كان أحد شروط الولايات المتحدة بُعيد انسحاب الجيش العراقي إثر الاحتلال الهمجي للكويت في ٢ آب ١٩٩٠ و السماح لحكومة صدام حسين البقاء في الحكم، هو استمرار ضخ النفط العراقي دون توّقف. كانت أولى المنشآت التي دمّرتها قوات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة، تدميراً كاملاً هي مصافي النفط في مدينة البصرة، ومنطقة الدورة (في أطراف العاصمة بغداد) ومجمَّع الصناعات الپتروكيمياوية، الذي أستمرَّ قصفه من ١٧ كانون الثاني، ولمدة ثمانية أيام ليلَ نهار. كان العراق وإيران الوحيدين في الشرق الأوسط الذين يمتلكان صناعة نفطية وپتروكيمياوية مستقلة ومتقدمة نسبياً. تعطلت هذه الصناعة كثيراً إبان الحرب العراقية-الإيرانية (ولكن لم يتوقف ضخ النفط يوماً واحداً طيلة سنيّ الحرب الثماني)، ودُمِّرتْ في العراق تدميراً كلياً في حرب الخليج الأولى عام ١٩٩١. لم ينجح العراق في إعادة بنائها فيما بعد، وبعد احتلال العراق في ٢٠٠٣، كانت الأوامر واضحة لطبقة الحكم الطفيلية الجديدة بالعمل على زيادة إنتاج النفط وإهمال إعادة بناء هيكلية الصناعة الپتروكيمياوية. وعراق ما بعد ٢٠٠٣ غير قادر حتى على تكرير النفط - لتحويله إلى مصدر طاقة ووقود، كالبنزين والكيروسين، إلخ. و لكن إنتاجية النفط العراقي تضاعفت ما يزيد عن ١٤ مرة بالمقارنة بإنتاجيته لعام ١٩٨٨، حسب إحصائيات معهد النفط الأمريكي (American Petroleum Institute). وتقوم شركات النفط العالمية بتصدير النفط الخام العراقي إلى مصافي (أو مصانع التكرير) في مراكز أورپية (في بريطانيا وهولندا والبرتغال، مثلاً) والولايات المتحدة. بعد عمليات التكرير، يباع جزءٌ من النفط كمصدر وقود، وجزء آخر لإنتاج الپتروكيمياويات والمواد الكيمياوية المتنوعة. والمركز الأساس للصناعات الپتروكيمياوية في العالم هو مدينة هيوستن في تكساس، وهناك مراكز أخرى في أورپا والياپان. كما ظهرت مراكز جديدة - نَمَت كثيراً في أهميتها - على مدى العشرين سنة الأخيرة في الصين، مثلاً.
أين تكمُن أهمية النفط؟
لا تكمُن أهمية النفط، هذا القرن بالتحديد، في كونه مصدر طاقة، بَل تكمن أهميته الأساسية في الجزيئات والمركبّات الكيمياوية المستخلصة. فحوالي٦٠ بالمئة من إيرادات شركات النفط العالمية (شيل الهولندية-البريطانية، توتال الفرنسية، شيڤرون وأكسون-موبيل الأمريكيتان، بريتش پتروليم البريطانية، إلخ.)، حسب تقاريرها السنوية للمستثمرين، تأتي من حوالي أربعة بالمئة من كمية النفط الخام. و المعادلة واضحة، إذ أن أرباح النفط الأساسية تكمن في الصناعات الپتروكيمياوية. ويُفسِّر هذا مسألتين. ليست مصادر الطاقة العائق، أو المُحرك الأساس، لأهمية النفط هذا القرن. فأورپا وأسيا والأمريكيتان تملك خيارات متعددة غير مؤذية للبيئة. الماء، مثالاً، يُشكل مورداً مهماً لتوليد الطاقة الكهربائية في الولايات المتحدة وكندا، ومصادر المياه أساساً كندية المنبع. هناك أيضاً الطاقة النووية للاستخدامات المدنية، وهي واحدة من مصادر توليد الطاقة في أورپا واليابان. أضف إلى ذلك توليد الطاقة الكهربائية مما يُسمى "مزارع الطواحين الهوائية" الكثيرة الشيوع، والنمو، في أورپا وآسيا. ولا يزال الفحم الحجري مستخدماً في بعض الولايات الأمريكية وبريطانيا كمصدر للطاقة، إلا أنه في تراجع سريع بسبب قلة إنتاجيته، أساساً، مقارنة بكلفة الاستخراج وكذلك بسبب ضرره للبيئة.
