بضع عشرات من المشيعين اجتمعوا في الثامن عشر من أيار في مقبرة حمص، يعرف الجميع بعضهم البعض فهم من القلة الذي بقوا في المدينة إضافة لبعض أفراد العائلة ممن لم يهاجروا بعد، بحثت عن وجوهٍ اعتقدت أنها لن تفوّت وداع شخصٍ بقامة الطيب تيزيني، إلا أنني لم أجدها، إذ غاب مثلاً حضور أي ممثل عن وزارة التعليم العالي واتحاد الكتاب العرب.
في المقبرة، اعتقدت لبرهةٍ أّن عدد المشاركين في وداع تيزيني أكبر من العدد الفعلي الذي لم يتجاوز الخمسين، إذ وصلت العديد من السيارات والمشيعين الذين تفرقّوا بعد دخولهم للمقبرة لحضور جنازاتٍ أخرى، كذلك غابت عن الجنازة أكاليل الورد التي يحملها المُشيعون عادةً أثناء وداع أحبتهم وأصدقائهم إلى مثواهم الأخير، فلم يحضر إلا إكليلٌ صغيرٌ أرسل باسم غرفة صناعة حمص.
ربما يعود غياب الورد عن المشهد للضائقة الاقتصادية أو ربما لأسبابٍ أخرى؟
يعود تاريخ معرفتي المباشرة بالطيب إلى فترةٍ متأخرةٍ نسبياً، بعد خروجي من المعتقل، وتحديداً عام ٢٠٠٣ عندما استضاف الصديق عبد الحفيظ الحافظ في بيته لقاءً جمع بين الطيب ومجموعة من أبناء المنطقة الوسطى. في تلك الجلسة، تحدّث تيزيني بجرأة عن الحرس القديم، وكان صاحب النصيب الأكبر من الهجوم والنقد هو عبد الحليم خدام، الذي كان نائب رئيس الجمهورية حتى العام ٢٠٠٥ قبل انشقاقه عن النظام السوري، و كان تيزيني خلال محاضراته في مختلف المناطق السورية يعيد تأكيد أطروحته هذه منتقداً احتكار السلطة لكل شيء حتى الحقيقة.
يومها لم أكن معجباً بالهجوم على ثورٍ يتهيأ الراعي لطرده من الحظيرة، وفي لقاءٍ خاصٍ في بيته سألته ما معنى الهجوم على خدام بذلك الوقت؟ وعن معنى مقولته الشهيرة التي قالها على مدرج جامعة دمشق (شباط ٢٠٠١) واصفاً بها المثقفين ومنتديات المجتمع المدني بأنهم “عملاء للسفارات الأجنبية” بما فيها من تبرير لقمع المنتديات، فأجابني “قلت لخدام ذلك منذ عامين وأثناء لقاء معه وليس الآن، لأنه لا معنى أن تتحدث عن الدواء الناجع لشخص بعد موته أو وصول مرضه لنقطة يتعذر شفاؤه فيها.”
قد يختلف كثيرون منا حول شخصية الطيب ونتاجه الفكري، ألا أن هناك شبه إجماع حول صدقية طرحه وانسجامه مع قناعاته، ورغم الآراء المختلفة حول مقاربته التوفيقية، إلا أنها تتوافق على حرصه على التوافق والذي يجده البعض منا أقرب إلى الطوباوية.
كان الطيب مثلاً ينظر إلى رجل الأمن وكأنه الدولة، لا كمجرد عنصرٍ في جهازٍ يفترض أنه تابع لمؤسسات الدولة، بحيث لا يمكن التفريق بينهما، ومن هنا كان الاختلاف بينه وبين مجموعة عملنا في العام ٢٠٠٦. ففي ذلك العام كان التأجيج الطائفي على قدمٍ وساق في الإعلام العربي، وارتأينا أن نشكل تجمعاً أو مجموعة تحاول تدارك مثل هذه التحديات في سوريا مستقبلاً. اقترح الطيب علينا أن نبلغ أجهزة الأمن سلفاً عن اجتماعنا المقرّر كي نكون في مأمن من أية إجراءات قمعية بحقنا، فرفض بعضنا ذلك رفضاً قاطعاً، وعندما اقترحتُ إمكانية الترخيص من وزارة الشؤون الاجتماعية، ابتسم وقال “ستعود الى هناك، إلى الأمن، لتحصيل الموافقة، هم الدولة أولاً وأخيراً”، فـأجبته بأنه محق ولكن ليس علينا إعطاء الشرعية لمغتصبها، فردّ عليّ، “معك حق، ولكن تابع هذه الاجتماعات إذا استطعت.” وفعلاً لم نتمكن من الاجتماع مجدداً سوى مرةٍ واحدةٍ فقط قبل أن يتوقف كل شيء لمدة خمس سنوات حتى الانفجار الكبير عام ٢٠١١.
