"أرواح عربية" هو عنوان سلسلة ندوات خاصة بالعالم العربي، تقام للعام الرابع على التوالي، ضمن البرنامج الرسمي لمعرض تورينو الدولي للكتاب الذي اختتمت أخيراً دورته الثانية والثلاثون، وقد خصّصت لقاءاتها هذا العام لرسم صور عن مدن عربية مختلفة في المخيال الأدبي هي: الجزائر، وحلب، وبيروت، والموصل، والقدس. وقد حلّ الشاعر الفلسطيني نجوان درويش ضيفا على لقائها الختامي جنبا إلى جنب مع سيموني سيبيلو، الناقد الإيطالي والباحث في جامعة كا فوسكاري، فينيسيا، وذلك في إطار تقديم أنطولوجيا الشعر العربي المترجم إلى الإيطالية "في الحرب لا تبحثوا عني" الصادرة عن دار "لومونيي ـ موندادوري" (2018) والتي ضمّت ترجمة قصيدة للشاعر بعنوان "حكاية صغيرة عن إغلاق البحر"، تُرجمت إلى الإيطالية من مجموعته الأخيرة "تَعِبَ المُعلَّقون" (2018).
وقد استهل المترجم والناقد الإيطالي الندوة بالحديث عن رمزية المدن في المخيال الأدبي، لا سيما إن تعلّق الأمر بجغرافيات مشحونة بالمقدّس وانفعالات التاريخ على غرار مدينة القدس.
وفي سؤالٍ لدرويش عمّا يعنيه أن تكون كاتبا مقدسيا ينتمي إلى مكان غير قابل للاختزال في إعلانات الانتماء والمطالب الهوياتية، وكيف لأي شاعر أن يقيس نفسه بفضاء الكل واللا أحد في آن. أكد نجوان درويش بداية على ضرورة اختيار مصطلحات دقيقة في تسمية الواقع فالقدس بتعريفه مدينة فلسطينية محتلة تتعرض لاستيطان استعماري، مضيفاً أنه طالما تجنب الحديث المباشر في أمرين، الأول هو الشعر الذي أحرى بالشاعر أن يكتبه بدل أن يتحدث عنه والثاني هو الحديث المباشر في السياسة. ليشبّه بعدها العيش في مدينة القدس بالعيش مع جدّة يجري حقنها بالسرطان منذ سنوات، فلا هي تموت ولا هي تشفى، لكنها وبالرغم من آلامها فهي تبدو متهكمة وساخرة، ومتعالية على سرطان الاحتلال.
ليتوقف هنا المترجم الإيطالي على موقف درويش من تهويد مدينة القدس ومحاولة خلع المكون العربي الإسلامي عنها، ليجيب الشاعر الفلسطيني على أن المشاريع الاستعمارية لا مستقبل لها في أي مكان في العالم، وشدد على أن وجهة نظره هذه لا تنبع بالضرورة من موقف وطني، وإنما هو موقف يعكس منطق التاريخ، وحيث أنه وعلى مدى 1400 سنة، منذ دخلها عمر بن الخطاب، لم يتجرأ أحد على احتكار مدينة القدس التي طالما كانت مدينة متعددة تحتضن العالم بأسره لتتحول الآن إلى مكان مسلوب قائم على فكرة فوقية ومشروع استعماري عنصري.