كثيرٌ من المصانع الكبرى في الولايات المتحدة و الصين مستقلة ذاتياً في توليد الطاقة اللازمة لتشغيل هذه المصانع. خُذ على سبيل المثال لا الحصر، المصانع الضخمة للمنتوجات الورقية (مواد التغليف بكافة أنواعها، المجلات، أنواع المحارم، إلخ.) أو مصانع إنتاج السيارات والمكائن الثقيلة. هذه المصانع تُحَّول البخار (steam)، مثلاً، أو مادة الـ lignin - وهي مادة مستخلصة من الأشجار، أو الفضلات النباتية - إلى طاقة كهربائية. النمو الرأسمالي دائم البحث عن وسائل لتطوير وسائل الإنتاج لغرض تقليل الكلفة المادية وزيادة الإنتاج والأرباح، المحرك الأساس للاقتصاد الرأسمالي. من هذا المنطلق، فإن خيارات مصادر توليد الطاقة في المصانع العملاقة أو لتسيير حركة العيش في المدن الكبيرة والصغيرة وتشغيل وسائل النقل العامة، كثيرة. ولا ترتكز في القرن الواحد و العشرين على النفط تحديداً. لكن النفط، لا سيما ذلك القادم من الشرق الأوسط، يظل مصدراً رخيصاً ويسدّ جزءاً مهماً من احتياجات الطاقة في العالم. ولكن هناك مصادر أخرى كثيرة تعوّض عن استخدام النفط لإنتاج الوقود والطاقة.
حاجة النفط الأساسية و الأهم في القرن الواحد و العشرين تكمُن في إنتاج الپتروكيمياويات. كل شيء في حياتنا اليومية يستهلك و يحتاج إلى پتروكيمياويات ومعادن طبيعية. والنفط والمعادن تتواجد بكثافة غزيرة في الشرق الأوسط وأفريقيا، واستخراجهما من تلك المناطق رخيص جداً من حيث الكلفة. إن جولة في أي من الأسواق الغذائية أو محلات الألبسة أو الإلكترونيات أو غيرها ستوضِّح ما أعنيه. مثلاً، في عملية صنع الألبان أو الأجبان بأنواعها المتعددة تُستَخدم مواد مستخلصة من الپتروكيمياويات تسمى الـ surfactants. وتُساعد هذه في خلق مادة مُتجانسة شكلاً وكثافةً. هناك أيضاً جزيئات مهمة مشابهة تستخدم في صناعة النبيذ والبيرة وغيرها من المشروبات الكحولية وغير الكحولية، كالبيبسي والكوكا كولا وغيرهما. كما تُستخدم الجزيئات الپتروكيمياوية في صناعة الأدوية، بدون استثناء، ومساحيق التجميل والدهون الطبية والتجميلية، وكذلك مساحيق الغسيل، بكافة أنواعها، والملابس والأصباغ والأحذية. وتحتوي كل الأجهزة الإلكترونية ومكوناتها على أنواع مختلفة ومعقدة من الجزيئات الپتروكيمياوية. وتسخدم هذه الجزيئات والمواد الپلاستيكية، المُشتقّة من الپتروكيمياويات، في مواد تصنيع السيارات ووسائل النقل العامة والطائرات. وبالطبع، تستخدم المعادن والمواد الپتركيمياوية في صناعة الأسلحة . السيارات الكهربائية، أيضاً، تحتاج الى المواد الپتروكيمياوية ليس فقط لصناعة المقاعد و أجزاء أخرى مثل كل السيارات. بل إن الجزيئات الپتروكيمياوية، ومركبّات المعادن، أساسية في صناعة البطارية التي تُحرِّك السيارة كهربائياً. فمن غير الممكن صناعة سيارة تُحرَّك كهربائياً دون مستخلصات النفط والمعادن.