في هذا العام، تركت مشاركة الطيب في مظاهرة أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة بدمشق، رغم اقترابه من الثمانين من العمر، أثراً طيباً لدى شريحة مهمة من الناس ممن نظروا إلى الحراك الشعبي في تلك الفترة على نحوٍ مشابه لرؤية تيزيني المُنظر للمستقبل بارتكازه على الماضي والداعي بقوة للخروج من قوقعة الوضع الراهن لا للعودة إليها.
واستطاع الطيب من خلال مشاركته في مؤتمر اللقاء الوطني الذي عقد في منتجع “صحارى” في تموز/يوليو من العام نفسه برئاسة نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع أن يسجل موقفاً تاريخياً ويرفع من شأن اللقاء بدعوته علناً لتفكيك “الدولة الأمنية” وإطلاق سراح المعتقلين ووقف إطلاق النار. وكما جرت العادة شكل المؤتمر بحد ذاته ومشاركة تيزيني ومعارضين آخرين فيه نقطة خلافٍ أدت للمزيد من الانقسامٍ بين السوريين، فمنهم من اعتبر أنّ تيزيني قد قدم خدمةً كبيرة للنظام بحضوره، ومنهم من رأى أنه قد قدّم للحراك شيئاً مهماً ومطالب مهمة تسلط الضوء على جوهر الأزمة، والمتمثل في طبيعة السلطة الحاكمة ومنظومتها، لكن هذه المرة أمام أوسع جمهور ممكن، حيث غطى الإعلام السوري الرسمي وقائع المؤتمر آنذاك، في حين كانت لقاءاته السابقة تقتصر على بضعة عشراتٍ من السوريين.
وقد أدى قرار التيزيني المشاركة في هذه المؤتمر في حقيقة الأمر إلى نبذه من قبل السلطة ومواليها من جهة، والمعارضة المتمرسة في مواقعها والرافضة لأي حل سياسي تفاوضي في ذلك الحين من جهة ثانية، وبقي مع الطيب من يعرفه ويعرف صدق نواياه وحرصه على الدم السوري.
ويلاحظ المتتبع للقاءات الإعلامية والكلمات التي ألقاها الطيب تيزيني خلال السنوات الثماني الماضية أنه قد حافظ على نفس المقترحات الإصلاحية التي كان يدعو إليها، والتي كان يعتبرها الكثير منا مقاربةَ توفيقية، و عرف عنه أنه حتى في أحلك اللحظات، بقي يعرض أفكاره بهدوء، بينما كنا نحن نغلي من الغيظ والحنق في اللحظة التي كنا نستمع فيها إلى تراشق الرصاص. في أحد الأيام قال لي “هم يعملون وفق ما يعرفونه، ألا وهو التراشق بالرصاص، ونحن علينا ألا نتجاوز التراشق بالكلمات، وحتى الكلمات يجب أن تمر عبر الفلاتر حتى لا نبتعد عن بعضنا كثيراً، الدم الذي يُسفك هو أكبر الخنادق لمنع اللقاء بين الناس، عندما نسترخص الدم نسترخص الإنسان، وعندما يكون الإنسان رخيصاً يصبح البلد رخيصاً، وحتى نحن نفقد قيمتنا بين شعبنا”. وأتذكر في شباط/فبراير من العام ٢٠١٢ وأثناء حصار بابا عمرو والقصف العنيف الذي استمر لمدة أربعة أسابيع على الحي، أنّ تيزيني قد تحدث مع محطة البي بي سي وكان متوتراً ومنفعلاً يغصّ بدمعه وهو يتذكر الدم المسفوك وكم سيبعد هذا الدم بين السوريين.
أما اللقاء الأخير الذي جمعنا حول الشأن العام فكان في صيف ٢٠١٢ في بيته بمشروع دمر، حيث تواجد ممثل لبعثة الأمم المتحدة التي كانت في سوريا يومها برفقة عبد العزيز الخير، الذي اختطف في أيلول ٢٠١٢، كما تواجد هناك بعض السوريين من المعارضة والموالاة، وقد دعيت وقتها بسبب مطالبتي بتأمين وقف إطلاق النار لتأمين خروج المدنيين من حمص القديمة إلى حي الوعر، بعد ذلك تتالت اللقاءات في مدينة حمص والتي غلب عليها الطابع الشخصي دون أن يفارقنا الحديث عن المأساة السورية اليومية حتى تدهور وضعه الصحي في العام ٢٠١٨.
أخيراً أقول تحية لذلك الرجل الذي حلم وسعى بكل إمكانياته لتحقيق أفضل ما لسوريا لتجد مكاناً لها في المستقبل وليس في الماضي تحية لروح الطيب وكل الطيبين.
[يغاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتغاون مع "صالون سوريا"]