وبالعودة إلى صورة القدس في الشعر وثيمة الفقدان وربطها بفكر التحرّر والانعتاق، بالإضافة إلى علاقة الشاعر بالمكان وهو موضوع خصص له سيموني سيبيليو في الأنطولوجيا التي أشرف على ترجمتها رفقة باحثين آخرين، مقالة نقدية بعنوان "الفضاءات والأمكنة في المتخيّل الشعري العربي الجديد"، أجاب نجوان درويش أن الكتّاب لا يملكون المدن والبلدان، وأن القدس حاليا ليست هي الأيقونة التي تداعب المخيلات كما يتم عادة تصويرها في الشعر، وإنما هي اليوم مدينة مستعمَرة مشوَّهة ممنوعة عن أهلها، الذين هم أقرب إلى قرابين، كما في المقطع الذي قرأه من إحدى قصائده: "وَقَفْنا على الجبل/ لنَرْفَعَ لكِ الأُضحية/ وحين رأينا أيدينا تَرْتَفِعُ فارغةً/ عرفنا أننا أُضحياتك". وأكد درويش، بالرغم من كونه يمثل وجهة نظر فلسطينية مقاوِمة، أنه لا يرى نفسه في فكرة الانتماء بمعناها الضيّق إذ أنه طالما نَفَر من خطابات "المنتمين" على اختلافهم، لكنه يجد نفسه ويجد عمله الشعري الآن وللمفارقة في خضم التعبير عن فكرة الانتماء للمكان والدفاع عنه، فعمل الشاعر – كما يوضح درويش – قريب إلى طبيعة عمل المؤرِّخ ودون أن يقصد، فالشاعر يؤرِّخ ويشهد على أحداث زمنه، بل وعلى أحداث أزمنة سابقة تركت ندوبها على وجه الحاضر، حين يعيد قراءتها ويواجه السرديات المهيمنة.
ويعرّج الشاعر بعدها على مجموعته الأخيرة "لستَ شاعراً في غرناطة" (صدرت بالعربية والإسبانية عن منشورات "سونومبلوس" في غرناطة، 2018) حيث اعتبر سقوط هذه المدينة لحظة تراجيديا كبرى في تاريخ الإنسانية، ليصنع بذلك توأمة رمزية بين مدينتين ينتمي إليهما على صعيد التاريخ والجغرافيا، غرناطة والقدس، فهو عند زيارة الأولى، لأول مرّة، شعر بشيء من الغربة كالتي يشعر بها في القدس المحتلة، حيث حياة الإنسان الفلسطيني مستهدفة في كل لحظة. وكشف درويش هذا الأمر مصرّحاً بخشيته من أنه لم يعد يستطيع العيش في فضاء أو مكان طبيعي بعد اليوم، وربما أصبح الشعر هو المكان الأوحد له كما في واحدة من قصائد مجموعة "غرناطة": "عشتُ في بلدٍ يسمّى الأغنية/ مغنياتٌ بلا عدد منحنني الجنسية/ ملحّنون من جميع الأصقاع/ ألّفوا لي مدناً بصباحاتٍ وأمسيات/ وكنتُ أتنقّلُ في بلدي/ مثلما يتنقّل إنسانٌ في جميع الأرض... بلدي الأغنية/ وما إن تتوقف حتى أعود لاجئاً".
في ذات السياق عاد سيموني سيبيليو إلى الرحلة الأخيرة التي حملته إلى مدينة القدس المحتلة، حيث جمعته بالشاعر شرفة ذات إطلالة بانورامية على "جبل الزيتون"، شاهد فيها قدسا ذات طوبوغرافيا ممزقة ترن فيها أسماء المواقع بنشازِ واقعين متصارعين. وهي طوبوغرافيا صنعها المستعمِر على نحو يناقض بشكل جذري فكرة الوحدة الروحية التي يفترض أن تمنحها إياها رمزيتها الدينية.
