[ بمناسبة مرور عامين على اندلاع الثورة السورية، توجّهت "جدلية" إلى عدد من الكتاب السوريّين بحزمة أسئلة تنطلق من مقولة فانون حول العنف ودوره في التغيير الثوري. تقارب الأسئلة جدلية العنف والسلم في التغيير السياسي. فتقف عند مفهوم الثورة السلمية وإمكانية تحقيقها على أرض الواقع. كما تتعرض إلى العنف كوسيلة للتحرّر، خصوصاً من نظام حكم استبدادي. والمدى الذي تفرض فيه طبيعة الحكم وسائل مقارعتها ومقاومتها. والسؤال المحوري: ما العمل؟]
- أعتقد أن نجاح الثورات في تحقيق مرادها بالشكل السلمي، لا يرتبط فقط بالنهج الذي يعتمده الثائرون، الأمر أيضاً مرتبط وبشكل وثيق بطريقة استجابة السلطة وتعاطيها مع مطالب التغيير. إذا حدث واستجابت السلطة بطريقة تسهل من عميلة التغيير وانتقال السلطة، حتى وإن أبدت أشكالاً معينة من الممانعة لهذا التغيير، فإن فرص نجاح الثورة سلمياً تكون مُحققة، عبر اعتصامات وتظاهرات وحشود وإضرابات نقابية وعمالية. وحتى إن لم تظهر السلطة رغبة طوعية بالاستجابة لمطالب التغيير ولكنها على الأقل امتنعت عن استخدام العنف المفرط في مواجهة هذه المطالب، فإن فرص وسائل الاحتجاج السلمي تبقى كبيرة بإنجاح التغيير. نجد نماذج لهذا في حركات احتجاجية نجحت في دول أوروبا الشرقية إبان انهيار المعسكر الشرقي.
الاحتمال الثاني هو بحصول تخلخل أو أشكال من الصراع تمهد لانقلاب داخل السلطة نفسها، وبطريقة تحتوي العنف – إن تفجر - داخل دائرة السلطة فقط. وهو النموذج الذي تدفع فيه مطالب التغيير الشعبية الضخمة بعض أركان السلطة لتغيير موقعها أو للانحياز بشكل براغماتي لمطالب التغيير. وهذا نموذج قريب لما حصل في بدايات الربيع العربي في تونس ومصر وبطريقة مشابهة نسبياً في اليمن. حيث انحازت مؤسسة الجيش في تونس ومصر وبعد ضغط شعبي واسع لرغبات التغيير وتخلت عن رأس السلطة. فيما انقسم الجيش في اليمن، ودار صراع داخل عشيرة الرئيس. ومثل هذا السيناريو لا يأتي أحياناً كنتيجة لتصاعد الضغط الشعبي فحسب، وإنما أيضاً كنتيجة لضغط دولي أو توجيه رسالة صارمة وواضحة من المجتمع الدولي. في حينها تكون احتمالات الانشقاق أو الانقلاب ضمن مؤسسة السلطة نفسها أكبر، وبالتالي تتمكن الثورة من المضي سلمياً. (في سوريا مثلاً لم يتوفر هذا العامل، بل على العكس،لم تشعر الرسائل المتناقضة والمتخاذلة من المجتمع الدولي، والإشارات المتواطئة من قبل دول المفترض أنها عدوة كإسرائيل مثلاً، لم تشعر أطراف في النظام بجدية الضغوط للخلاص منه، وهو في تقديري ما أطال تماسك الحلقة المقربة منه).
اختصاراً، أعتقد أن إصرار الثائرين على الالتزام بأشكال الاحتجاج السلمي، لا يكفي فقط لإنجاح ثورة جذرية وشاملة، إن لم تأت استجابة السلطة بأحد الأشكال المشار إليها سابقاً. وأعتقد أنه من الإجحاف القول، إن اللجوء إلى أشكال المقاومة المسلحة لإحداث التغيير، هو مجرد وقوع في فخ يضعه النظام الحاكم. يجب التذكر دوماً أن الثورات ضد أنظمة شمولية ومستبدة وهائلة القمع، تأتي على شكل انفجارات شعبية مفاجئة وحتمية، ولا تكون نتيجة لتحضيرات تشرف عليها نقابات أو تنظيمات سياسية معارضة، والتي هي في الغالب إما مسحوقة تماماً أو غير موجودة بالأصل (المثالين الليبي أو السوري). وبالتالي فإن حركات شعبية ضخمة وممتدة أفقياً عبر البلاد المُقطعة الأوصال بالهيمنة الأمنية والعسكرية، لا يمكن إلا أن تستجيب وبأشكال متفاوتة ومختلفة بحسب ظروفها لأشكال القمع الممارسة عليها، وهي بالتالي تطور أدواتها باستمرار لمجابهة تصعيد النظام القمعي على مطالبها المشروعة بالتغيير، وفي إحدى المراحل تتنقل إلى أشكال المقاومة المسلحة، وهو انتقال يكون حتمي في الغالب.
