟» هو السؤال الأهم في عمليّة القراءة بأسرها، وما زلنا نواصل قراءاتنا الخاطئة المُجحفة.