ملخص الكلام، لا يمكن إطلاقاً لأي إنسان أن يستغني عن منتجات النفط والمعادن في حياته/ها العملية واليومية في القرن الحادي والعشرين. و هذه الحاجة تتطلب من الشركات الصناعية الكبرى، والدول الصناعية الكبرى، إيجاد مصادر للنفط والمعادن رخيصة الإنتاج. وبالتالي فإن جدلية العلاقة بين النظام الإقتصادي والبنية الصناعية، من جانب، والحروب والفقر، من جانب آخر، لا تقل أهمية في هذا القرن. إن الترابط بين التطور العلمي والتحرر حقيقة مادية بحتة أساسية لتطور ورفاهية الشعوب.
خارج منظومة المركز الأورپي-الأمريكي و تابعات هذا المركز في آسيا و الهند، قد تكون إيران الدولة الوحيدة التي تملك إمكانيات الصناعات النفطية والپتروكيمياوية واستمرت في تطويرها. بالإضافة الى تصدير النفط الخام، طورَّت إيران صناعات مواد كيمياوية وپلاستيكية، وكذلك هيكلية مراكز أبحاث أكاديمية وفنيّة، ساعدتها في خلق منظومة صناعات ثقيلة وكهربائيات و أدوية وغيرها أعطتها استقلالية أهلتّها أن تتجاوز إلى حدٍ كبير الاعتماد الكلي على المركز الأوربي-الأمريكي. و تجلى هذا التحدي ، أيضاً، في مسيرة إيران لتحقيق دوافعها الإقتصادية والجيغراسياسية في الشرق الأوسط، و مواجهتها الهيمنة الأمريكية في المنطقة. و هذا يُفسِّر، في تقديري، قرار البيت الأبيض-الكنيست الإسرائيلي إعادة فرض الحصار الاقتصادي، و ربما شنّ حرب جديدة في المنطقة. و على بُعد ما يزيد عن ١١٠٠٠ كم من طهران، أشعلت الولايات المتحدة البَلبَلة في ڤنزويلا لأن الأخيرة أبدَت نيتّها، وأخذت تُخطط، لتأسيس صناعة نفطية وكيمياوية في البلد. ومن هذا المنطلق أيضاً يجب أن ننظر لأنبوب النفط العملاق المُزمَع بناؤه من مقاطعة ألبِرتا في كندا إلى هيوستن في تكساسً لضخ النفط الكندي لغرض تكريره وتحويله إلى مصدر وقود وكيمياويات. لم و لن تسمح الولايات المتحدة لكندا بإنشاء مصافي نفط أو بناء صناعة كيمياوية منافسة شمال حدودها، وكل الحكومات الكندية المتعاقبة ترضخ بخنوع لا يختلف عن دول الخليج العربي. تسعى الولايات المتحدة أن تكون الدول (الأخرى) المُنتجة للنفط دول استيراد واستهلاك بحت. الصناعات الكيمياوية في أي بلد في القرن الواحد و العشرين تعني الاستقلالية الاقتصادية والنمو. و هذا يُسبب قَلَقاً للولايات المتحدة لا سيّما و أنها تجابه تحديات كبيرة لسيطرتها الاقتصادية، ومن ثَمَّ العسكرية والجغراسياسية، في العالم من قِبل الصين. التحدي الصيني للهيمنة الأمريكية في تصاعد مستمر، ولا بد أن تبحث الولايات المتحدة عن بدائل لفرض هيمنتها وضمان ديمومتها.