[هل هناك طرقٌ لم تُسلك في سوريا؟ هل كان الإصلاح ممكناً؟ هل كان مرغوباً؟]
- الشق الأول من هذا السؤال، يعتبر واحداً من أكثر الأسئلة التي يرددها الناشطون السوريون على أنفسهم بعد سنتين من الثورة. والسبب في حقيقة الأمر لا يعود إلى تزعزع الإيمان بضرورة الثورة، بقدر ما يعود إلى الرغبة بعدم تصديق كمية الدماء التي أريقت وحجم الدمار والخراب الذي أصاب البلد.
أعتقد أن المنتفضين في سوريا، وتحديداً على مستوى الشارع والحراك الثوري، قد أظهروا صبراً وصموداً مذهلين (ومازالوا)، ولم يهملوا أي طريق قد يؤدي إلى انتقال أسهل وأسلم للسلطة، رغم انتقال قطاعات واسعة منهم لاحقاً إلى العمل العسكري. لنتذكر بأن السوريين وحتى أوائل آب 2011، وبعد نصف سنة من اندلاع الثورة، كانوا ملتزمين على اختلاف مناطقهم ورغم عدم وجود مظلة سياسية موحدة تمثلهم، بأشكال الاحتجاج السلمي. (وقد جاء ذلك باعتراف صريح لبشار الأسد في أحد خطاباته). في حينه مثل اجتياح حماة نقطة فاصلة، تصاعد بعدها اللجوء إلى العمل العسكري. إلا أن الذراع العسكري لم يشتد عوده ويصبح هو سمة الثورة الأولى، حتى نهاية الربع الأول من العام 2012. وحتى حينه لم يدخر الثوار في الداخل مع امتدادهم عبر سوريي الخارج، جهداً في ابتكار أدوات المقاومة المدنية، وفي تقديم مقترحات للانتقال السلمي إلى مرحلة جديدة.
في المقابل، النخب السياسية المعارضة قصرت في أمور شتى، أولها في توحيد جهودها في إطار مظلة شاملة وفاعلة، دون أن يعني هذا بالطبع أن تصهر خلافاتها حول تفاصيل مختلفة عنوةً، وإنما على الأقل إيجاد جسد واحد متنوع الطيف ذي آليات فاعلة وواضحة. كما أن جزءاً من المعارضة يلام على عدم التقاط إشارات (بدت في حينه واضحة) حول عدم وجود نية في تدخل عسكري خارجي، وبالتالي فقد أدخلت نفسها في بعض الأوهام التي أضاعت الكثير من الوقت والجهد. فيما يلام جزء آخر على تمسكه بمواقف متعالية وواعظة تجاه الشارع الثائر، وتحديداً فيما يخص اللجوء المشروع إلى خيار المقاومة المسلحة، وصرف جزء كبير من الجهد على معاداة كتل معارضة أخرى وتحويلها إلى خصم موضوعي بديل للنظام. كما أن جهوداً إضافية كان يمكن بذلها من قبل عموم الكتل المعارضة على صعيد بناء جسور أقوى مع بعض الجماعات التي تعتقد بأنها ستكون معرضة للتهديد إذا سقط النظام. عموماً فإن حتى هذا القصور في أداء المعارضة السياسية، بحسب اعتقادي، لم يكن له وزن كبير في إمكانية تغيير مجرى الأمور وتجنب حجم الدمار الهائل الذي نقف أمامه اليوم، وإن كان تلافيه، لو حدث، كان سيدفع عجلة الثورة بشكل أسرع.
حقيقة الأمر أن الطرق التي لم تسلك في سوريا، والتي كان من شأنها توفير الكثير من الدماء والأهوال، هي طرق رفض النظام حتى النظر إليها. في كافة أطوار الأزمة حتى اللحظة، من الإصرار على وصف المطالب المحقة بالمؤامرة، إلى تعطيل مبادرة الجامعة العربية، وصولاً إلى دفع البلاد إلى أن ترتمي في أحضان التدخلات الخارجية. كانت الطرق متوفرة لو أراد النظام. بدأت بالاستجابة السريعة والناجعة لمطالب إصلاحية جذرية في الأسابيع الأولى، وصولاً إلى تسليم السلطة وتنظيم عملية انتقال سهل لمرحلة جديدة. وحدها هذه الطرق التي لم تُجرب في سوريا، ووحدها كانت ستحقن الدماء والفوضى.
