بينما ما زالت بقايا النظام السابق تطلق على ما حدث في مصر لفظ «حركة» أو «فورة»، نجد أن الإعلام الرسمي قد طور خطابه ليصفها بأنها ثورة، ولكن دائماً ما يضيف إليها لفظ آخر مثل الشباب، الانترنت، أو كما حلا لبعض المحللين أن يصفوها بثورة الطبقة الوسطى. مع التقدير الكامل لكل هذه الفئات والطبقات والأدوات ودورها البارز في ثورة يناير، إلا أن هذه الإضافة - لتكون الثورة مكونة من مضاف ومضاف إليه - فيها انتقاص شديد من حق الكثيرين ممن شاركوا فيها، والذين عملوا لسنوات طوال من أجل هذه اللحظة. وإذا كان سر نجاح هذه الثورة يكمن في الحشد الشعبي وتزايده يوماً بعد يوم، وقدرته على الضغط المتواصل على النظام وباقي الأطراف الداخلية والخارجية حتى حقق نصره، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقتصر الثورة على طبقة أو فئة بعينها.
فالشباب، الذي دعا ونظم عبر الفيس بوك و التويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية، قد حرك مجموعات كبيرة من الشباب، وهي خاصية لأي ثورة، فأي ثورة دائماً ما يكون في صدارتها الشباب، حتى لو كان هناك رمز أو قائد خلفهم، يظل الشباب في كل الثورات التي عرفها التاريخ هم صانعوها، والذين يدفعون الثمن الأكبر على الأرض. ولكن في الحالة المصرية، هؤلاء الشباب ليسوا من الخلفيات نفسها، فقد رأينا في الأيام الأخيرة من يتحدث منهم في وسائل الإعلام عن ضرورة عودة الاستثمارات الأجنبية وتشجيع رجال الأعمال المنتجين، وسمعنا آخرين ينادون بمجالس عمالية، والمدهش بشدة أن نسمع عن تكوين حزب يضم هؤلاء الشباب معاً، فالحزب هو كيان سياسي يجب أن يتوفر بين أعضائه حد أدنى من التوافق في الرؤى. فهؤلاء الشباب ظهروا في حركات سياسية أو على الأقل تربوا على فكر سياسي له تراث طويل؛ كما أن الحركة الاحتجاجية في مصر- والتي عادت إلى الشارع مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في مطلع هذا القرن - ومن بعدها حركة كفاية والحركات السياسية الموازية، وما تلاها من حركات الاحتجاج الاجتماعي التي شهدتها مصر على مدار السنوات الأربع الأخيرة، كان معظمهم حاضرين فيها. أما هذه الجماهير الصامدة في التحرير لمدة 18 يوماً فلم تكن قاصرة على الشباب فحسب، وإنما امتدت لتشمل مختلف الأجيال، ومختلف الطبقات، بل أكاد أن اجزم أن الغالبية -وخاصة التي تحملت عنف النظام بعد تحرير الميدان ودافعت عنه أمام فلول النظام والبلطجية - لم تكن من الطبقة الوسطى وإنما من الطبقات الأقل. إضافة إلى أن أحد عوامل الحسم لصالح الثورة كانت بعودة الطبقة العاملة بمعناها الواسع، العمال والموظفون إلى مواقع عملهم ونقلهم للثورة إلى هذه الأماكن في يومي الأربعاء والخميس الأخيرين قبل رحيل مبارك، ولذا فإن هذه الثورة هي بلا جدال ثورة شعبية ساهم فيها الجميع من مختلف الطبقات والفئات، ويعد انتقاصاً من قدرها العظيم بأن توصف بأي وصف غير «ثورة شعبية».
من المغالطات التي تتعدى الإعلام لتصل إلى النخبة فيما يخص هذه الثورة هو القول بأن هذه الثورة قد أسقطت شرعية يوليو، إذ أنها أسقطت النظام القائم منذ ذلك التاريخ، والذي يستمد شرعيته من ثورة 1952. في الحقيقة يعد هذا من وجهة نظري، تبسيطاً مخلاً، فالشعارات التي رفعتها ثورة يناير منذ اليوم الأول، شديدة الشبه بتلك التي أسست عليها ثورة 52 شرعيتها، خاصة فيما يتعلق بشعار العدالة الاجتماعية. ومن يراجع أهداف ثورة 52 الست يجدها شديدة الشبه بالمطالب المرفوعة من جانب ثورة يناير، خاصة تلك المتعلقة بالقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة ديموقراطية سليمة، وإقامة عدالة اجتماعية. وحتى القضاء على أعوان الاستعمار، فالعديد من الشعارات التي رفعت والهتافات التي ترددت في أرجاء ميدان التحرير كانت تتهم الرئيس المخلوع بأنه عميل لأميركا أو إسرائيل.
فكرة التقاء الشرعية الشعبية مع شرعية القوات المسلحة في الحالة الأولى بتحرك من الجيش أيده الشعب، وفي الحالة الثانية بتحرك شعبي سانده الجيش، وفي الحالتين تم رفع شعار «الجيش والشعب يد واحدة». فما حدث بالفعل هو استعادة لشرعية يوليو التي تم اختطافها منذ سبعينيات القرن الماضي لصالح شرعية جديدة، بدأت بعد حرب أكتوبر وتكرست بعد معاهدة السلام، وهي شرعية يحب مناهضوها أن يسموها شرعية كامب ديفيد ويفضل مناصروها أن يطلقوا عليها شرعية الحرب والسلام، فكلا الرئيسين اللذين حكما تحت هذه الشرعية الرئيس السادات والرئيس مبارك كان قد تم منحهما لقب بطل «الحرب والسلام» وظل الإنجاز الأساسي للأول انه قائد حرب أكتوبر وصاحب مقولة إنها آخر الحروب، وظل للثاني من وجهة نظر مناصريه أنه صاحب الضربة الجوية في ذات المعركة والذي حفظ مصر على مدار السنوات الثلاثين من حكمه من خطر وشرور الحروب، متجاهلين أنه في عهده دفعنا دماء أبنائنا في حرب الخليج الثانية مقابل مزايا اقتصادية. وأخيرا لافت للنظر التشابه الشديد بين أول شعار رفع بعد نجاح الثورتين وكان مضمونه «إرفع رأسك».
*عن السفير