شهدت أسبانيا منذ أيام انتخابات تشريعية عزز فيها الاشتراكيون مكاسبهم السياسية بزعامة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز بنسبة 29٪، أي ما يعادل 123 مقعدًا في البرلمان. لكن اليمين المتطرف دخل التاريخ بعد أن حصد حزب "فوكس" اليميني المتطرف 24 مقعدًا في البرلمان. وشكلت هذه النتيجة عودة قوية لليمين القومي الأسباني المُتشدد بعد غياب دام لأكثر من 40 عامًا عن المشهد السياسي، أي منذ وفاة الديكتاتور العسكري فرانثيسكو فرانكو في 1975.
فما الذي يدفع اليمين المتطرف إلى الساحة الأوروبية عمومًا بهذه القوة مع كل حدث إنتخابي؟ هل الخطاب القومي، وسياسة الأبواب المغلقة في وجوه اللاجئين، والوعود الإقتصادية المفرطة في تفاؤلها، وحدها قادرة على رفع سقف التوقعات، لكي تنجح الأحزاب اليمينية في أن تصبح أكبر فائز في انتخابات البرلمان الأوروبي التي تعقد خلال شهر مايو الحالي وتُضاعف عدد مقاعدها (حسب إستطلاع للرأي جرى في ست دول وهي "ألمانيا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا وفرنسا)؟ أم أنه يمكن تحليل الأمر من زاوية علمية/نفسية تشمل علاقات متشابكة؛ تتعدى ما هو سياسي واقتصادي فحسب، وتشمل أبعاداً عالمية، حتى على مستوى العلاقة بين الشرق والغرب، لفهم كيفية تطور اليمين المتطرف وزيادة شعبيته في الغرب.
الغرب يحاول فهم نفسه
لو نظرنا للإجابة على الطرح السابق في المقدمة من الجانب البرامجي لليمين المتطرف حول "الهجرة" وما ينتج عنها من ظواهر نفسية فقط كـرهاب الإسلام، أوإقتصادية فقط كالتأثير على "العمالة والأجور" ستكون نظرة شديدة التسطيح حول نمو شعبية الأحزاب اليمينة في الشارع الغربي عمومًا والأوروبي خصوصًا. وذلك لأن مشكلة الهجرة يمكن أن تحدها ضوابط قانونية سياسية ينفذها أي من الأطراف المتصارعة في الإنتخابات كـ "يسار أو يمين" الوسط. إنه لأمر محيّر، فلماذا إذاً تتزايد شعبية اليمين المتطرف؟ يمكن أن تقدم دراسة جامعة كامبريدج المعنونة بـ "المؤامرة والديمقراطية" والتي شملت العديد من البلدان في أوروبا، أجوبة لكل تساؤلاتنا حول اليمين المتطرف وتُلخص شعبية الأحزاب اليمينة بأنها متتغذّى على "نظريات المؤامرة" التي تتزايد في الأوساط الأوروبية. وتتعدد فروع فكر المؤامرة لتشمل "المهاجرين" و"رهاب الإسلام" و"الشك حول جدوى اللقاحات الطبية" و"إنكار الإحتباس الحراري".
تشير دراسة كامبريدج إلى أن المواطن الأوروبي، ليس في أسبانيا فقط بل في العديد من البلدان الأوروبية- أخذ يشعر أن حكومته تخدعه وتخفي عليه الكثير من الحقائق. ويأتي المثال الأبرز من حيبز بعيد عن الحقل السياسي، وتحديدًا في الحقل الطبي، حيث يعتقد الأوروبي أن هناك العديد من الأضرار للقاحات الطبية لا يتم إخباره بها. وبالتالي بدأت تزيد نسب المُتهربين من التطعيمات الطبية وعادت للظهور عدة أمراض ظنت الحكومات الأوروبية أنها لن تظهر ثانيًا، مثل مرض الحصبة.