- أما الشق الثاني من السؤال: هل كان الإصلاح ممكناً؟
يسود الاعتقاد أن قسماً كبيراً من السوريين كانوا سيعودون إلى منازلهم لو استجاب النظام للمطالب الإصلاحية التي راجت في الأيام الأولى للثورة. ولو أظهر رغبة جدية في تغيير بعض سياساته وتحديداً على مستوى التعاطي الأمني، وعلى صعيد السياسات الاقتصادية. لا أستطيع الجزم حول صحة الأمر، وبخاصة بوجود كُثر كانوا تواقين لانطلاق شرارة الانتفاضة حتى ينضموا إلى نادي الثورات التي لا تتحقق إلا بإسقاط النظام. ولكني أميل إلى فرضية تقول: أن استجابة النظام الفورية والفعالة للمطالب الإصلاحية في البداية، كان من شأنها أن تُخمد شرارة الثورة في المهد. لا يتعلق الأمر بقناعة السوريين الحقيقية بأن هذه الإصلاحات ستحيل حياتهم إلى أحوال من الرخاء، لكنهم كانوا سيعللون النفس بالتخلي عن المضي في طريق كانوا يعلمون أنه سيكون دموياً ومؤلماً. السوريون يعرفون نظامهم جيداً، وكانوا على دراية أن اقتلاعه بالقوة سيكون عملاً مُضنياً، وبالتالي لربما ارتضوا بالمكاسب الإصلاحية، على أمل خوض نضال طويل وبطيء لإحداث تغييرات على مستوى البنية السياسية، دون أي ضمانات بالطبع أن هذا سيحدث حتى بعد عقود.
بكل الأحوال هذا لم يحدث البتة، فلم يبدِ النظام أي مرونة أو أي رغبة في تقديم تنازلات ولو بسيطة. في حقيقة الأمر أعتقد أن الأمر منطقي للغاية. النظام السوري بوصفه نظام استبدادي، شمولي، بنى ركائزه على تحالفات اقتصادية وطائفية محسوبة بدقة شديدة. واشتغل لعقود على أسطرة رموزه، وترسيخ وجوده بأدبيات إيديولوجية تم تعميمها قسراً (حزب البعث)، وأضاف لاحقاً في عهد الأسد الابن، انتهاج سياسات نيوليبرالية لصالح طغمة مقربة ازدادت قوة وثراء، مع عدم إجراء أي تعديلات أساسية في عقليته الأمنية. كل هذه المكونات تجعل من المتعذر حقاً على النظام إجراء أي إصلاحات جذرية. على العكس من السائد باتهام النظام بالغباء لانتهاجه سياسة أمنية ومن ثم أمنية عسكرية لقمع الثورة، أعتقد أن النظام تصرف بالطريقة الوحيدة التي يجيدها ويعرفها وتنسجم مع بنيته، لا يتعلق الأمر بالذكاء أو الغباء! على عكس مصر وتونس وغيرها، لا يمكن هنا فصل رأس النظام وإعادة تكوين الجسد بما تبقى. في سوريا هناك تداخلات عضوية وعميقة بين رأس النظام وجسده، عبر العائلة والطائفة ورأس المال وأجهزة الاستخبارات والجيش. إضافة إلى تغول غير مسبوق للنظام على الدولة ومؤسساتها. النظام في سوريا ابتلع الدولة وهيمن على مفاصلها. يدرك النظام قبل غيره أن أي تنازلات أو إصلاحات حقيقة، تعني تفكيكه تدريجياً وبشكل سريع، وعليه فهو لم ولن يقوم بأية إصلاحات جذرية. حقيقة بات السوريون يعرفونها اليوم كما العالم، وعليه فهم يعلمون أن لا طريق سوى باقتلاع النظام إن كان هناك بصيص أمل في أن تنهض سوريا من جديد، لتكون دولة ديمقراطية وحديثة، دولة مؤسسات حقيقية.
[هل تجعل طبيعة الحكم الاستبدادي في سوريا العنفَ الطريقة الوحيدة لإنهاء الاستبداد وهل هذا هدف ملائم في حد ذاته أم هل يجب أن يكون هناك برنامج سياسي ثوري؟]
- الحقيقة أن أجزاء من الإجابة على هذا السؤال، وتحديداً فيما يخص حتمية استخدام القوة لإنهاء الاستبداد، قد أوردتها مسبقاً في إجابتي على السؤالين السابقين، وبخاصة كيف أن هذا الاستخدام جاء تدريجياً، ووفق ظروف موضوعية تبلورت مع تصاعد عنف النظام المُمنهج. هناك كم معتبر من الكتابات والنقاشات والتحليلات التي رصدت الظروف والأسباب التي دفعت بشرائح واسعة من المدنيين (الذين انخرطوا أولاً في الحراك السلمي) إلى حمل السلاح إلى جانب المنشقين عن الجيش (هؤلاء شكلوا أولاً نواة العمل العسكري المناهض للنظام).