أملٌ في عالمٍ يتهاوى؟
هنالك خيارات، وليس الطريق مسدوداً. ليس العِلم، والتطور العِلمي، بالتحديد، خاضعين لهيكلية النظام الاقتصادي و السياسي. لكن استخدام الإنجاز العلمي في خلق تطور تكنولوجي يخضع تحديداً لهيكلية النظام الاقتصادي والسياسي. لنوَّضح هذا من خلال مثال محدد. واحدة من أكثر الجزيئات الكيمياوية شيوعاً في استخداماتها المتنوعة والكثيرة هي جزيئة الپولي-أثيلين (polyethylene)، المستخلصة من النفط. وتتكون من عنصرين فقط: الكاربون والهايدروجين. ولكن من الممكن، أيضاً، تكوين هذه الجزيئة من مكونات نباتية كلياً: قصب السكر والبردي، مثلاً. و بالفعل، فإن هناك صناعة مهمة عُمرها يزيد عن الأربعين سنة في البرازيل لاستخلاص هذه الجزيئات وأخرى شبيهة تُستخدم في الصناعات الپلاستيكية ليس من النفط بل من قصب السكر، و هو نبات دائم ينمو سنوياً بكثرة في البرازيل. و ستخدم شركة كوكا كولا الأمريكية، منذ عام ٢٠١٥، نسبة ٣٠٪ من المواد الپلاستيكية في صناعة قناني المشروبات الغازية والمياه من مواد مُستخلصة من أصل نباتي (قصب السكر البرازيلي)، وبالتالي تحاول تدريجياً التقليل من استخدام الكيمياويات المُشتقّة من النفط.
تنمو مئات الأطنان من قصب السكر والبردي في العراق ومصر سنوياً، وغيرها من مناطق العالم العربي، ولا تُستَغل إطلاقاً في بناء أي صناعة كيمياوية محلية متطورة ذات اكتفاء ذاتي. هذا بالإضافة إلى أمثلة أخرى عديدة لإنتاج جزيئات كيمياوية مرادفة من مصادر نباتية بحتة. إذ لا توجد عوائق علمية أو صناعية أو اقتصادية تحول دون خلقها (البرازيل مثالاً). العائق هو هيمنة التخلف المعرفي في الدول المنتجة للنفط عربياً في ظل سيطرة ديكتاتوريات وراثية أهمَكت شعوبها في هَوَس الاستهلاك الفجّ.
ظهرت خلال الثلاثة عقود الأخيرة، و مع التطورات الكبيرة في علوم الفيزياء و الكيمياء و النانوتكنولوجي (nanotechnology)، اكتشافات علمية مهمة جداً لطرح بدائل صناعة مواد كيميائية وتكنولوجية من مصادر نباتية خالصة، كجزيئات السليولوز (cellulose)، أو مواد طبيعية أخرى ذات تأثير بيئي إيجابي، كالزجاج (وهو بالأساس مُستخلص من الرمل) أو الـطين (clay) - نعم الطين! ومع هذه المواد الفعالّة كهربائياً وضوئياً يصبح من الممكن صناعة وتطوير أجهزة ومعدات إلكترونية وكهربائية ذات جودة وظيفية عالية من مصادر كيمياوية غير-نفطية وذات مردود بيئي إيجابي. وتصبح الخيارات التكنولوجية لتوظيف هذه المواد الكيميائية غير-النفطية المنشأ، لبناء صناعات دقيقة ذات بُعد بيئي إيجابي ممكنة اقتصادياً وعِلمياً. ولكن ذلك لن يُلغي أهمية الپتروكيمياويات على المدى القريب. العِلم يُقدم خيارات، وللشعوب الحق في استثمار هذه الخيارات لمصلحتها وللحفاظ على البيئة.