تبدو هذه الفكرة المؤامراتية إزاء اللقاحات الطبية "ساذجة" ولكنها ساهمت في تغذية شعبية اليمين المتطرف وغيرت المشهد الأوروبي في الديمقراطيات الغربية، فبعيدًا عن أسبانيا، التي حقق فيها اليمين المتطرف إنتصاراً تاريخياً، خصوصا أن حزب "فوكس" الذي كان هامشيا قبل ستة أشهر فقط، أحدث زلزالاً سياسياً بحصوله على حوالى 11 بالمئة من الأصوات في انتخابات إقليم الأندلس، تستند الدراسة إلى أرقام مُفزعة حول تصديق المؤامرات سابقة الذكر في عدة بلدان. وجاءت أعلى النسب في فرنسا وأقلها في السويد التي يؤمن فيهما نحو 76% و52% على التوالي[1] ممن تم استطلاع رأيهم. أي أن الأغلبية في الدول الأوربية صاروا يؤمنون بأن هناك ما يُحاك ضدهم في الخفاء من قبل الساسة التقليديين.
ومنذ العام 2015 وإنفجار أزمة اللاجئيين والمهاجرين المُتدفقين على الشواطئ الأوروبية انتشرت نظرية مؤامراتية تحت عنوان "الاستبدال الكبير". وهي سيناريو مُتخيل عن عملية إحلال واسعة لسكان أوروبا الأصليين واستبدالهم بسكان مُهاجرين بأغلبية مسلمة قادمة من أفريقيا والمغرب العربي. وعلى الرغم من بساطة الفرض المُتخيل إلا أنه يلقى أصداء واسعة بين النخب المثقفة. فقد قدمه الروائي الفرنسي الشهير ميشال ويلبيك، الحائز على جائزة غونكور، أرقى الجوائز الأدبية الفرنسية" في روايته "استسلام". ودافع عن نفس الفكرة المؤامراتية الفيلسوف المحافظ آلان فينكلكراوت في حديثه عن رواية ويلبيك الذي وصفه بأنه "يُبقي عينيه مفتوحتين ولا يدع فكرة اللباقة السياسية ترهبه". وحسب فينكلكراوت فإن ويلبيك يصف "مستقبلا غير مؤكد لكنه محتمل." وعلى مثل هذه السردية المؤامرتية يسير حزب فوكس الإسباني فهو ليس فقط حزب يميني يعادي المُهاجرين إنما يعادي الإسلام تحديدًا.
وما سبق من مثال لنخب أوروبية أدبية وسياسية، يفترض أنها مستنيرة، دفع هوجو ليل، أحد الباحثين القائمين على إنجاز دراسة كامبريدج للقول في أحد اللقاءات[1] أن: "السذاجة تشمل الجميع." وفي الحقيقة هذا أمر ليس مستغرباً لأي قارئ جيد في التاريخ.
وعلى عكس المُتوقع، فدراسة جامعة كامبريدج تؤكد أن الأفكار المؤامراتية التي تُغذي أحزاب اليمين المتطرف لا تتعلق بالضرورة بجهل فئة من المواطنين، بل أن الأكثر حصانة ضد الأثر السلبي للأفكار المؤامراتية هم مَن لم يتلقوا تعليما عالياً ولا يستخدمون وسائل التواصل الإجتماعي إلا نادرًا. على عكس أصحاب الشهادات العليا الذين يميلوا لتصديق الخرافات وتتكون لديهم توجهات تؤدي لدعمهم أحزاب اليمين المتطرف. وانعكس هذا في إنتصار حزب فوكس اليميني المتطرف نصراً تاريخيًا في انتخابات برلمان إقليم الأندلس الواقع في جنوب إسبانيا والأكبر في المملكة، إذ فاز بـ12 مقعداً نيابياً ليصبح أول حزب يميني متطرف يدخل برلمانا إقليمياً في إسبانيا.
من خلال التجربة الإنتخابية الإسبانية تبدو الديمقراطية الغربية الآن في صراع لم يعد يتمحور حول البرامج الإقتصادية والخدمات الإجتماعية، ولكن حول السردية المؤامرتية الأكثر ملائمة لأوروبا، فصار الفكر الغربي منقسماً. هل نسمح بغرق الآلاف في البحر المتوسط ونُفشل المؤامرة الخفية علينا بأسلمتنا أو أفرقتنا؟ أم نكون وسطيين علميين ونعمل على تحويل اللاجئين لقيمنا الأوروبية على نمط الفكر الخيالي لرواية "عالم جميل شجاع" لهيكسلي.