تنوعت الآراء ومن قبل مراقبين غير سوريين، بين فريق يرى العمل العسكري ومنذ البداية بوصفه الخيار الوحيد في مواجهة نظام كالنظام السوري، (جلبير أشقر مثالاً). وفريق يرى أن تطور الحراك الثوري، واستناداً على ظروف الواقع العياني قد أوصل السوريين إلى هذه المرحلة وهو أمر طبيعي (فواز طرابلسي مثالاً). وفي التحليلين هناك قبول بحتمية هذا الخيار كرأس حربة في معركة السوريين لاقتلاع الاستبداد.
من نافل القول الحديث عن أن الخيار العسكري ليس غاية بحد ذاته، ولا يجب تنزيهه من كل انتقاد. هناك تحديات جسيمة تترتب على الحل العسكري، منها التعامل مع حملة السلاح مستقبلاً وضرورة خلق آليات لاستيعابهم، وهذا يفتح الباب على موضوع إعادة تشكيل جيش وطني جامع. في هذا المجال لا شك لدي بأن كثيرين ممن اضطروا لحمل السلاح سيكونون سعداء بالتخلي عنه عندما تنتفي الحاجة له. حتى اليوم يمكنك التواصل مع عديدين من حملة السلاح التواقين لاستئناف حياتهم كطلبة جامعيين أو حرفيين أو مهندسين ..الخ، هؤلاء ليسوا قلة.
من ناحية أخرى، من غير الإنصاف القول بغياب تام لبرامج سياسية ثورية، فالسوريون ومنذ الأيام الأولى توافقوا على مبادئ ثورية، صالحة باعتقادي لتكون أركاناً لبرامج سياسية ناضجة، هناك مجموعات حراك ثوري ومنذ مراحل مبكرة، وضعت برامج سياسية أو حتى خارطة طريق متكاملة لانتقال السلطة (لجان التنسيق المحلية مثالاً)، وهناك برامج سياسية لفصائل معارضة، أخرها كان وثيقة القاهرة للائتلاف الوطني. وهنك أوراق ومقترحات عديدة تم وضعها، تحمل تصوراً لسوريا المقبلة وتتطرق للشأن الاقتصادي والحقوقي إضافة إلى الشأن السياسي وشكل الدولة المُقبلة . الأدق ربما القول بعدم وجود إجماع على برنامج سياسي واحد من قبل جميع الثوار على اختلاف مناطقهم وأدواتهم، لأسباب متعددة ويطول شرحها هنا.
بالطبع أهم فوائد وجود مثل هذا الإجماع هو تنظيم العمل العسكري. تشكيل المجالس العسكرية والقيادة المشتركة بوجود الائتلاف الوطني كواجهة سياسية تنسق مع القيادات العسكرية كان فقط البداية. لكن هناك المزيد من العمل يجب أن يتم، لمواجهة تحديات أخرى إضافة إلى موضوع تنظيم السلاح لاحقاً، وهي مواضيع لا تقل أهمية، كضبط الممارسات الخاطئة لبعض الكتائب المقاتلة والتي تستغل شيوع العمل العسكري لتقوم بأعمال نهب وسرقة، أو أعمال عقابية وانتقامية. إضافة إلى موضوع شديد الخطورة وهو التعامل مع الفصائل الجهادية التي ربما ترفض الانضواء تحت برنامج سياسي ثوري موحد للعمل العسكري. بوجود برنامج سياسي موحد تتبناه المقاومة العسكرية، يتم معرفة حجم الفصائل الجهادية ووزنها، فكثير من الفصائل ذات الوجهة الإسلامية ليست بالضرورة منضوية تحت نفس توجهات فصائل جهادية متشددة كجبهة النصرة وكتائب الأنصار، وهو الأمر الذي لا يميزه الإعلام (الغربي منه تحديداً). إضافة إلى إمكانية استقطاب مقاتلين من هذه الفصائل، فهم في جلهم سوريين وليسوا غرباء قدموا من الخارج.
[ للإطلع على الأسئلة بالتفصيل وكذلك أجوبة بقية الكتاب يمكن الضغط هنا!]