هذا وتخلل الندوة قراءات شعرية باللغتين لقصائد مختارة للشاعر ترجمها سيبيليو إلى الإيطالية وتفاعل معها جمهور غفير، لاسيما قصيدة "لم يعد لنا ما نضيِّعه" حيث يقول: "دعي رأسك على صدري واسمعي/ طبقاتِ الخرائب وراء "المدرسة الصلاحية"/ اسمعي البيوت المبقورة في "لِفْتا"/ اسمعي المطحنة المهدومة ودرس القراءة/ في الطابق الأرضي من المسجد/ اسمعي أَضواء الشُّرفات/ تُطفأ لآخر مرّةٍ / في أَعالي "وادي الصَّليب"/ اسمعي الحُشود تجرُّ أَقدامها/ اسمعيها وهي تَرْجِعُ/ اسمعي الأَجساد تُرمى/ وتتنفّسُ في قاع طبريّة/ اسمعي كأَنّك سمكةٌ في بِرْكةٍ/ يحرسها ملاك/ اسمعي سِيَر الفلاحين "مُهَدَّبَةً" مثل الكوفيّات في القصائد/ شكوى المغنيات حين يَهرمن ولا تَهْرم أَصواتهن/ اسمعي/ خطى النصراويّات يقطعن المَرْج/ واسمعي "الجَمَّال" لا يكفُّ عن تعذيبي/ اسمعي اسمعي/ ودعينا نتذكّر سويةً/ ثم ننسى كلّ ما سمعتِ...". إلى أن يقول: "ضَيَّعْنا في الحُبّ رأسينا/ ولم يعد لدينا ما نضيِّعه".
وهنا يشير سيبيليو إلى أن زخم الصوت الشعري لنجوان درويش ينبع من قدرته على السخرية المشوبة بيأس من المُعاش، واليومي الذي لا تني رقعته الجغرافية تضيق، ومعها الحق الفلسطيني، حيث شدد المترجم الإيطالي على أن حلول نجوان درويش، ضيفا على معرض الكتاب بتورينو، وهو الحدث الثقافي السنوي الأبرز في إيطاليا، بوصفه أحد أهم الأصوات الشعرية في العالم العربي، يندرج ضمن مساعي ترسيخ قيم مناهضة العنصرية والفاشية، من حيث أن درويش يجسّد صوت المقاومة في أحد أهم المعارك شراسة ضد الاضطهاد في هذه الحقبة.
حكاية صغيرة عن إغلاق البحر
نجوان درويش
حين تَدْخُلُ ذلك الشارع، على طَرفِ المدينة
الذي يُوصِلُ للمخيَّم
إِنْ وجدتَ أطفالاً في خروجهم من تلك المدرسة التي تُشبه السجن
إِنْ وجدتَ سبعةً منهم يقفون على عتبة الصمت ويراقبون
إِنْ رأيتَ طفلاً نحيلاً وعينين تلتمعان بكلِّ ذكاء الأرض
تكون قد عثرت على صديقي "تيسير".
إِنَّ لأهله بلداً سُرقت في وَضَحِ النهار
ويُمكنك أن تَلْحَظَ يقظةَ عصافيرها في عينيه القلِقتين
كما أنَّ بيوتَ الإسمنتِ
وذكرى الصَّفيحِ
والأصواتِ المخيفةَ لـ لاسلكي جيشِ الاحتلال أثناء أسابيع "مَنْع التجوّل"،
كلُّها لم تُنْقِص ذرّةً من التماعِ عينيه.
كان رأى البحر مرّة واحدة ولا شيء يمكن أن يُقنعه ألّا يذهب إليه ثانية.
في أيام منع التجوال الطويلة كانوا يُصبِّرونه بالوعود: "حين يُرفع مَنْع التجوّل سنأخذك إلى البحر".
وحين رُفع "مَنْع التجوّل" أخيراً ذات عشيّة، قالوا له: "البحر مغلق الآن، اذهب للنوم".
ليلتها لم ينم وهو يتصوَّر عجوزاً
يُغلِقُ البحرَ بإنزال لوحٍ كبير من الصّفيح يمتدُّ من نجمةِ الأُفق إلى رمل الشاطئ
ويُحكِم إغلاقه بقفلٍ كبير (أكبر من قفل دكّان والده في شارع عمر المختار)
ثُمَّ تخيَّل العجوزَ عائداً إلى بيته.
حين تَدْخُلُ ذلك الشارع على طَرفِ المدينة
الذي يُوصِلُ للمخيَّم
إنْ لمحتَ عينين تلتمعان بكلِّ ذكاء الأرض
اسألهما أرجوك إنْ كان البحر في غزة قد "فَتَحْ"
أم ما زال مُغلقاً.