نحن ننظر لأوروبا الآن في أزمتها ونمو روحها المتطرفة المتغذية على فكر المؤامرة على أنه تشوه للنموذج الديمقراطي الذي كان الحلم الأخير لكل دول الشرق، على الرغم أن أوروبا نفسها هي التي صنعت هذه الفقاعة المؤامرتية. ولو نظرنا بشكل أوسع إلى جوانب معطيات دراسة كامبريدج سنجد أن ما يحدث في أوروبا من صعود لفكر المؤامرة هو نتيجة مباشرة لسياسات الغرب الفاشلة والعدوانية تجاه دول الشرق والجنوب الفقيرة. على سبيل المثال، أدى الهجوم العشوائي وغير المُحدد الأهداف من قوات الناتو الغربية على ليبيا إلى الحرب الأهلية في هذا البلد الذي تحول لأكبر الموانئ المصدرة للبشر والمخدرات والسلاح إلى أوروبا فيما بعد. وقبل عقود غذت الدول الأوروبية المد الوهابي والديني عمومًا في السبعينيات ليكون محاربًا للأفكار الشيوعية عبر مجموعة "السافاري – مجموعة دولة عربية وأوروبية تولت التنسيق ضد الإتحاد السوفيتي في فترة تجميد وكالة المخابرات الأمريكية إثر التحقيقات التي حدثت للجهاز على أثر فضيحة ووترجيت[1]" حتى وصلنا لنموذج القاعدة الإرهابي في أفغانستان الذين قُدمول أول الأمر كمقاوميين للمد الشيوعي المُلحد. وغزو الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق الذي أوجد الظرف المبدأي لظهور داعش، إلى جانب الحروب للسيطرة على موارد دول قارة أفريقيا كإحتلال دولة مالي وتنمية الصراعات في إفريقيا الوسطى من أجل النفط هناك.
وبالقياس على ما سبق سياسيًا يمكن أن نتفهم كيف وصل الفكر المؤامراتي إلى المجال الطبي. وهذا بسبب الاحتكارات الواسعة للعلوم الطبية والتكنولوجيا من جانب الغرب وإبقاء باقي العالم سوقاً مفتوحاً لهم، مما دفع العديد من الدول لمحاولات التقليد والمحاكاة أو حتى سرقة الإبتكارات مثل الصين –الحرب الأمريكية على الأسواق الصينية والإيرانية مثالٌ على هذا ورغبة في التأكيد على هيمنة وادي السيلكون على أي دولة تُفكر في تقديم تكنولوجيا تصنيعية خاصة بها.
ما تقدمه ظاهرة نمو اليمين المتطرف في الغرب المركزي في السردية العالمية بحكم هيمنته العسكرية والإقتصادية قد يشكل أحد أهم العناصر المفيدة لنا في الشرق لكي ندرك أن الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية ليست حِكراً على جنس دون آخر بل هناك عوامل مادية ونفسية تساعد على تحقيقها وإن غابت هذه العوامل ستغيب معها كل العملية الديمقراطية.
خاتمة
لن تكون أسبانيا المحطة الأخيرة في تصاعد اليمين المتطرف. ولن تتوقف أفكار البريكست البريطاني عن الإنفصال والإنغلاق. ولن تترك الهستيريا الترامبية –نسبة لترامب رئيس الولايات المتحدة- حجراً في بناء الديمقراطية الغربية دون أن تخلخله. ولكن، كل هذا لا يهمني على المستوى الشخصي بقدر ما يثبت لي أنه علينا، كـ «شرقيين» (وسواء شئنا أم أبينا فهذا هو موقعنا ووصفنا في أي سردية) أن نستفيد مما يحدث. وذلك يكون ببناء أفكار ديمقراطية وعلمانية والتحضير لبدائل مستمرة مهما ضغط علينا ديكتاتوريو الشرق المدعومون غربيًا، أو استقطبتنا القوالب الفكرية الغربية الجاهزة التي تثبت أنها تضعف حتى حيث نشأت. وعلى هذا الأساس فبإمكاننا أن نُقاوم فكر إحتقار الذات السائد وأن نتجاوز خرافة أن تخلفنا راجع لمكان ولادتنا أو جينات خُلقت معنا في أرحام أمهاتنا.